في مقالة الاربعاء الماضي حدثتكم عن الاسكندرية التي حضرت فيها يوم الخميس الاسبق افتتاح الدورة الخامسة والعشرين لبينالي دول البحر المتوسط, ثم حضرت في اليوم التالي الجمعة افتتاح مؤتمر أدباء مصر الذي خصص دورته الاخيرة هذه للنظر في المشهد الشعري الراهن, فرأيت في هذا النشاط الحافل الذي التقت فيه مصر بأوروبا, واجتمع فيه الشعر والفن كأن الإسكندرية تعود أو تتهيأ لتعود الي سابق عهدها جسرا يربط بين مصر وأوروبا, وملتقي للحوار والتفاعل بين ثقافات البحر المتوسط من ناحية, وبين فن الشعر والفنون التشكيلية من ناحية اخري. واليوم أواصل حديثي عن الإسكندرية لكن من خلال رجل بالذات أري أنه جسد شخصية الإسكندرية فهو اسكندراني أصيل, لكنه مواطن عالمي. وهو شاعر حقيقي, ورسام حقيقي أيضا. اتحدث عن أحمد مرسي الذي لانعرف عنه الكثير, لا لأنه قصر في تقديم نفسه او اثبات جدارته, ولكن لان كل شيء عندنا الآن أصبح عرضة للنهب والاغتصاب والتزييف. الاماكن تنهب, والمقامات تغتصب والأسماء تزيف. والمواهب الحقيقية لاتجد من يلتفت اليها او يتعرف عليها ويعرف بها سواه. وأحمد مرسي حالة صارخة جدا, فهو ليس اسما جديدا, ولا موهبة محدودة, وإنما هو عمر مديد, ومواهب متعددة اجتمعت في رجل واحد. شاعر مجدد. اصدر ديوانه الاول أغاني المحاريب عام1949, أي منذ ستين عاما, وكان آنذاك في التاسعة عشرة من عمره. وأصدر ديوانه الأخير الحضور والغياب في خرائط الشتات هذا العام عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. وبينهما أصدر قطوف من ازهار, حقول الاسبرين ومراثي البحر الابيض, وكتاب مواقف البحر وجاليري يعرض صورا مسروقة. فضلا عن ترجماته من شعر إيلورا, وأراجون, وكفافيس, والشعراء الزنوج الأمريكيين. وليس عمله في الفن أقل, فقد أقام اول معرض للوحاته عام1958, بعد ان شارك في بينالي الإسكندرية في دوراته الثلاث الاولي. التي أقيمت في خمسينيات القرن الماضي كما عرضت لوحاته في لندن, وواشنطن, ونيويورك. وأحمد مرسي الذي جمع بين الشعر والرسم في نشاطه الفني جمع بين الشرق والغرب في حياته العملية. ولد في الإسكندرية وتربي في أحيائها الشعبية, وعاشر اهلها المصريين واليونانيين والايطاليين, حين كانت الإسكندرية وطنا جامعا لكل هؤلاء في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الماضي. وكما اتقن أحمد مرسي لغته العربية حتي نظم بها ديوانه الاول قبل ان يبلغ العشرين, أتقن اللغة الانجليزية التي درس آدابها في جامعة الاسكندرية وحصل فيها علي الليسانس, ثم انتقل إلي القاهرة ليشتغل بالترجمة, ومنها إلي بغداد, وكابول قبل ان يرحل الي نيويورك ليستقر فيها منذ اواسط السبعينيات. والجدير بالإعجاب حقا ان يتمكن أحمد مرسي من امتلاك كل ادواته علي اختلاف الفنون التي يمارسها, وأن يجمع شتات تجاربه المختلفة ومفردات عالمه المترامي ويحولها الي تجربة داخلية واحدة نلقاها في اشعاره كما نلقاها في رسومه فلا نحس ببعد أو تعارض أو أنقسام, ولاننتقل من حال الي حال آخر. انه ينظم قصائده كأي شاعر متفرغ للشعر وحده, ويرسم صوره كأي مصور متفرغ للتصوير. في الشعر لايلجأ للسهل, وإنما يجتهد في امتلاك أدواته والتحكم فيها. معجم غني, وذاكرة حاضرة, وأوزان صحيحة. أما في التصوير فقد تعلم من جورج براك, وبيكاسو, وأندريه بريتون. ووقف في مصر إلي جانب عبدالهادي الجزار, وحامد ندا. ثم انه لايكتفي بان يكون شاعرا حقيقيا في بعض الوقت ورساما حقيقيا في وقت آخر, وإنما يسعي دائما ليكون شاعرا ورساما في الوقت ذاته. نحن نراه يتحدث في شعره عن لوحات بيكاسو, وعن المتحف اليوناني الروماني في الاسكندرية, ومتحف المتروبوليتان في نيويورك وعن الاقنعة الافريقية, وابريق براك, ودم اوتريللو, وطيور برانكوزي وخوان ميرو. وهو في هذا الحديث لايصف ولايحكي, وإنما يحول القصيدة الي لوحة, ويستخدم الكلمات كما لو كانت موديلات وأشياء يضعها علي الصفحة بكل مالها من ثقل وحضور. اقرأ مثلا هذه القصيدة القصيرة التي صدر بها ديوانه الاخير, وسماها برولوج اي فاتحة او استهلال. يقول: أحجارنافرة تتساقط في صمت ودهاء محسوب من ذاكرتي كتل صماء تقل أجنة أخيلة جفت وقصائد لم تولد من قبل أو وئدت مع إرهاصات ضغوط الغربة تحت سماء الشعر بأرض تنبت صبارا وقتادا.. تنبت صورة خالقها حتي تعتاد الموت! انه هنا يتحدث عن نفسه لكن بلغة غير اللغة الغنائية التي يستخدمها الشعراء عادة, حين يتحدثون عن انفسهم مستخدمين ضمير المتكلم, وانما يحول مشاعره الي موضوع مرئي يقف علي مبعدة منه لكي يرسمه كأنه يرسم منظرا أو شخصا لايمت له بصلة. وكما يفعل في الشعر يفعل في التصوير. فالعناصر التي يؤلف منها لوحته ليست مرئيات حقيقية ولكنها افكار, أو هي صور انتزع أصولها من الواقع ثم اعمل فيها خياله وذكرياته فحولها الي رموز وإيقاعات. رؤوس مقطوعة, وعيون محملقة, وأجساد بلا رؤوس, وأثداء ريانة, وبحار وشطآن, وخيول تقف في جانب من اللوحة او في هامشها بعيدا عن مركزها, لابعد المكان عن المكان, ولكن بعد الزمان عن زمان آخر, بعد اللاوعي عن الوعي, أو بعد الحلم عن الواقع. والي الاربعاء المقبل لنكمل الحديث.