. قدم العربي الى الحكاية الروائية الاميركية اللاتينية فلم ينمّط شخصيةً تخييلية في جنسية محددة. تناسل وتعدد وتفرّع واحتفظ في كنف كل نص وبحسب ذائقة مطلقه، بشيء من تركة اجداده البعيدين وبشيء من تكوين اكثر حداثة استطاع الجمع بين الامس الموروث واليوم المرئي. وفي حين تكوّرت رواية البرازيلي جورجي امادو "غابرييلا، قرنفل وقرفة" حول مواطن سوري يهاجر الى القارة الاميركية، تمدّد تأثير النموذج العربي في عناوين اثيرة للكاتب الكولومبي صاحب نوبل الآداب غبريال غارثيا ماركيز ايضا. على هذا النحو لم تكن باكورة السكان الوافدين الى ماكوندو، قرية ماركيز المختلقة، في "مئة عام من العزلة" سوى من الغجر والعرب، فيما نسج الصوت الادبي عينه خيوط "قصة موت معلن" حول شاب في الحادية والعشرين باسم سانتياغو نصار يتحدر من اسرة لبنانية. جعل ماركيز من تلك الشخصية محورا مبدئيا لنصه في حين أن وجهته المستورة لعبة موت يتدثر بالعلن والتخفي في آن واحد. والحال ان البصمة العربية في النصوص اللاتينية المنشأ لم تأت يوما من طريق الافتعال او تحت تأثير تصميم اغترابي، بل جاءت عفوية على خلفية قارة اميركية لاتينية لم تكن سوى حاضنة للتهجين. قدم المهاجرون من اراضيهم الرازحة تحت الاحتلال العثماني او الاستعمار الاوروبي، حاملين هويات الامبراطورية العثمانية ليوسموا بأنهم "اتراك" في ارض ميعاد منتظرة. اندمج اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون وسواهم بعد هجرات بحرية مديدة، في اواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين من دون معوقات بارزة في المطرح الجديد، وحاولوا فيه انشاء مثال لتآخ حلمي مرغوب فيه بين مختلف الثقافات، وإن خارج حدودهم الجغرافية. نعود الى الكتابة، حيث تبين للمفارقة ان اجمل الأحلام الأدبية في هذا الجزء من قارة اميريغو كانت تلك التي انبثقت من الأساطير العربية. ألم يكتب الشاعر والممثل والمسرحي الفرنسي انطونان ارتو في "المسرح وصنوه" انه ينبغي منح الكلمات الأهمية التي لها في الاحلام؟ هذا ما جرّبه شركاؤنا في اللغة في الشطر الجنوبي من القارة الاميركية: ان يرتقوا بالقول الى مصاف اثيري. في اطار معرض الكتاب في مدريد قبل نحو عام، التأمت احدى طاولات المناقشة حول محاولة حصر الأثر العربي في الأدب اللاتيني، وتكررت التجربة قبل اقل من شهر في القاهرة حيث شكّلت البصمات العربية في الأدب الكولومبي محور محاضرة اعادت البحث في موضوع يتكرر ولا يفقد راهنيته. لكن هل ينبغي البدء من الهوية والإبحار صوب النص او جعل النص يقول ما عنده ويفصح عما يحويه في مسألة الانتماء من دون اجندات مسبقة؟ ثمة في المقاربتين شيء من الصحة. جيوفاني كساب نقصد مجموعة الأميركيين اللاتينيين من اصول عربية لنتوقف عند صوت شعري كولومبي من اصول لبنانية انتمى الى "الجيل المهزوم"، متحلقاً حول ثيمتي التقليد والقطيعة. جسّد جيوفاني كساب الإرث من طريق مفاهيم عدة للقصيدة انطلقت في "ليلي" للشاعر الكولومبي خوسيه اثونثيون سيلفا ووصلت الى ذروتها في "مسكن في الجنوب" لكولومبي آخر بإسم أوريليو ارتورو. كانت تلك محاور ونبرات محض كولومبية، في حال كان ثمة مجال لتحديد دقيق كهذا. غير ان السرد والاسطورة لدى كساب انبثقا من بورخيس كذلك، رفيق جميع شعراء السبعينات في كولومبيا في القرن المنصرم. بالنسبة الى جيوفاني كساب، تبلورت في تلك الاعوام "زهرة اللوتس" كحضور للوقائع الممكنة الأخرى التي وجدت سبيلها من طريق تقمص الاساطير والفانتازيا المتمحورة على الانسان، في عالم يجمع الوحشية والبؤس والجوع، ويكرر حكاية المرء. انه عالم قائم على انكسارات الانسان في اعقاب الخيبة من الانتظارات التي تفوق طبيعته. دبّر كساب ما يشابه المؤامرة مع شركاء كمثل هوميروس والشرق والوردة وشكسبير وأليس في بلاد العجائب والأغنية والشعر الحر. في تصوّر كساب، ثمة مكان خاص لدانتي مذ تلقّى "الكوميديا الالهية" هدية من استاذ الثانوية، وهو في الثانية عشرة من عمره. صار كلامه اجمل في فيء هذه الموسيقى غير المعقولة المستترة بين الكلمات وفي جوار صور تستعين بالفانتازيا لتقوى على التكرار. قصد كساب ازقة فلورنسا العتيقة مقتفياً خطى المعلم دانتي حيث غرف من دراسة شعر النهضة وتجربة دانتي خلال عامين. تشبّع من هذه الرؤى والقراءات المرحلية التي عادت الى الظهور على نحو دائم وغامض دوما في جميع كتبه. في حين تتراءى الأنا الغنائية ملكة الأساطير في شعر كساب، تصير حيثيات الهوية عنده ملتبسة هي الأخرى. لا ندرك شيئا عن حياة جيوفاني كساب سوى أن والده رأى النور في قرية منسية من ساحل كولومبيا الشمالي، التي كان يستحيل بلوغها إلاّ من فوهة البحر بدءا من ميناء يسمّى بيروغاس. في هذا المرسى وصل المسافرون في مراكب شراعية ليبدأوا رحلة تزيد على اربع ساعات لبلوغ كرتخينا او تولو، حيث استطاعوا في المحصلة الصعود على متن احدى السيارات من اجل المضي في طريقهم. ولد ابو الشاعر في كارتاغو في فايي ديل كاوكا ليعاد الى لبنان ارض اجداده في سن الثانية حيث مكث الى الخامسة والعشرين قبل رجوعه الى كولومبيا ليعمل في غياهب الفن السابع. راح يعرض الافلام في قرى سوكري، مجازفا بتلقف سخط جمهور وعنفه في حالات كثيرة، عندما لم يكن يستوعب كيف مات الممثلون في فيلم لينبعثوا في آخر. في قرى النسيان هذه، كان التطرف في الاحاسيس خبزا يوميا لاءم مشيئة الشعر لا ريب. عاصر كساب شعراء تيار "ناديستاس" الكولومبي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكان ابنه هذا التيار، مثل غونزالو ارانغو وارماندو روميرو وسواهما. هؤلاء اخذوا الكلام في تلك العقود في كولومبيا ليس لتفنيد فضائل الإرث الأدبي وانما لتحديد موقف ريادي، مداده الحنق والتخييل عمليا. اتى تيار "ناديستاس" (اقرب الترجمات الحرفية في الاشتقاق من كلمة العدم) بثقافة مضادة، وقد يجد صنوه الأكثر قربا في الدادائية والسوريالية من دون اغفال رابطه مع جيل ال"بيت". عبّر عن الاعتراض على المؤسسات التقليدية في المجتمع والثقافة، وصرخ مستنكرا الاستنكار الفلسفي المؤطر بالعدمية. كان هذا الجيل الكولومبي الشاب جزءا من السخط العام، وحمل شعار "لا نترك ايماناً على حاله او مثالا اعلى في مكانه"، فدوّى الشعر اعتراضا اجتماعيا. كان هذا التيار بما مثّله، من بين ابرز الظواهر الادبية في الثقافة المضادة في جنوب اميركا. بيّن كساب انه شاعر صامت وغير امتثالي، اشتغل قصائده بمثابرة وعناية مغرقا في مساحته التعبيرية الذاتية بعيدا من الدرجة الأدبية. ضجّ شعره بالوقفات والايقاعات وفسحات الصمت الخبيئة والحِرَف اللغوية. لم يهرب في اي لحظة من الواقع الاثير، غير انه بعثره بألف شكل. في تأمل نقي، يقول كتّاب: "اظن ينبغي لمطلق قصيدة ان تكون استعارة عن الروح: استعارة عن مواطن سحرها وروائعها وخشياتها وسمواتها واماكنها السحيقة ايضا". جعلنا نؤمن انه يجب على القصيدة ان تكون تحويرا للواقع الذي لن يصير على هذا النحو نسيانا للروح، انما تأكيداً لأكثر جوانبها عمقا. راح ينمّي عملا يتغذى من ذاته ومن قراءات لا تحصى. يمكن في شعره تلقف تفرعات تعرّف عن نفسها بنفسها، استعادات من داريو وماتشادو وكيتس وديلان توماس. أولغا إيزابيل شمس الحاج تحت خيمة الشعر صوت كولومبي لبناني آخر بهوية أولغا إيزابيل شمس الحاج. حملت المياه الشاعرة الكولومبية ايضا، غير انها مخرتها في الوجهة العكسية لمعظم المهاجرين، من بارانكييا في كولومبيا. رأت النور في البلاد البعيدة غير انها رجعت الى لبنان في التاسعة، لتشق المحيط الاطلسي صوب الجذور، وإن مرحليا. اولغا شمس أو مييرا ديل مار، هو الاسم المستعار الذي استخدمته الشاعرة في بداياتها، وقد أبصرت النور في كولومبيا في عام 1922 لوالدين لبنانيين التقيا هناك واقاما في بارانكييا. والحال انها استوقفت في شعرها مجازا عن اختراق الهويات والأزمنة والجغرافيا. تكتب في "طيران": "نوارس بيض شقيقة/ توائم لروحي/ لو كانت لي اجنحتك/ لحلّقت بعيدا/ بأيّ حنين مطلق/ اراك تخترقين السموات/ وتضعين فوق البحر/ كمثل مجانين متضورين/ روحي المتخمة بأحلام بعيدة/ معك سأذهب/ لو لم تكن روحي روحا/ لكانت نورساً". تتبين في هذه القصيدة الأخطار المختلفة التي ميزت شعرا جعلها استثناء في قافلة الشاعرات اللواتي انبثقن من اميركا الجنوبية. كانت صورها رقيقة، روحا تتوق الى عوالم نائية حيث الريح نهر من الياسمين او فراشة، كرقصة ألوان الصيف. صرفت مييرا ديل مار الجزء الأكبر من حياتها في بارانكييا حيث التأم في منزلها في الاربعينات من القرن الماضي اساطير الفن والثقافة في كولومبيا ومن بينهم غارثيا ماركيز. درجت الشاعرة على تخصيص معظم امسياتها لمرافقتهم الى حين لاذوا بحانة "لا كويفا" (المغارة) الأثيرة، فاصطلح على تسميتهم "مجموعة المغارة". وفي حين لم يكن من المحبب ارتياد النساء الحانات، كانت الشاعرة على ما يكتب ماركيز في مذكراته "المرأة الوحيدة التي عددناها من صلب المجموعة... جرت الاحتفالات في منزلها صحبة كتاب وفنانين ذائعي الصيت مرّوا بالمدينة". في خضم تيار "بيدراسييليسمو" الذي بزغ في عام 1933 ليجمع في اسمه بين كلمتي السماء والحجر في اشارة الى عمل خوان رامون خيمينيس الذائع الصيت، برز اسلوب ديل مار بفضل طزاجته، لبنة تصلح للتأسيس لجيل كامل. في مطلع 2009 توفيت شاعرة اللاّحب ديل مار عن ستة وثمانين عاماً بعدما شخّصت ماهية الكون الشعري: "يجب اجتياز الحياة. يجب الوصول الى الوجع الشاسع/ الى الوجود من دون رؤيتك. علّ صرخة قلقكَ المرة/ تحرك الارض للحظة.../ بعدذاك، رويدا، سيصمت النحيب". عضو الاكاديمية الكولومبية للغة، كانت ديل مار احدى اهم شاعرات جيلها. حملت باكورتها "فجر النسيان" في عام 1942 كلمات معمودية معبرة عما سيكونه شعر القرن العشرين. وفيما لازم شعرها موضوعات دائمة في الظاهر، بيّنت أبياتها الحب واللاحب والذكريات والحضور والغياب، وشخصت هذا الواقع: "لن تدرك يوما/ في حال التقيتني ما اذا كنت تلتقيني في الحياة او في حلم وليس اكثر!". على هذا النحو ينفلش اثر ميرا ديل مار الشعري من نافذة "حقيقة الحلم" و"الجزيرة السرية" و"مرّ احدهم" و"لقاء متجدد". تساوي قراءة هذه الشاعرة اعادة محاورة الحب بعدما خلع عنه الوشاح العازل. انه موضوع يحييه كتّاب اليوم في مجمل اللغات ومن دون تنقيب بعدما صار عمودا فقرياً. تتذكر ديل مار، او تكتشف، ان خلف وهج الحب يختفي اللاحب. ثمة وهم وشكّ وتركيب ازاء الاحساس المجهول دوما والجديد ابداً. تكتب: "فقدتُ بصمة قدمك/ محت ريح/ عنيفة وباردة الطريق/ لتترك الخطوات/ من دون زخرفة في احدى الساعات/ من دون ان نعرف الى اين/ نوجّه القدر". نالت ديل مار جوائز ادبية عدة من بينها "جائزة الشعر الوطنية" في عام 1995 واستمرت في غضون ستة وثلاثين عاما مديرة لأبرز مكتبة في مدينتها، وكانت على اقتناع بأن الثقافة وحدها من شأنها انقاذنا من العنف: "تملأني الحياة حنينا/ كإناء مملوء الى حدّه/ بنبيذ قديم باهت/ في حال مرّ احدهم وسأل/ اين الياسمين يا امي". شكوك واسئلة وشكوك، واجابات يسيرة، تقدمها ديل مار وتتركنا على جوعنا، تماما على ما يحلو لنا. عن صحيفة النهار اللبنانية رلى راشد ([email protected] ) رلى راشد ([email protected] )