هذه هى الحلقة السادسة من رحلتنا مع الحروب الصليبية ، نتناولها من خلال قراءتنا فى كتاب ماهية الحروب الصليبيبة للدكتور قاسم عبده قاسم ، وقراءات أخرى . ولقد تناولنا فى الحلقات الخمس السابقة : الايدولوجية الصليبيية ، والظروف التاريخية والدوافع ، و خطبة البابا والاستجابة الشعبية ، والحملة الصليبية الاولى وإغتصاب القدس ، وبدايات الوحدة والمقاومة والتحرير . واليوم نتناول دور مصر ، وصلاح الدين الأيوبى ، وتحرير بيت المقدس ، والحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك الانجليزى ريتشارد الأول ، الشهير بريتشارد قلب الأسد ، والأكثر شهرة لدى المواطن العربى ، بفضل فيلم الناصر صلاح الدين للمخرج السينمائى يوسف شاهين . * * * بعد تحرير الرها على أيدى نور الدين محمود عام 1154 ، و تماسك الجبهة الشمالية العربية الاسلامية فى مواجهة الصليبيين ، بدأت انظارهم تتجه الى مصر حيث ساد الضعف السياسى الشديد فى السنوات الأخيرة من حكم الخلافة الفاطمية . وكان اتحاد حلب ودمشق تحت حكم نور الدين قد جعل من غزو مصر الحل الوحيد لنجدة الصليبيين . خاصة وانها بمواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة كفيلة بترجيح كفة من يستولى عليها أو يضمها الى جانبه ، ولقد خشى الصليبيون بان تقع فى يد نور الدين هى الأخرى ، فقرروا ان يأخذوا بزمام المبادرة . الوضع فى مصر : • كانت مصر تحت حكم الخلافة الفاطمية منذ 969 م . • ومع قدوم الحملة الصليبية الاولى كان الدولة الفاطمية اشبه بالرجل المريض الذى ينتظر الجميع نهايته والاستيلاء على تركته . • وكان الصليبيون قد نجحوا عام 1153 م فى الاستيلاء على مدينة عسقلان من المصريين والتى كانت تمثل تهديدا لوجودهم فى فلسطين . • اما داخل مصر فمنذ وزارة بدر الدين الجمالى عام 1073 م صار الوزراء هم اصحاب السلطة الحقيقية واصبح الخلفاء الفاطميين العوبة بايديهم . • و بعد اغتيال الأفضل بن بدر الجمالى عام 1121 م دخلت البلاد فى دوامة من المؤامرات والدماء لم تنتهى . • والتى كان من آثارها انه فى عام 1163 م ، نشأ نزاع على كرسى الوزارة فى مصر بين رجلين هما ضرغام وشاور ، وقد هرب الأخير الى الشام يستنجد بنور الدين محمود ، من ضرغام الذى نجح فى الانفراد بالحكم . • وفى نفس العام 1163 م توفى بلدوين الثالث ملك بيت المقدس ، وخلفه أمارلريك الأول ( عمورى ) • وتحت حجة عدم دفع مصر للجزية التى تقررت عليها فى عهد سلفه ، قام امالريك 1163 بعبور برزخ السويس وحاصر مدينة بلبيس • ولكن تصدى له ضرغام ، وقطع جسور النيل بحيث شكلت مياه الفيضان واوحال الدلتا عائقا رهيبا جعل الصليبيين يعودون الى فلسطين . • ورغم هذا الموقف من ضرغام ، الا انه عندما علم ان نور الدين محمود قد قرر دعم شاور فى استرداد كرسى الوزارة فى مصر ، فانه هو الذى قام بطلب دعم الصليبيين ، الذين لم يترددوا واطلقوا حملة صليبية جديدة بقيادة ملكهم أمالريك الى مصر . • وكان نور الدين قد ارسل حملة الى مصر ، لدعم شاور ، بقيادة أسد الدين شيركوه وبرفقته إبن أخيه الشاب ذو السبعة وعشرين ربيعا صلاح الدين يوسف الايوبى . وقد نجحت الحملة فى دخول مصر واعادة شاور الى كرسى الوزارة . • ولكن شاور هو الذى قام هذه المرة بالاستنجاد بالملك الصليبيى للتخلص من نفوذ أسد الدين شيركوه . والذى استجاب فورا وهاجم مصر . • وخلال السنوات 1163 – 1169 قام الملك الصليبى بغزو مصر خمس مرات . • وبعد سلسلة من المعارك انتهى الأمر بانتصار جيوش أسد الدين شيركوه واستتباب الأمر له فى مصر . • وكانت المحاولة الأخيرة لهذا الملك الصليبى عام 1169 عندما فشلت حملته المشتركة مع البيزنطيين على مصر ، بعد ان حاصر ميناء دمياط 50 يوما . • و فى خضم هذه الأحداث قتل كل من ضرغام وشاور . • وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرا للخليفة العاضد الفاطم . • وبعد موته عام 1169 تولى صلاح الدين الوزارة . صلاح الدين يحرر القدس : • وفى 10 سبتمبر 1171 م اعلن صلاح الدين نهاية الخلافة الفاطمية واعادة مصر الى الخلافة العباسية . • وفى هذه الأثناء كانت دولة نور الدين محمود قد اتسعت لتشمل خمس عواصم هى دمشق والرها وحلب والموصل ثم القاهرة . • ولكن وافته المنية عام 1174 ، وتلاه الملك الصليبى امالريك فى نفس العام ، وخلت الساحة لصلاح الدين ، والذى استطاع بعد سلسلة من المنازعات والصراعات اعلان نفسه ملكا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسى عام 1175 م . • وقضى صلاح الدين فى مصر ستة سنوات 1176-1181 لترتيب الاوضاع الداخلية فى مصر والشام ، استعدادا للحرب ضد الصليبيين ، متجنبا قدر الامكان اى مواجهة كبيرة معهم قبل الأوان . • و طوال هذه الفترة ، لم تتوقف غارات الصليبيين على مصر ، عبر سيناء ، وبل انهم وصلوا فى أحد غزواتهم الى بحيرة البردويل . • وحاول رينالد دى شاتيون أمير الكرك ان يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكةوالمدينة وهاجم بالفعل بعض موانىء مصر والحجاز ، ولكن الاسطول المصرى سحق اسطوله تماما . • وبعد مرحلة الاستعداد ، قرر صلاح الدين بدء عملياته ضد الصليبيين ، وكانت قمة انتصاراته فى 4 يوليو 1187 فى موقعة حطين الشهيرة ، والتى أدت الى فقدان مملكة بيت المقدس لقواتها العسكرية الرئيسية ، وتم تدمير اكبر جيش صليبى امكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبى . • وبعد حطين كانت الأمور أشبه بنزهة عسكرية ، اذ سارعت المدن والقلاع الصليبية الى الاستسلام واحدة تلو الأخرى ، فتحررت عكا ويافا وبيروت وجبيل ثم عسقلان وغزة . • وفى 27 سبتمبر 1187 دخل صلاح الدين المدينة المقدسة وحررها بصورة انسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة . واقيمت خطبة الجمعة فى المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة طويلا . • ولم يتبقى بايدى الصليبيين سوى صور وانطاكية وطرابلس وبعض القلاع و الحصون المتناثرة على الارض العربية فى بلاد الشام . • وجاء رد الفعل الصليبى عنيفا ، فمات البابا اربان الثالث من هول الصدمة حين بلغته الأنباء . وبعث خليفته البابا جريجورى الثامن خطابا بابويا الى " كل المؤمنين فى الغرب " ووعدهم بغفران كامل لخطاياهم اذا شاركوا فى حملة صليبية جديدة ، وفرض صياما كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة ، والامتناع عن أكل اللحم فى أيام السبت والأربعاء . • وتم فرض ضريبة مقدارها 10 % على كل دخل وعلى الأملاك المنقولة ، عرفت باسم " عشور صلاح الدين " . الحملة الصليبية الثالثة : • واستلم شارة الصليب كل من الامبراطور الالمانى فردريك بربروسا والملك الانجليزة ريتشارد الاول والملك الفرنسى فيليب اغسطس . • وفى 11 مايو 1189 تحركت قوات الامبراطور الالمانى عبر ذات الطريق البرى الذى سارت فيه من قبل الحملة الاولى ، ولكنه لقى حتفه غريقا فى أحد انهار آسيا الصغرى عام 1190 ، واكتفت قواته بعدها بمشاركة رمزية فى هذه الحملة . • اما الملكين الانجليزى والفرنسى فتوجها بحرا الى صقلية ثم الى فلسطين ، وفى الطريق انتزع الملك ريتشارد قبرص من الحكم البيزنطى . • وكانت بقايا جيوش الصليبيين فى الشرق قد تجمعت فى مدينة صور . وبدأت الجيوش والامدادات الاوروبية تفد الى بلاد الشام . • وفى المعارك الاولى سقطت عكا فى يد الصليبيين عام 1191 ، وعاد فيليب اغسطس الى فرنسا . • بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان ، فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية ، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون ، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين ، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين . ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف 7 من سبتمبر 1191م ، والتى انتصر فيها الصليبيون . ثم اتجه ريتشارد إلى القدس ، ولكنه فشل فى الاستيلاء عليها. صلح الرملة : وبعد 16 شهرا قضاها الملك الانجليزى فى حروبه ضد المسلمين ، اضطر فى النهاية الى عقد صلح الرملة مع صلاح الدين عام 1192 ، وهو الصلح الذى ابقى الوضع على ما كان عليه . وقد نص على ما يلى : • أن يسود السلام بين الفريقين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. • أن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها قيسارية وحيفا وارسوف، وتبقى صيدا وبيروت وجبيل للمسلمين . • تكون عسقلان مدينة غير مسلحة في أيدي المسلمين. • تكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والصليبيين. • تبقى القدس في أيدي المسلمين على أن يكون للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأية ضريبة . بعدها ، أعلن صلاح الدين أن الصلح قد انتظم ، فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل بلادهم فليفعل . * * * وفى 4 مارس 1193 انتقل صلاح الدين الى جوار ربه ، بعد أن سطر سلسلة من الانجازات والانتصارات ، ما زالت تمثل مرجعية والهاما لكل الراغبين فى التحرر والنصر على مدار الأجيال و حتى يوما هذا . ولكن ظل للصليبيين وجودا فى الشام ، وظل خطر قدوم حملات صليبية جديدة قائما ، ومر قرن آخر قبل ان يتمكن العالم العربى الاسلامى من تحقيق التحرير الكامل والتام للارض المحتلة . [email protected]