كانت غلطة حياة بيبرس هو قتله لقطز بلا مبرر سوي أنه يريد سلطانا وعرشا، دون ان يراعي أن قطز بانتصاره في عين جالوت، وقضائه علي جيش التتار كان قد فتح لنفسه نافذة علي تاريخ طويل عريض من المجد والخلود، وانه حفر لنفسه اسما لاينسي بين المجاهدين العظام، وانه في نفس الوقت قد اكتسب حب الجماهير في العالمين العربي والإسلامي لأنه وضع حدا لأطماع التتار فعاش الناس في أمن وآمان. لقد نسي بيبرس ما قدمه له قطز عندما وافق علي عودته الي القاهرة، وجعله ساعده الأيمن في الحرب ضد التتار.. صحيح ان بيبرس أظهر من البطولة في هذه الحرب والاستماتة في الهجوم علي الأعداء، وانه كان واحدا من أسباب النصر مع الأعداء، ولكن كل هذا لايعطيه حق قتل قائده بحجة انه لم ينجز ما وعده به من ان يكون حاكما علي حلب.. لقد تأمر مع جماعة من أعوانه علي قتل قطز.. رغم ان قطز كانت له أياديه البيضاء عليه، عندما قربه منه عند عودته من الشام، جعله حاكما علي قليوب، وأعطاه الكثير من الغنائم بعد انتصاره في معركة (عين جالوت).. غير ان قطز تقدم نحوه وكأنه يريد ان يشكره عما قدمته له يداه، ثم طعنه بخنجر مسموم، وعندما سقط الرجل علي الأرض انهال عليه أعوان بيبرس بسيوفه، حتي أسلم الرجل الروح.. كان قطز قد قضي كما يقول المؤرخون عاما واحدا في الحكم، استطاع في خلال هذا العام ان يجهز جيشا قويا، ويستعد استعدادا هائلا لمواجهة قوي التتار، ويحقق المستحيل بانتصاره علي هؤلاء القادمين من منغوليا، وليرفع راية الإسلام عالية، ويرفع ذكر مصر الي الأفاق التي حققت حلم العالم الإسلامي بالقضاء علي هؤلاء التتار الذين جاءوا ليقضوا علي الإسلام، ويحطموا آخر قلاعه في مصر، ويتصدي لهم هذا البطل العظيم قطز، ويحقق انتصاره المذهل، وقبل ان يعود إلي عاصمة ملكه ليقابل باتجواس النصر، وتهليل الناس بالنصر المبين تغتاله يد بيبرس وأعوانه ليصفوا نهاية لشهيد عظيم. عاد بيبرس إلي مصر حاكما عليها.. وسرعان ما قرر بيبرس ان يكون شيئا مهما في تاريخ مصر وتاريخ المنطقة العربية كلها، وهو مصمم ان يقوم باصلاحات هائلة في مصر، وان يتمم الانتصارات التي احرزها صلاح الدين الأيوبي، وقطز، وان يطهر المنطقة العربية من بقايا الصليبيين في الشام، ويتصدي للتتار ان هم عاودوا الحرب اخذا بالثأر، كما قرر ان يعزم من وضعهم القلق في العراق، وباختصار شديد قرر الرجل ان يكون بطلا اسلاميا، وان يحقق من الانجازات ما يحفر اسمه في سجل الأبطال المسلمين. انه يعرف قدراته القتالية، وكفاءته العسكرية، ويعرف انه لعب دورا هائلا مع قطز في تصديه لقوي التتار، ومن هنا فقد عزم العزم علي ان يقدم شيئا له قيمته يرفع من شخصه ومن أدواره التاريخية التي سوف يقوم بها، اوغرم علي القيام بها.. وأهم هذه الأمور في رأيه هو الاحتفاظ بالمكاسب التي تحققت من ضرب التتار، وانه لاينبغي ان تقوم لهم قائمة في العالم الإسلامي. وبالفعل فان ما تحقق من نصر في عين جالوت، قلب موازين القوي في العالم، ومن هنا نري المؤرخ ه. ج ويلز وهو يتحدث عن فتوح المغول، واجتياحهم للعديد من بلدان العالم وأوروبا.. ويقول عن هؤلاء الغزاه. .. وفي نفس الوقت الذي كانت اسرة صبح تلفظ آخر أنفاسها في بلاد الصين، كان أخ أخر لمانجو هو (هولاكو) يفتح فارس وسوريا، وأظهر المغول في ذلك الزمان عداوة مريرة للإسلام، ولم يكتفوا بتذبيح سكان بغداد عندما استولوا علي تلك المدينة، بل شرعوا في تدمير نظام الري السحيق القدم الذي ظل علي الدوام يجعل من أرض الجزيرة بلادا رغيدة آهلة بالسكان منذ أيام سومر القديمة. وقد صارت أرض الجزيرة منذ تلك اللحظة التعسة يبابا من الخرائب والاطلال، لا تتسع الا لعدد القليل من السكان، ولم يدخل المغول أرض مصر قط، فإن سلطان مصر هزم جيشا لهولاكو هزيمة تامة بفلسطين سنة 0621م. وانحسر سيل النصر المغولي بعد تلك الكارثة، وانقسمت ممتلكات الخان الأعظم بين عدد من الدول المتفرقة الشمل، فأصبح المغول الشرقيون بوذيين كالصينيين، وأصبح الغربيون منهم مسلمون....«. هاهو بيبرس وقد عاد الي مصر متوجا علي عرشها، وها هو قد خطبت باسمه علي بناء مصر والشام في يوم الجمعة 6 ذي الحجة 856 ه 11 نوفمبر 0621، بعد رجوعه من معركة عين جالوت واستشهاد بطل هذه المعركة سيف الدين قطز. انه يعرف ان أمامه مشوار طويل.. عليه ان يقوم باصلاحات داخلية، وغزوات عسكرية ضد التتار والصليبيين وعليه ان يطهر مصر من فساد بعض المماليك وان يجمع كل السلطات في يده. وجنحت به الذكريات.. يوم جيء به من (القبيجاق) (خازاخستان) حاليا. رقيقا، ووصل الي حماه وبيع للمنصور محمد حاكم حماه... وكان فيه من الزاهددين، وقد بيع له بثمامئة درهم، ولكن هذا الأمير عندما وجد في احدي عينيه مياه بيضاء أعاده الي التاجر الذي اشتراه منه، فاشتراه علاء الدين ايدكين البتدقدار، الي ان انتقل في خدمة السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين ايوب في القاهرة.. ورأي فيه الملك فارسا قويا مهيبا فاعتقه وأصبح أميرا.. ويعود بيبرس يستعرض شريط حياته، وما قام به من دور بارز عند ما كان يحكم مصر الملك الصالح وغزت مصر جيوش الصليبيين بقيادة لويس التاسع واحتلوا دمياط وتوجهوا صوب المنصورة، وكان الملك مريضا.. ثم مات وخشيت زوجته شجرة الدر ان يؤثر ذلك علي مجريات الأحداث فأخفت خبر موته، وقادت المعركة بنفسها وهي تصدر الأوامر باسم الملك.. يومها حارب بيبرس كما لم يحارب أحد في المنصورة، وتحقق النصر علي يديه. وتذكر بيبرس كيف جيء بابن الملك الصالح الذي كان في حصن »كيفا« ليصبح ملكا خلفا لأبيه، ولكن توران شاه لم يمض في حكمه غير سبعين يوما.. لقد كان حاكما سفيها فاسدا مما جعل بيبرس يحاول قتله فضربه بالسيف وهو في مجلس شرابه بفارسكور، ولكن السيف لم يقتله، وهرب توران شاه الي برج خشبي علي انيل فأصرته المماليك، فقفز توراه شاه الي النيل، وقفز وراءه (أقطاي) وضربه بالسيف وهو في الماء فقتله! وبعدها توجت شجرة الدر ملكة علي مصر.. ولم يرض الخليفة في بغداد ان تحكم مصر امرأة، وارسل هذا الخليفة (المستعصم) برسول الله مصر ليقول: »إذا كانت مصر قد خلت من الرجال فاعلمونا حتي نبعث اليكم رجلا«! ومن هنا فقد اثرت »شجرة الدر« ان تتزوج من عزالدين ايبك، وتحكم هي مصر ويكون هو مجرد ديكور لحكمها، ولكنه عندما تزوجها واصبح الملك المعز، بدأ في اذلال شجرة الدر، الذي قررت قتله، وتأمرت علي بالفعل وقتلته، الا ان ضرتها قتلتها بعد ان عرفت بتفاصيل جريمتها بعد ان امرت غلمائها بضربها بالقباقيب حتي الموت! تذكر بيبرس كل هذه الأحداث.. وتذكر خلافه مع قطز، وذهابه الي الشام، ثم عودته الي مصر ليكون بجوار قطز في حربه ضد التتار، ولكنه غدر بقطز بعد انتصاره علي المغول، وقتله بالغرب من الصالحية وها هو اليوم ملكا علي مصر! ما السبيل الي حكم مصر والشام؟ وكيف يقضي عي مراكز القوي، ويمسك الحكم بيد من حديد؟ يري الكثير من المؤرخين أن (ركن الدين بيبرس البند قداري، يعد المؤسس الفعلي لدولة المماليك، فهو اعظم من حكم مصر منهم، كما انه غباز بالجرأة والشجاعة والأقدام.. وسياسي وعسكري من الطراز الأول. وقد رأي بيبرس انه من طبيعة المماليك الغدر والخيانة، ويريد ان يجعل لحكمه شرعية، فاستقدم احد امراء العباسيين وهو أحمد بن الخليفة الظاهر العباسي) واعلنه خليفة للمسلمين، وجعل معزة القاهرة، وبذلك انتقلت الخلافة العباسية من بغداد الي القاهرة.. لقد بايعه بالخلافة، وكان بصحبته عند هذه المبايعة كبير من العلماء ومن أمراء المماليك. وكان أول قرار اتخذه الخليفة الجديد هو انه قوض بيبرس بحم مصر والشام، وكان ذلك في 4 من شعبان سنة 956 ه. واصبح بيبرس هو الحاكم الفعلي للبلاد، وله شرعية اقرها الخليفة العباسي الذي اصبح مقره القاهرة، وهذا معناه ايضا ان تصبح القاهرة قبلة العالم الإسلامي كله، لانها مقر الخلافة، ومقر الحاكم القوي ركن اللدين بيبرس. وأراد بيبرس ان يدعم ويقوي نظام حكمه بابتدع ولاية العهد، وجعل من ابنه (محمد بركة خان« وليا للعهد، وهو يريد بذلك ألا يطمع في حكم مصر احد من المماليك، وتنتهي بذلك الفتنة والمؤامرات والدسائس، فحصر ولاية العهد في أحد أبناء بيبرس واسرته، وسيجعل الباب مغلقا امام الأخرين وبالتالي يضع نهاية للأهواء حول عرش البلاد. وشاهد الناس بيبرس في وصفه الجديد.. ان انسان اخر غير الذي سمعوا عنه من قبل.. انه يتوق الي اصلاح البلاد ورفاهية الناس، فخفف الكثير من الضرائب التي كانت مفروضة علي الناس، وأمر أن يكون القضاء بمقتضي المذاهب السنية الأربعة، ولا تقتصر علي اللفقه الشافعي كما كان الأمر.. لقد اصبح هناك قضاه علي المذاهب الأربعة.. الشافعي.. وأبوحنيفة، والمالكي، والحنبلي للفصل في قضايا الناس، وقد كان الأمر مقتصرا علي المذهب الشافعي قبل ذلك. وبدأ بيبرس يأمر باقامة العمائر، والمساجد، وحفر الترع والمصارف، ومن أشهر هذه العمائر المسجد الذي اقيم باسمه.. مسجد الظاهر بيبرس الموجود حتي الان في حي الظاهر. لقد لقب نفسه عندما جس علي عرش مصر في اواخر ذي القعدة سنة 856 ه بالملك الظاهرة بيبرس، بعد ان تشاءم ان يسمي بالملك القاهر الذي تسمي به البعض قبله كالمقتضد الذي خلع وسملت عيناه. وبدأ حكمة بمحاولة استحالة قلوب المصريين اليه، فجمع المماليك البحرية من مختلف البلاد وحدد اقامتهم في القاهرة وبذلك جنب الناس شرورهم.. واصبح المصريون ذات يوم ازدات مساء، فاذا الأمان يسود البلاد.. واذا العمائر والمساجد تقام، واذا بالمصانع تقام فتوفر فرص عمل للعاطلين.. كما استطاع أن يخمد ثورة علم الدين سنجر، وكان من الذين ثاروا علي بيبرس واحتجوا عليه لقتله قطز، وكان علم الدين سنجر هذا قد نادي بنفسه سلطانا علي دمشق، واستطاع بيبرس ان يرسل حملة للقضاء عليه، واعادة دمشق لتكون تحت الحكم المصري، وكان ذلك في 61 من صفر من عام 956ه. كما استطاع ان يتغلب علي رجل من اصل فارس كان يحاول ان يعيد الخلافة الفاطمية الي مصر واسمه الكوراني، وقام بثورة حاول فيها القفز علي السلطة إلا ان بيبرس قضي عليه هو وفرسانه بسهولة ويسر، وامر بيبرس بصلب هذا الثائر علي باب زويلة بالقاهرة. وبهذا استب الأمر للظاهر بيبرس، واصبح شخصية مرموقة يشار اليها بالبنان، فهو شخصية بالغة القوة.. بالغة الشراسة عندما يحاول احد ان يتحواه، وقرر فيما بينه وبين نفسه، وقد اصبح قوة لايستهان بها، وتمكن من السيطرة تماما علي الحكم، ولم يعد يخشي احد علي ملكه، ان يتفرع لماهو اهم واحدي، وان يضع بصمات لاتزول عن فترة حكمه في صفحات التاريخ.. بان يكمل الانتصارات الباهرة التي حققها صلاح الدين الأيوبي علي الصليبيين فيخلص الشرق نهائيا من قلولهم ويطهر العالم الاسلامي من استعمارهم، ويرسم صورة جديدة للعالم الإسلامي، وخريطة جديدة له، كما قرر ان يقضي ايضا علي التتار الذين مازالوا يسيطرون علي اراض بالعراق، وخطرهم مازال قائما. وقرر انه لن ينامن غرير العين الا بعد ان يتخلص من الصليبيين ومن التتار في نفس الوقت ويعيد للحضارة الإسلامية جمالها وجلالها، ويعيد الأمن والامان في كل انحاء العالم العربي ويخلق واقعا جديدا.. وليس فيه اي بصمة للغزاة.. سواء كانوا من الغرب الأوروبي، او من اضعاف منغوليا ليعيش كل مواطن في بلاد المسلمين لايهددهم وخيل ولايتسلط علي اقدارهم باغ، ويكون دولة قوية يستظل بظلها الأقوياء والضعفاء.