أثار اغتيال محمود المبحوح القيادي في حركة حماس في 19 يناير 2010 بدبي كثيرا من الاهتمام والمتابعة من وسائل الإعلام المُختلفة وخاصة بعد أن أعلنت سلطات البوليس في دبي أنها تمتلك تسجيلات فيديو للذين قاموا بعملية الاغتيال في أماكن مختلفة، ومنها داخل الفندق حيث تمت عملية قتل المبحوح. ومن اللحظة الأولي اتجهت أصابع الاتهام إلي إسرائيل التي التزمت الصمت لبعض الوقت، لكن عندما أعلنت السلطات في دبي أن مجموعة الاغتيال قد أنجزت المُهمة باستخدام عدد كبيرة من المعاونين، وأنها استخدمت جوازات سفر مزورة بريطانية وألمانية وفرنسية وأيرلندية وأسترالية، تركز الاتهام مرة أخري علي إسرائيل لتاريخها المعروف في عمليات الاغتيال السياسي من جهة، ولممارستها استخدام جوازات السفر المزورة في عمليات مُماثلة من جهة أخري. وقد أثار ذلك حفيظة الدول التي زُورت جوازات سفرها، وحتي هذه اللحظة مازالت إسرائيل تُنفي التهمة عن نفسها وحتي إشعار آخر. والمبحوح شارك في إنشاء ألوية عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، واتُهِم في عملية اختطاف وقتل جنديين إسرائيليين في 1989، ويُعتقد أن المبحوح قد تعرض لعمليتي اغتيال من قبل بدون نجاح. عمليات الاغتيال السياسي من الأشياء القديمة قدم التاريخ نفسه، وبعضها لم تُفك أسراره حتي الآن، وعادة ما تُستخدم تجاه فرد بعينه للتخلص منه لسبب أو لآخر، وعدد كبير من هذه العمليات تقوم بتنفيذها أجهزة المخابرات بغرض الانتقام والردع لدولة أخري، أو بغرض تغيير المسار السياسي في دولة معينة. ومن الحالات المشهورة اغتيال الرئيس الأمريكي كنيدي والتي لم تُفك أسرارها حتي الآن حيث اتجه الاتهام إلي عدد كبير من الجهات بدءا من جماعات المافيا الدولية إلي المخابرات الأمريكية نفسها. ولا شك أن عملية اغتيال محمود المبحوح تُمثل الطبعة الجديدة لمثل هذه العمليات المُثيرة والتي سوف تتخطفها السينما العالمية بعد وقت من الزمن. و"عملية دبي" - إذا جاز التعبير- تحتوي علي عناصر جديدة أشارت إليها وسائل الإعلام ويمكن حصرها في أسلوب التخطيط والمراقبة وفي اختيار العملاء، وكذلك في استعمال التكنولوجيا الحديثة لضمان السرعة والحسم، وتضليل أجهزة الأمن المحلية والدولية. وفي إطار المُتوفر من المعلومات، يُمكن تقسيم العملية إلي أربعة مراحل: الأولي دخول فريق الاغتيال إلي دبي، والثانية متابعة ومراقبة تحركات المبحوح، والمرحلة الثالثة إجراء عملية القتل نفسها، والرابعة الخروج من مسرح العمليات قبل أن تكتشف السلطات المحلية حدث الاغتيال. وتري سلطات دبي أن العملية قد شارك فيها حوالي 30 فردا من الداخل والخارج، ظهر منهم في أشرطة الفيديو حوالي 17 فردا، والمُفترض أن الباقي قد تولي عمليات المُتابعة البعيدة أو عن قرب أو كان في موقع القيادة والتوجيه والتنسيق داخل وخارج دبي. وفوق كل ذلك كشفت السلطات في دبي عن مُشاركة اثنين من تنظيم فتح الفلسطيني الذين عملوا من قبل في أجهزة فتح الأمنية، ويُعتقد أنهم شاركوا في هذه العملية عن طريق تقديم مساعدات معلوماتية ولوجيستية لفريق الاغتيال. وحتي الآن لم تُفصح سلطات دبي عن اسم الفلسطينيين بعد أن قبضت عليهما ووضعتهم تحت الاعتقال. وتصل الشكوك في تلك العملية المُعقدة إلي مستوي التفكير في وجود عميل في الدائرة الصغيرة المُحيطة بالمبحوح ساعد في معرفة ميعاد سفره إلي دبي أو شكل خططه في تلك الفترة الزمنية حتي وصوله إلي هناك. واللافت للنظر أن التقدم التكنولوجي بقدر ما ساعد الإنسان بشكل مذهل في تقليل الزمن ومضاعفة النتيجة وزيادة الدقة مئات المرات، إلا أنه أوجد للإنسان بالتوازي "بصمة إلكترونية" في معظم حركاته لا يمكن محوها بسهولة. لذلك يُمكن تصور أن متابعة ومراقبة محمود المبحوح قد تمت علي مستويين: الأول "متابعة شخصية" قبل سفره إلي دبي وبعد وصوله إليها. والمستوي الثاني من خلال "رقابة إلكترونية" لبريده الإلكتروني، وتليفونه المحمول، وعمليات حجز تذاكر السفر والفنادق التي تتم عادة إما عن طريق التليفون أو البريد الإلكتروني. كما أن استخدام الكروت الإلكترونية في دفع الفواتير والحصول علي الأموال تُضيف ظلا إلكترونيا آخر يزود من يريد بمعلومات عن المكان الفيزيائي للإنسان ويشي بنواياه الخفية وخططه المستقبلية. وبالنسبة لرجل مثل المبحوح له تاريخ طويل في هذا المجال، فلا شك أنه اتخذ احتياطات كافية، كما أنه كان قادرا علي كشف أية أنشطة مراقبة شخصية له أثناء وجوده في دُبي. لذلك يُعتقد أن عددا كبيرا شارك في مراقبته حتي لا يري المبحوح وجه رجل أو امرأة إلا مرة واحدة. ولاشك أن المراقبة قد بدأت للمبحوح من لحظة وصوله إلي المطار حتي وصوله إلي فندق "البستان روتانا" الذي أقام فيه حتي لحظة اغتياله. وقد نجح فريق العمل في معرفة طابق الفندق ورقم الغرفة التي سوف يقيم فيها. وعُرف بعد ذلك أن واحدا من فريق الاغتيال قد حجز غرفة مواجهة لغرفة المبحوح وربما غُرفا أخري ساعدت في مراقبة كل حركات الهدف داخل وخارج الفندق. وطبقا لمعلومات السلطات في دبي استخدمت مجموعة الاغتيال التليفون المحمول في اتصالاتها من خلال خط يمر بالنمسا حيث هناك ربما كانت توجد غرفة العمليات التي من خلالها تمت السيطرة علي العملية كلها. والجُزء المُتميز في خطة اغتيال المبحوح بدا في كيفية ضمان عدم اكتشاف جثته ومعرفة سبب موته إلا بعد وقت كاف يُتيح لفريق الاغتيال كله مُغادرة دبي. وفي حوالي الثامنة والنصف مساء من 19 يناير، وبعد عودته من الخارج، نجح فريق الاغتيال في عدم لفت انتباه رجال الأمن في الفندق، وحدث كل شئ بدقة وبدون أية جلبة وبدون أية صورة غير عادية نقلتها الكاميرات الموجودة في كل مكان، ولم تُكتشف الجثة إلا بعد 17 ساعة من لحظة الاغتيال كانت كافية لهروب القتلة خارج دُبي. وحتي عندما اُكتشفت الجثة، لم تُعط الانطباع بأن الموت ناتج عن عملية قتل، فقد بدا الوضع في البداية كأنه مُجرد أزمة قلبية إلي أن عُرفت النتيجة الصحيحة بعد فترة طويلة من الفحص والتحاليل. ويبدو أن الاغتيال قد تم بحقنة من مواد تُؤثر في عضلة القلب وتؤدي إلي توقفها بدون أن تترك آثارا يمكن اكتشافها بسهولة. وإذا قارنا ذلك مع عملية مقتل المغنية سوزان تميم اللبنانية في دبي، لوجدنا الفارق بين الهواة والمحترفين في عمليات الاغتيال، وأساليب تنفيذها، وكيفية الخروج منها "مثل الشعرة من العجين". ومن المُؤكد أن بوليس دبي في حالة مقتل المبحوح (وكذلك في مقتل سوزان تميم) قد أبدي حرفية عالية في التعامل مع الحالة. فبرغم كل ما فعله فريق اغتيال المبحوح، نجح بوليس دبي في استخدام كل المعلومات المتاحة من خلال كاميرات الفندق، وفي المطار، وفي المحلات والمطاعم المختلفة، وكذلك أثناء خروجهم من المطار والسفر إلي الخارج في النهاية. صحيح أن بوليس دبي لم يمنع الجريمة أو القبض علي الجناة، لكنه نجح في بناء القصة كلها من خلال ما تركه الجناة من "بصمات إلكترونية" في شكل صور وتصرفات مالية واتصالات إلخ. وهذا ما أعطي السلطات في دبي الجرأة والحسم في أن تقول إسرائيل وراء الحادث بنسبة 99%. وقد نجحت السلطات في إرسال صور 11 مشتبه فيهم والأسماء التي استخدموها إلي الإنتربول الدولي لوضعهم علي قائمة المطلوب القبض عليهم. ومن بين هؤلاء 4 جوازات سفر أيرلندية و 6 بريطانية و 3 ألمانية وجواز فرنسي واحد، ومن الواضح استغلال عدد من الإسرائيليين للجنسية المزدوجة في الحصول علي جوازات سفر لبلاد مختلفة. وقد هدد رئيس البوليس في دبي أنه في حالة ثبوت هذه التهمة علي إسرائيل سوف يطلب من البوليس الدولي القبض علي مئير داجان رئيس الموساد. كما طالبت حماس الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي وضع إسرائيل علي قائمة الدول التي ترعي الإرهاب.