تظل صالات عروض اللوحات والتماثيل هي قاعات مجانية للعلاج النفسي، حيث يمكن للوحة مبدعة أن تحرك ركود أعماق المشاهد وتغسلها من أية كروب. أتذكر أني قلت ذلك للسياسي البارز حمدي عاشور أثناء وجوده كمحافظ للاسكندرية في الخامس عشر من فبراير من عام ،1968 وكان ذلك في صالة متحف الفنون الجميلة بالاسكندرية، وكان الرجل مشكورا قد حضر في اليوم السابق كمندوب لرئاسة الجمهورية في عزاء والدتي، وفوجيء في اليوم التالي بحضوري لحفل افتتاح بينالي الاسكندرية. وسألني الرجل بصراحة الصديق: هل حضرت مجاملة لدعوتي لك لحضور هذا البينالي؟ أجبت: بمنتهي الصراحة لقد حضرت لأني أؤمن بأن الفن هو أعظم ما يغسل أعماق الإنسان من الحزن والكرب، وإن كنت قد ودعت أمي بالأمس، فلابد أن اَتي كي أري ماذا سكان البحر الأبيض المتوسط، خصوصا أني متابع لهذا البينالي، ويسحرني فيه دائما وجود لوحات من إيطاليا وأسبانيا فضلا عن وجود العديد من مشاركة أصدقاء العمر، الكبار منهم والشباب. وكان سيف وانلي فنان الاسكندرية العظيم موجودا لا بشخصه فقط، ولكن بلوحاته أيضا، وكان هناك أيضا يوسف فرنسيس وهو من هو في اختراع الجميلة التي يمكن أن تشرب بعيونها أي اَسي من قلب الرجل، وهو من هو الذي لم يكن يرسم اللوحة، بل يزرعها فبعض من اللوحات عند يوسف فرنسيس تمر بما يمر به الإنسان من ميلاد وشباب وشيخوخة، والذي حقا هو من يأخذ اللوحة من بين يدي يوسف فرنسيس كي يقول له: أحب هذه اللوحة عند هذا العمر، وكثيرا ما قلت ليوسف ذلك فكان يغرق في الضحك. ومن بعد انتهاء حفل افتتاح البينالي السكندري في ذلك الزمان اتجهت إلي حديقة الورد بالاسكندرية كي أسمع القليل من الموسيقي الذي تعزفه فرقة أوركسترا صغيرة ولكنها مبدعة، وعندما تسمع الموسيقي بين فدادين من الورود فهذا أمر مثير للطمأنينة والثقة في أن الحياة مستمرة. أكتب ذلك بمناسبة زيارتي الأخيرة لبينالي القاهرة، هذا الذي أهداه الفنان الكبير أحمد فؤاد سليم فكرة فلسفية نادرة، توجز الزمان الذي نحياه بكل التطور فيه، فالصورة الاَن هي السيدة في الكون، بل كانت السيدة منذ الأزل، وقد بذل هذا الفنان من الجهد أكثر مما يتخيل أحد من اتصالات وتواصل مع مراكز الإبداع في العالم، ولكن غرق أبناء هذا الزمان من المصورين والرسامين والنحاتين في خزعبلات تسمي التجهيز في الفراغ، جاء بعديد من البشر ما كان يليق أن توجد أعمالهم، ويغفر لوجودها جناحان هما جناح إيطاليا وأسبانيا، فكل من الدولتين قدمتا تصورا وتطورا يسير بالفن للأمام، ولا يتوقف به عند هذا الضجيج المزعج للعين. تساءلت بيني وبين نفسي عن مقارنة بين المعرض الاستعادي الذي أقيم لستة من كبار الفنانين المصريين منهم أحمد فؤاد سليم نفسه، وقلت: أليس هذا المعرض الاستعادي كان أكثر جمالا وحيوية من كل البينالي القاهري، هذا الذي وهبه سليم فكرة نادرة؟ وكانت إجابتي بلي كان المعرض الاستعادي للفنانين المصريين الكبار أكثر قدرة علي شفاء النفوس من كروبها، وهو ما عجزت عنه العديد من مشاركات البينالي القاهري لهذا العام.