في مثل هذه الأيام من رمضان عام 658 من الهجرة كانت موقعة من أعظم معارك المسلمين اوقفت زحف طوفان الخراب الذي اشاعته سنابك خيول التتر في حواضر حضارات العالم في ذلك الوقت . والقصة نكاد نعرفها جميعا بكل تفصيلاتها منذ أن أزاح قطز بموافقة الأمراء والعلماء ابن استاذه عز الدين أيبك عن الحكم ليتولي مسئولية المعركة مجيشا الجيوش وحاشدا كل طاقات الشعب المصري لهذه المعركة . كانت جيوش التتار قد ملكت بلاد الروم كلها بالسيف ثم نزل هولاكو حفيد جنكيز خان كالاعصار فاجتاح بغداد عاصمة الخلافة وقتل مئات الألوف من سكانها وقضي علي كل مظاهر الحضارة فيها ثم انثني إلي بلاد الجزيرة فاستولي علي حران والرها وديار بكر ثم جاوز الفرات فنزل حلب ونكل بأهلها بعد أن أمنهم وجرت الدماء في أزقتها أنهارا ثم إلي دمشق حيث فر سلطانها الناصر يوسف بن أيوب ومعه أهل اليسار ودخلها التتار بأمان كسابقه وغدر مثله أيضا ثم إلي نابلس ثم الكرك وبيت المقدس ثم إلي غزة دون أن يلقوا مقاومة تذكر وهكذا صاروا في المواجهة مع مصر واضطر هولاكو للسفر عائدا لوجود مشاكل بين اخوته علي ولاية العرش بعد وفاة أخيه الأكبر وأسلم قيادة الجيش إلي كتبغا . يقول الأسقف دي مسنيل نائب مدير البعثات التبشيرية في روما في كتابه عن الكنيسة والحملات الصليبية " اشتهر هولاكو بميله إلي النصاري النسطوريين ، وكانت حاشيته تضم عددا كبيرا منهم ، من بينهم قائده الأكبر كتبغا وهو تركي الجنس نصراني نسطوري كما كانت الأميرة ( دوكس خاتون ) زوجة هولاكو نصرانية أيضا " وقد لعبت هذه المرأة دورا كبيرا في صرف هولاكو عن غزو أوروبا والتوجه إلي المسلمين ، كما إن قوات التتار ذبحت المسلمين في البلاد المفتوحة وابقت علي النصاري .. ويصف الأسقف المذكور حملة التتار بقوله "لقد كانت الحملة التترية علي الإسلام والعرب حملة صليبية بالمعني الكامل لها حملة نصرانية نسطورية وقد هلل لها الغرب وارتقب الخلاص علي يد هولاكو وقائده النصراني كتبغا " وقد بادر هاتون الأول ملك أرمينيا و( بوهومونت السادس ) أمير طرابلس وأمراء الافرنج في ( صور ) و ( عكا ) و ( فبرص ) إلي عقد حلف مع التتار يقوم علي أساس القضاء علي المسلمين كافة في آسيا وكانت هناك مراسلات بين التتار ولويس التاسع بخصوص عمليات حربية مشتركة ولكن لم تتم فقد انتهي التتار بعد ذلك بدخول الإسلام وفشل المحاولات الصليبية . نعود سريعا إلي المعركة حيث أرسل هولاكو رسلا إلي قطز يحملون رسالة إنذار ووعيد لملك مصر الذي أمر بإعدامهم جميعا توسيطا وعلقت رؤوسهم علي أبواب القاهرة .. لقد عقد قطز العزم علي قتال التتار عزما لارجعة فيه وأغلق بقتل الرسل كل باب للتردد أو التراجع . خرج قطز في النصف من شعبان بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عسكر الشام وغيرهم حيث صار علي رأس الجند إلي الصالحية ليستكمل حشد قواته . استعاد غزة وهزم بيدر حاكمها التتري قبل أن ينجده كتبغا ثم انطلق شمالا وأرسل بيبرس علي رأس طليعته حيث بدأ يشاغل التتار عند عين جالوت حتي ادركه قطز وهناك كانت الموقعة العظيمة في تفاصيل كثيرة انتهت بفوز المسلمين . رغم أن كل الأسباب العسكرية تشير إلي أن النصر سيكون في جانب التتار إلا أن الواقع ناقض هذه الأسباب .. فقد كان التتار أكثر في العدد والعدة وقد ازداد عددهم وعدتهم بمن التحقوا بهم من مرتزقة ونصاري وموالي بعد احتلال الشام وما حولها ولهم خبرة قتالية كبيرة من خلال ماخاضوا من معارك وقائدهم ذو تجربة كبيرة كذلك وهو مالم يكن متوافرا لقطز ولالجنده .. وكانت معنويات التتار عالية لكثرة ما أحرزوا من انتصارات بينما كانت معنويات جيش قطز علي العكس من ذلك لكثرة ما سمعوه عن جيش التتار الذي لم يهزم في معركة هذا فضلا عن أن أكثر قادة قطز خرجوا مكرهين .. وكان جيش التتار يتمتع بكثرة فرسانه المدربين مما ييسر له المرونة وسرعة الحركة والانقضاض ، هذا فضلا عن احتلال جيش التتار للمرتفعات قبل مجئ جيش قطز وللأرض أثر عظيم في احراز النصر ، ولا يخفي أثر قرب جيش التتار من مراكز امداده بالشام علي تسهيل الأعمال الادارية بينما كانت مراكز الامداد للجيش المصري بعيدة عنه هذا هو التفوق الساحق للجيش التتري علي المسلمين في سبعة أشياء ( التجربة العملية والمعنويات العالية والأرض والقضايا الإدارية والكفاية القتالية والعدد والعدة وسرعة الحركة ) والذي نتيجته الطبيعية تكون النصر . اذن كيف انتصر المسلمون ؟ وجود شيوخ مصر وعلي رأسهم سلطان العلماء العز بن عبد السلام والذي أمد الجيش بقوة معنوية هائلة خاصة تلك الصلة الوثيقة التي كانت بين الشيخ وقطز . قيادة قطز والذي كان ذا إرادة قتالية عالية انعكست علي جنوده أثناء القتال . خروج جيش مصر للقاء التتار خارج البلاد واختياره الهجوم بدلا من الدفاع جعل قادته وجنده بين خيارين اما الموت واما النصر مما جعلهم يستقتلون في القتال لأن الهزيمة لم تكن تعني إلا الابادة . لقد كان انتصار المسلمين في معركة عين جالوت انتصار عقيدة لامراء لا انتصار عدة وعتاد وكانت هزيمة التتر هي بداية انحسار مدهم حيث هزمهم المسلمون مرة أخري ولكن علي صعيد الدين والحضارة .. حيث بدأوا يدخلون في دين الله أفواجا ليحمل التتار لواء الإسلام ويدافعوا عنه بعد أن كانوا أشد خصومه . أما الخونة الذين ساعدوهم فوجدوا أنفسهم أمام جرائمهم في حق شعبهم وأمتهم ولكن روح التسامح الإسلامي غلبت كالعادة علي روح الثأر والعقاب المستحق فهل من معتبر