بينا في مقالنا السابق أن رسل هولاكو وصلت إلي القاهرة تحمل خطابا تقطر كبرا وغطرسة، ويمتلئ بالتهديد والوعيد، ومما جاء فيه: ".. إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا علي من حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم.. فنحن لا نرحم من بكي، ولا نرق لمن شكا.. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق...". الاجتماع التاريخي: وأمام هذا الخطر الداهم عقد السلطان قطز مجلسًا من كبار الأمراء، واستقر الرأي علي مقابلة وعيد المغول بالاستعداد للحرب، وعزز ذلك بقتل رسل المغول؛ ردًا علي تهديد هولاكو وكان هذا التصرف إعلانًا للحرب وإصرارًا علي الجهاد، وفي الوقت نفسه بدأ قطز يعمل علي حشد الجيوش وجمع الأموال اللازمة للإنفاق علي الاستعدادات والتجهيزات العسكرية، وقبل أن يفرض ضرائب جديدة علي الأهالي جمع ما عنده وعند أمرائه من الحلي والجواهر، واستعان بها في تجهيز الجيش، استجابة لفتوي الشيخ "العز بن عبد السلام " أقوي علماء عصره. ولم يقتصر الأمر علي هذا، بل لقي صعوبة في إقناع كثير من الأمراء بالخروج معه لقتال التتار، فأخذ يستثير نخوتهم ويستنهض شجاعتهم بقوله: "يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلي بيته فإن الله مطلع عليه..."؛ فأثرت هذه الكلمة في نفوسهم، وقوت من روحهم، فخرجوا معه وتعاهدوا علي القتال. الخروج إلي القتال: وفي (رمضان 658ه= أغسطس 1260م) خرج قطز من مصر علي رأس الجيوش المصرية ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وترك نائبا عنه في مصر هو الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، وأمر الأمير بيبرس البندقداري أن يتقدم بطليعة من الجنود ليكشف أخبار المغول، فسار حتي لقي طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثر في نفوس جنوده، وأزالت الهيبة من نفوسهم، ثم تقدم السلطان قطز بجيوشه إلي غزة، فأقام بها يومًا واحدًا، ثم رحل عن طريق الساحل إلي عكا، وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض واكتفي منهم بالوقوف علي الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول، ثم وافي قطز الأمير بيبرس عند عين جالوت بين بيسان ونابلس. وكان الجيش المغولي يقوده كيتوبوقا (كتبغا) بعد أن غادر هولاكو الشام إلي بلاده للاشتراك في اختيار خاقان جديد للمغول، وجمع القائد الجديد قواته التي كانت قد تفرقت ببلاد الشام في جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت. اللقاء المرتقب: اقتضت خطة السلطان قطز أن يخفي قواته الرئيسية في التلال والأحراش القريبة من عين جالوت، وألا يظهر للعدو المتربص سوي المقدمة التي كان يقودها الأمير بيبرس، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة (25 من رمضان 658ه= 3 من سبتمبر 1260م) حتي اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل علي طلائع الجيوش المصرية؛ حتي تحقق نصر خاطف، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز ثبت كالجبال، وصرخ بأعلي صوته: "واإسلاماه!"، فعمت صرخته أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا علي الجيش المغولي الذي فوجئ بهذا الثبات والصبر في القتال وهو الذي اعتاد علي النصر الخاطف، فانهارت عزائمه وارتد مذعورا لا يكاد يصدق ما يجري في ميدان القتال، وفروا هاربين إلي التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كيتوبوقا يسقط صريعًا في أرض المعركة. ولم يكتفِ المسلمون بهذا النصر، بل تتبعوا الفلول الهاربة من جيش المغول التي تجمعت في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها في لقاء حاسم، واشتدت وطأة القتال، وتأرجح النصر، وعاد السلطان قطز يصيح صيحة عظيمة سمعها معظم جيشه وهو يقول: "واإسلاماه!" ثلاث مرات ويضرع إلي الله قائلا: "... يا ألله!! انصر عبدك قطز".. وما هي إلا ساعة حتي مالت كفة النصر إلي المسلمين، وانتهي الأمر بهزيمة مدوية للمغول لأول مرة منذ جنكيز خان.. ثم نزل السلطان عن جواده، ومرغ وجهه علي أرض المعركة وقبلها، وصلي ركعتين شكرًا لله. نتائج المعركة : كانت معركة عين جالوت واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجه بمثله من قبل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذ أن يدفعه. وكان هذا النصر إيذانًا بخلاص الشام من أيدي المغول؛ إذ أسرع ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق علي رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 ه)، وبدأ في إعادة الأمن إلي نصابه في جميع المدن الشامية، وترتيب أحوالها، وتعيين ولاة لها، وأثبتت هذه المعركة أن الأمن المصري يبدأ من بلاد الشام عامة، وفي فلسطين خاصة، وهو أمر أثبتته التجارب التاريخية التي مرت علي المنطقة طوال تاريخها، وكانت النتيجة النهائية لهذه المعركة هي توحيد مصر وبلاد الشام تحت حكم سلطان المماليك علي مدي ما يزيد عن نحو مائتين وسبعين سنة. ما أسباب نصر المسلمين علي أعداءهم في هذه المعركة؟ وإلي الأسبوع القادم إن شاء الله تعالي.