كانت الفترة من 1250م-1260م من أشد الفترات التى مرت بالتاريخ العربي والإسلامي رعبا وهولا إذ وجدت الأمة نفسها مهددة تهديدا لم يسبق له مثيل..كان تهديدا مزدوجا فالصليبيون لايزالون يشكلون تهديدا مباشرا فى بعض مناطق الشام إذ لم يكن نصرصلاح الدين فى حطين (1187م) حاسما فقد توفى وهم فى الشام وظلوا مائة سنة من بعدة حتى اقتلعهم السلطان الأشرف خليل بن قلاوون تماما سنة 1291م ..الخطرلم يكن منهم فحسب ولكن كان هناك خطرا أفظع وأبشع..وهم التتارالذين انحطوا كالسيل المنهمر..وفظاعتهم أن هجماتهم لم تكن هجمات حرب عادية بل هجمات إبادة وإفناء تركت المدن التي دخلتها خرابا ويبابا وسكانها تلال من الجماجم والجثث وأنهارمن الدماء والدموع.كانت تسبقهم إلى الناس حكايات الفزع والهول الذي يحدثونه فى الأرض فما كان الرعب إلا أن يحتويهم احتواء ويتملكهم تمليكا..وأصبحت الأمة جموع من المرعوبين محبى الحياة يسيرون فى الطرقات مهلوعين مفزوعين..كانت(سوسة)حب الحياة قد نخرت فيهم نخرا..وكانوا قد نسواالله فأنساهم أنفسهم وكان حرصهم(حياة)..أي حياة فى الدنيا..فاق كل شيء.. وصلت قوات هولاكوبغداد فدمرتها تدميرا وألقت الخليفة العباسي فى كيس مع عاره وقتلوه ركلا بالأقدام..كان هذا الخليفة الفاقد للقدرة على الخجل من نفسه ولاأود ذكر اسمه قد أرسل أحد رجاله إلى هولاكو ليتفاهم معه على(حياة)أي حياة يعيشها فى مدينته مع نسائه وجواريه وأطلق يد رسوله فى التفاوض حتى درجة القبول بترك المدينة لهم على أن يتركوه فى قصره يعيش ويسلمهم المدينة ملفوفة فى دماء أهلها..جاء الرسول إلى هولاكو فقال له الأخيرحدثنى عن دينكم فقال له الرسول الفصيح أروع ما يمكن أن يقال عن تعاليم الدين وأخلاقه..فقال له المجرب الدهقين ولكنى لا أراكم مثلما تقول..إذن فأنا عذاب ربكم إليكم..كان الرجل ينطق بلسان التاريخ وحقا نطق. كانت أشباح المغول تتراءى للناس كالجن فى ظلمات الليل..الأيوبيون حكام المنطقة تمزقوا وساوموا على المقدسات مع الصليبيبن وتسلم مماليكهم حكم مصروالشام وهم الجيش المدافع ولكنهم لا يدرون ما يفعلون..ووصل المغول غزة ..كانت مصرمحكومةمن قطزالذى تولى رسميا عند دخول هولاكو حلب..وكانت أحوال البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية شديدة السوء..فعندما تولى قطزالحكم كان الوضع السياسي الداخلي متأزماً للغاية(كانت البلاد خالية من القادة ومملؤة بالقوادين!!) إذ حكم مصر خلال عشرة أعوام ستة حكام . الحالة الاقتصادية للبلاد كانت أشد سوءا من جراء الحملات الصليبية المتكررة .بدأ قطز فى ترميم البيت من الداخل اذ كانت جدرانه مصدعة مشروخة ونظم فوضى الحياة فى بر مصرواستطاع أن يستبدل كل عنصرنقص بعنصرمن الكمال ما استطاع. فعمل على مصالحة المماليك المعزية على المماليك البحرية واستقدم ركن الدين بيبرس الذى كان هاربا وسعى إلى الوحدة مع الشام أوعلى الأقل تحييده دون أن يتعاون أمراؤه مع التتار ضده لكنه فشل وفضل أمراء دمشق وحماة أن يتحالفوا مع التتارإذ كانوا( كالهرمة من الكلاب فى مرابضها يمربها أصناف الناس فلا تتحرك وإن مر بها كلب مثلها نهضت إليه بأجمعها حتى تقتله) فكان مصيرهم فى الحضيض الأسفل من التاريخ..كما كثيرون قبلهم وبعدهم. ووصلت رسل هولاكو إلى مصر يحملون رسالة تهديد لقطزجاء فيها (بسم إله السماء الواجب حقه الذي ملكنا أرضه وسلّطنا على خلقه ممن حل بها غضبه....فلكم بجميع الأمصار معتبر وعن عزمنا مزدجر.. ..)إلى أخر الرسالة فجمع قطز مستشاريه وأطلعهم على الرسالة فرأي بعضهم الاستسلام للتتار(يريدون أن يعيشوا بأي شكل) فقال لهم قطز:أنا ألقى التتار بنفسي ثم صرخ فيهم وهو يبكي(من للإسلام إن لم نكن نحن)فقام الجميع وبايعوه على الجهاد وعلى نحو حاسم فاصم قام بقطع أعناق الرسل الذين أرسلهم إليه هولاكو(والمشاكل المجنونة لها حلول مجنونه أحيانا)وعلّق رءوسهم في الطرقات وابقي علي واحد ليحمل الأجساد لهولاكو.وأُرسل الرسل تنادى بالجهاد وكان سلطان العلماءالعز بن عبد السلام ينادى فى الناس بنفسه وبدأت الحرب وكادت الهزيمة تلحق بالمسلمين فما كان من قطز إلا أن نزل ساحة القتال بنفسه..وألقى بخوذته على الأرض وأطلق صيحته الشهيرة:وإسلاماة..وعدل مسار التاريخ .. أين في الرمضاء ظل من ظلالك يا قطز.. وانتصرالمرعوبون..انتصرواإذ تصالحوا مع دينهم وفيما بينهم..انتصروا إذ نشروا العدل فى البلاد..انتصروا إذ أدركوا أهمية العقيدة فى بعث الهمم وشد العزائم..انتصروا إذ أحبوا الموت وكرهوا حياة الذل والصغار .. وتمر السنون وتمضى الشجون وتبقى الحقيقة..حقيقة العزوالذل..الذى كان قد أدركها قطز حين أطلق صيحته عبر الزمان..وسيظل طموح الأمة طموحا معاقا إن لم تدرك هذه الحقيقة. د/ هشام الحمامى [email protected]