يلجأ مواطن بسيط إلي القضاء ويرفع دعوي أمام إمبراطورية عقارية حصلت علي ملايين الأمتار بسعر زهيد، في الوقت الذي فشل فيه المواطن الحصول علي أمتار قليلة وبسعر أعلي كي يقيم منزلا صغيرا له ولأسرته. ميزة كبيرة يمتاز بها الشعب المصري وأنا منهم، ولا أعرف إن كانت نعمة أم نقمة؟ وهي "النسيان"، وتجاوز الأحداث مهما كانت الوقائع والمصائب أو حتي الأفراح، بل نحن ننسي ونتكيف سريعا مع الواقع الجديد، أو مابعد الأحداث، وننسي في غمرة ذلك استخلاص الدروس المستفادة، أو التعلم من الأخطاء أوحتي من النجاح. أقول ذلك بمناسبة خفوت هوجة أزمة مدينتي، بل واستبد &CceEcirc; بدال أحداثها بجانب أخر من حياة مالكها هشام طلعت مصطفي، وإنشغلنا بالحكم عليه 15 عاما ونجاته من حبل المشنقة، بل وسلمنا بأن قرار الحكومة بإعادة تقييم سعر الأرض وكتابة عقد جديد مع مجموعة طلعت مصطفي وتحديد سعر الأرض فيه بحوالي 10 مليارات جنيه، هو العدل وحل توافقي يرضي الجميع، وكأن القضية في أساسها كانت حصول الحكومة علي مليارات الجنيهات في خزينتها من أجل سد العجز في ميزانياتها، ودون أن يستفيد الشعب إستفادة مباشرة من مليارات مدينتي. ولكن قضية مدينتي - وبعيدا عن التعليق علي أحكام القضاء - مليئة بالدروس المستفادة، والتي يمكن مع استيعابها جيدا، وبعيدا عن نقمة النسيان، نستطيع أن ندشن منهجا جديدا وألية مبتكرة لمكافحة الفساد، والحصول علي حقوق المواطنين سواء من أصحاب السلطة، أو من أباطرة المال والأعمال، الذين اغتصبوا بالقانون بعض حقوق البسطاء البسيطة، وأهمها الحق في المسكن، بل والمأكل أحيانا. فمن النادر أن يلجأ مواطن بسيط إلي القضاء ويرفع دعوي أمام إمبراطورية عقارية حصلت علي ملايين الأمتار بسعر زهيد، في الوقت الذي فشل فيه المواطن الحصول علي أمتار قليلة وبسعر أعلي كي يقيم منزلا صغيرا له ولأسرته. فقد كان جنونا أن يقف حمدي الفخراني أمام هشام طلعت مصطفي، في قضية مدينتي، لعدم التكافؤ في كل شيء، ولكن إيمان الفخراني بأنه ينشد العدل، وأن صاحب الحق دائما هو الأقوي، وأيضا ثقته في القانون ورجال القضاء اللامحدودة جعلته يكمل مشواره علي مدي سنوات عديدة، وفي النهاية حصل علي مبتغاه وما كان يصبو إليه، وما جناه لم يكن قطعة أرض أو منفعة شخصية له، بل حكم عام سيستفيد منه عامة الشعب، بل وسيفتح الباب كي تأخذ الدولة حقها في أراض بيعت لحيتان كبار في غفلة من الزمن، وتحت ستار الاستثمار والتعمير، وتحولت أراضي الدولة إلي منتجعات سكنية فاخرة لم يستفد منها عامة الشعب، وهم أصحاب الأرض الأساسيين وليس وزير التعمير الحالي أو السابق أوالأسبق. وبالتالي فإن كفاح الفخراني هو بداية لترسيخ مبدأ محاربة الأفراد للفساد وكشف المظالم بالقانون وعن طريق القضاء، بل فتح الفخراني الباب كي يبدأ المجتمع المدني ككل في محاربة الفساد، ولاسيما في ظل ضعف دور نواب البرلمان - المنتمي معظمهم إلي الحزب الوطني الحاكم - في كشف الفساد، بل وغياب المعارضة وتقاعس المستقلين عن القيام بهذا الدور، إلافيما ندر ومن بعض نواب لايتعدون أصابع اليد، وأيضا عدم فاعلية الصحافة وأجهزة الإعلام المختلفة في كشف قضايا فساد حقيقية، ولاسيما في ظل الجراءة الشكلية لبعض الفضائيات الخاصة، وأصبح بالتالي كشف قضايا الفساد الثقيلة يأتي من خلال الحكومة وأجهزتها الرقابية، وهي قضايا محسوبة بالورقة والقلم ولها أبعاد سياسية في بعض الأحيان، ولكن تعبر في الحقيقة عن جهود الدولة " العادية " في محاربة الفساد، وهنا يأتي دور الأفراد ذوي الضمير اليقظ، أو منظمات المجتمع المدني التي لاتعمل وفق أجندة دولية وبتمويل غير نظيف، في الكشف عن قضايا فساد، وقد تكون مبادرة فردية من شخص، يقوم بالإبلاغ عن واقعة فساد حتي من خلال مكالمة تليفونية خطوة مهمة في كشف مافيا الأراضي، وقد تكون جهود جمعية أهلية صغيرة أو مركز حقوقي نشط سببا في الإيقاع بحيتان كبار وفضحهم، وعودة ملايين لخزينة الدولة، والتي هي في الواقع أموال الشعب. ولكن هناك علامات استفهام حول صمت أو عدم الأخذ بما كشفه الجهاز المركزي للمحاسبات ورئيسه المستشار جودت الملط، عن أرض مدينتي، بعد توقيع العقد مباشرة، بل لماذا توضع معظم تقارير الجهاز عامة في ثلاجة مجلس الشعب وأدراج بعض كبار كبار المسئولين؟. فبعد الحكم النهائي من المحكمة الأدارية العليا في قضية مدينتي، خرج المستشار جودت عن صمته، وطالب بمعاقبة محمد إبراهيم سليمان وزير الاسكان السابق لقيامه بالتوقيع علي عقد مدينتي، ولكونه المسئول الاول عن اهدار المال العام وسوء استخدام وتوزيع أراضي الدولة، وقال لابد ان يحاسب ويعاقب علي ذلك.. واوضح أن توقيعه هذا - أي سليمان - تسبب في إلحاق خسائر استثمارية للدولة بلغت قيمتها 78 مليار جنيه مصري فقدتهم الدولة بسبب تقييم الاراضي باسعار عام 2006. واستنكر الملط مما فعله محمود محيي الدين - وزير الاستثمارالسابق - الذي وافق علي تقسيط قيمة الغرامة الجزائية التي أقرتها لجنة المخالفات لاسترداد حق الدولة وقيمته 2000 جنيه مصري للفدان أي ما يعادل 47 قرشًا للمتر المربع، ولم يتم تحصيل هذه الغرامة فورية بل تسدد علي خمس سنوات والأدهي من ذلك انه - أي محيي الدين - اعتبر هذه الغرامة نهائية ولا يجوز مطالبة المخالفين بأي غرامات أخري.. كما أوضح الملط أن جهاز المحاسبات هو أول من كشف عن مخالفات عقد مدينتي وسيقوم بتشكيل لجنة لاعداد ملف كامل عن اراضي الدولة. وقد اشاد المستشار جودت الملط بحكم الإدارية العليا بتأييد حكم القضاء الإداري ببطلان عقد بيع أرض مدينتي ووصف الحكم بأنه انتصر لتقرير المركزي للمحاسبات بعد أن شكك البعض فيه. ومن يقرأحيثيات حكم الإدارية العليا يجد أن هناك فسادًا مقننًا حدث في بيع أرض مدينتي، كما يكشف حجم الإنجاز الذي قام به مواطن مصري مثابر وشريف، في أخذ حقه وحق الدولة بالقانون، يعطي لنا أملا في إمكان أي مواطن أن يكشف بنفسه أي فساد مادام يسلك طريقا قانونيا ويثق في قضاء بلده، ويعطي أيضا الامل لمنظمات المجتمع المدني المنوط بها حماية الحقوق وكشف الفساد في أن تقوم بدورها دون يأس وكلل، وكذلك يجعلنا نعيد الثقة والإعتبار لأجهزتنا الرقابية بصفة عامة والجهاز المركزي للمحاسبات بصفة خاصة، والذي دق ناقوس الخطر عند بيع أرض مدينتي بثمن بخس، ولم يلتفت إليه أحد لأن أصحاب المصالح من أعضاء البرلمان كان صوتهم أعلي بكثير وقتئذ. ولكن لاصوت يعلو علي صوت القضاء المصري الذي أعطي الحماية الكافية لجنود محاربة الفساد سواء كانوا أفرادا أو مجتمعا مدنيا، أو حتي اجهزة رقابية حكومية. فقد جاء في حيثيات حكم مدينتي، التي أخرجتهاالمحكمة في 39 صفحة :أن عقد مدينتي وملحقه انصبا علي تصرف هيئة المجتمعات العمرانية الي الشركة العربية للمشروعات والتطوير العمراني (إحدي شركات هشام طلعت مصطفي ) في 8 آلاف فدان لإقامة مشروع مدينتي وإقامة وحدات سكنية من الاسكان الحر لبيعها للغير ومن ثم يكون هذا العقد عقد بيع مما يخاطبه قانون المناقصات والمزايدات في أدني صوره وأضافت المحكمة أن هذا العقد أبرم في 1-8-2005 وملحقه في 21-9-2005 في ظل العمل بأحكام قانون المناقصات والمزايدات ومن ثم يكون خاضعا لأحكامه. ولفتت المحكمة أنه بمقارنة البيع الذي تم في تلك الحالة المعروضة فإن الوضع بدا وكأنه أمر عجب ففي حالة عقد مشروع مدينتي بدا التصرف في المال العام محاطا بالكتمان لايعلم أحد من أمره شيئا إلا طرفاه فتمخض الأمر علي بيع أراضي الدولة بمقابل عيني ضئيل جدا يتم أداؤه خلال 20 عاما ويمكن زيادتها الي 25 عاما فضلا عن اشتمال العقد علي شروط مجحفة. وشددت المحكمة علي أن العقد بدأ بالتصرف في 5 ألاف فدان زيدت في ملحقه الي 8 ألاف فدان إضافة الي تقرير حق شركة هشام طلعت مصطفي في الاستحواذ علي مساحة 1800فدان بالشفعة. وشددت المحكمة علي أنه بالنسبة للحالات الأخري فقد جري الاعلان عنها داخل مصر وخارجها بل جرت حملة إعلانية ضخمة للإخبار عن مزادات بيع تللك الأراضي ومواعيدها حيث وصل الاعلان عن ذلك الي ذروته وغايته قصدا لتحقيق الشفافية والعلانية وتكافؤ الفرص حيث تنافس الجميع وحصلت الدولة علي أفضل الأسعار وفق أنسب الشروط وأكدت المحكمة أن بدل الفارق بدا شاسعا بين عقد مدينتي وسعر البيع في الحالات الأخري اللاحقة رغم أن البيع اشتمل في بعض الأحيان علي أراض في ذات منطقة القاهرةالجديدة الكائن بها مشروع مدينتي وأن هذه البيوع تمت بفاصل زمني في بعضها لا يزيد عن بضعة أشهر. وأوضحت المحكمة أنه بدا أن مقابل بيع أرض مدينتي ضئيل جدا وغير متناسب مع قيمة الأرض المبيعة حيث يتم أداؤه وفق مراحل زمنية تصل الي 20 عاما أو تزيد أما في الحالات الأخري فقد بدا ثمن الأرض المبيعة عادلا ومتوافقا مع سعر السوق والذي تحدد خلال مزادات عامة علم بها من في الداخل ومن في الخارج فانبثق الأمل واتسع الرجاء وبدت صحاري مصر أراضي سكنية ومجتمعات عمرانية بدت وكأنها كنوز لا تنفد ومعين لا ينضب جديرة بحمايتها والحرص عليها من أن تبدد بأثمان بخسة. ولفتت المحكمة الي أنه في حالة أرض مدينتي اهتزت الثقة في السوق العقاري إثر علم المستثمرين بظروف وملابسات بيع أرض مشروع مدينتي ومقابله وشروطه وداخل الناس الشك في أسلوب وكيفية إخراج المال العام من ذمة الدولة الي الغير وتحديدًا الي مستثمر بعينه (هشام طلعت مصطفي) أما في الحالات الأخري فقد أقبل المتنافسون في المزادات في وضح النهار فزادت موارد البلاد وأخذ الاستثمار العقاري طريقه الي النمو والازدهار. وقالت المحكمة إن عقد مدينتي هو عقد بيع ورغم ما اشتمل عليه البيع من بيع مساحات شاسعة تكفي لانشاء مدينة بأكملها فقد جري إبرامه بالأمر المباشر في خروج سافر وأهدار للمال العام ولأحكام قانون المناقصات والمزايدات وما تقضيه أصول الادارة الرشيدة من أن يجري إبرامه من خلال مزايدة علنية أو مظاريف مغلقة يتباري فيها المتنافسون وهو ما يعيب الإدارة التي انعقد بموجبها العقد ويلقي بظلاله علي التوازن المالي مقابلا وشروطا للعقد وهو ما من شأنه أن يسئ العقد بوصفه بالبطلان. وأوضحت المحكمة أن المتعاقدين تعاملوا مع بائع ظاهر (هشام طلعت) بحسن نية ولن يضاروا من أثار الحكم وعلي الجهات المختصة مراعاة ذلك عند إعمال أثار الحكم والذي مؤداه إعادة أرض مدينتي (8 ألاف فدان) الي هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة مع تقييد التصرف فيها بإتباع الاجراءات القانونية السليمة وبالمقابل العادل في الوقت الحالي والذي تسفر عنه هذه الاجراءات المنصوص عليها في قانون المناقصات والمزايدات. وتطرقت المحكمة الي الأراضي المخصصة بالأمر المباشر للأشخاص الطبيعين (النقابات المهنية) مؤكدة أنه لا صحة للقول بأن حكم بطلان عقد مدينتي سيلقي بظلاله علي كل ما سبق أن خصصت له قطعة أرض من الأشخاص الطبيعيين أو النقابات أو النوادي وغيرها من الجهات التي تقوم علي تأدية الخدمات لأعضائها ولا تستهدف الربح مضيفة أن التخصيص الذي تم لهؤلاء قد جري وفقا للقواعد المقررة بهيئة المجتمعات العمرانية ولائحتها العقارية بشأن الاسكان الاجتماعي لخروجه عن مفهوم البيع الذي يخضع لقانون المناقصات والمزايدات. وأختتمت الادارية العليا حكمها بالتأكيد علي أنه لا ينال من حكمها أن نيابة الأموال العامة قررت حفظ التحقيقات في بلاغ إهدار المال العام في صفقة بيع أرض مدينتي خاصة وأن أمر بطلان عقد مدينتي من عدمه مسألة مستقلة عن هذا التحقيق الذي يتعلق بالمسئولية الجنائية وعما إذا كان هناك إهدار للمال العام من عدمه. وأنا من جانبي لا أستطيع أن أعلق بكلمة بعد كلام المحكمة الرائع، الذي أتمني أن نستفيد منه أيما إستفادة، ولا ننسي كالعادة.