في قصر الفنون بالأوبرا هناك مهرجان فني اسمه "ترينالي الحفر"، وهو معرض عالمي تشترك فيه دول عديدة، وتستكشف اللوحات المرسومة آفاق اعماق البشرية، واللوحات المعروضة اكثر صدقا من كل كلمات الصحف، وجميع نشرات الاخبار، وتحكي حكايات غير عادية عن الوضع البشري، وكل ذلك معلق امامك علي الجدران، وحين تراه يمكن ان تنقذ نفسك من حالة الكرب المجاني الممنوح لنا جميعا عبر اهتزاز الكرة الأرضية بأطماع السيادة، ومذلة الرضوخ. نعم الفن التشكيلي والموسيقي والعمارة والآثار هي المجالات الاربعة التي يمكن ان تغسل الأعماق، وتجعلك قادرا علي عدم تناول المهدئات كي تقبل مرارة اليوم الذي تعيشه. وفن الحفر الذي يقام له هذا المهرجان العالمي لم يجد من نشرات الاخبار، ولا من مانشيتات الصحف اهتماما يمكن ان نشير اليه، علي الرغم من ان كل فنان من هؤلاء قد صال وجال في اعماق النفس البشرية او تأمل ما حوله ومن حوله وخرج بلوحة يعلم الله كم من الصعوبات قد خاضها هذا الفنان من اجل ان يضع امام عيونك لمسات من جمال تعيد لك ترتيب اعماقك بعيدا عن النزق المجنون الذي يدور حولك في الشوارع ودهاليز السياسة ودنيا الجشع غير المسبوق الذي يتسابق فيه البشر، فيضع كل إنسان - ولو بالخيال - دم أخيه الانسان في طبق الطعام. واذا كان قطاع الفن التشكيلي قد اشرف وأقام هذا المهرجان، فكثير من مهرجانات الفن البديع لا تجد اقبالا من الجمهور، اما لغرق البشر في تفاصيل التعذيب اليومي للحصول علي تكلفة الحياة، وإما لأن الإعلان لا يقوم بواجبه كاملا للفت انظار البشر الي حقيقة ما يمكن ان يهتموا بها كي تعلو قامة كل منهم فوق احزانه، فضلا عن ان الفنانين يتصارعون فيما بينهم علي الجوائز، وعلي علو المكانة، علي الرغم من ان كثيرا منهم له مكانة غير مسبوقة، بحكم ان كل واحد فيهم قد تعلم الحرفة المبدعة، ثم صار عالي القيمة بما ينتجه هو شخصيا. وفن الحفر ايها السادة، هو احد الفنون الصعبة للغاية، حيث يقوم الفنان برسم اللوحة التي يريدها اولا بالقلم الرصاص او الحبر، ثم يعيد حفر نفس اللوحة علي الزنك او الخشب او الجلد او الورق الحساس او القماش، وهو يفعل ذلك بحرفية ترتفع عادة الي مستوي مذهل من الدقة، ثم يطبع هذه اللوحة المحفورة علي الورق او القماش. وتبدو اللوحة كأنها "ختم" مطبوع علي الورق او القماش او الورق الحساس، وقد تم استنباط هذا الاسلوب في الفن التشكيلي من اجل ألا يأخذ شخص واحد لوحة الفنان ويحتفظ بها لنفسه، بل يمكن انتاج اكثر من نسخة من اللوحة الواحدة. وقد لا يتخيل احد قدر الصعوبة التي يواجهها الفنان من اجل الوصول الي اتقان هذا الفن، فهو يطلب من نفسه احترافا متميزا، يضع فيه طاقته الابداعية. وحين دعاني د.صلاح المليجي الاستاذ بكلية الفنون الجميلة لحضور هذا الملتقي الحي، شكرت له تلك الدعوة، وقلت له: إن تنظيم مثل هذا المهرجان هو علاج نفسي مجاني من مشكلات الكرة الارضية، وياليت البشر يهتمون بعلاج انفسهم بدلا من دفع مئات الجنيهات في علاج النفس من التشوهات التي تفرضها علينا الصراعات السياسية والاقتصادية العالمية والمحلية.