علي الرغم من الجدل الكثير، الذي سمعناه في سياق الانتخابات التمهيدية الحالية في الولاياتالمتحدة، حول ماهية الدول المعادية التي يجب علي الرئيس الأمريكي المقبل العمل من أجل رسم الخطط للحديث معها، فإن الحقيقة التي قد يكتشفها هذا الرئيس هي وجود عدد قليل للغاية من الدول التي تنتظر اتصالنا بها من أجل إجراء محادثات معها. والحقيقة أنه يصعب علينا، تذكر فترة من فترات التاريخ حدث فيها كل هذا الكم من التحولات في وقت واحد، دون أن يكون سوي القليل منها في صالح الولاياتالمتحدة. دعوني أبدأ بأهم تلك التحولات وأكثرها عمقاً: إنني أزداد قناعة كل يوم، بأن أكبر فشل واجهته السياسة الخارجية، في عهد هذه الإدارة، ليس الفشل في إدارة العراق- علي الرغم من أبعاده الكارثية- وإنما هو فشل آخر ذو تداعيات واسعة النطاق علي موازين القوي الحالية، وأقصد به فشل الولاياتالمتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر، في وضع سياسة فعالة للطاقة. والأمر الذي يصيبني بالحيرة هو تفضيل الرئيس بوش لزيارة السعودية مرتين خلال أربعة شهور، من أجل مناشدتها تخفيض أسعار النفط، بدلاً من قيامه بمطالبة الأمريكيين بقطع 55 ميلاً في الساعة، وشراء السيارات التي تتميز بالكفاءة في استخدام الوقود، وحثهم علي القبول بضريبة كربون أو ضريبة بنزين، يمكن أن تساعدنا علي التحرر مما يطلق عليه "الإدمان علي النفط". ارتفاع سعر برميل النفط إلي 200 دولار يعني أن "أوبك" يمكنها شراء "بنك أمريكا" بحصيلة شهر واحد، وشركة "آبل" للكمبيوتر بحصيلة أسبوع، و"جنرال موتورز" بحصيلة ثلاثة أيام! وفشل بوش في التعبئة العامة لأقوي أداة إبداعية في العالم- الاقتصاد الأمريكي- من أجل إنتاج بديل عملي للنفط، ساعد علي توفير الظروف الملائمة لصعود طائفة من الدول البترو- سلطوية بدءاً من روسيا إلي فنزويلا إلي إيران، وهي دول تشرع في الوقت الراهن في إعادة صياغة السياسات العالمية وفقاً لرؤيتها. وإذا ما استمر هذا التحول الهائل للثروة إلي البلاد البترو- سلطوية، فإن القوة ستكون هي التالية حتماً. وفقا للشهادة التي أدلي بها "جال لوفت" خبير الطاقة أمام الكونجرس مؤخراً، فإن ارتفاع سعر برميل النفط إلي 200 دولار سيعني أن "أوبك" يمكن أن تشتري"بنك أمريكا" بحصيلة شهر واحد من الإنتاج، وشركة" أبل" للكمبيوتر بحصيلة أسبوع، و"جنرال موتورز" بحصيلة ثلاثة أيام فقط!. ليس هذا هو كل شيء، فهناك كتابان مهمان نشرا مؤخراً يصفان تحولات أخري كبيرة للقوة: الأول، هو الكتاب الموسوم"عالم ما بعد أمريكا" لمؤلفه "فريد زكريا"، رئيس تحرير"نيوزويك إنترناشيونال". والثاني، هو كتاب"الطبقة السوبر" لمؤلفه "ديفيد روثكوف" الأستاذ الزائر بمؤسسة "كارنيجي". الطرح المركزي في كتاب "فريد زكريا" يتمحور حول فكرة مؤداها أنه علي الرغم من احتفاظ أمريكا بالعديد من المزايا الفريدة، فإن" صعود الآخرين" أي الصين والهند والبرازيل، والدول المماثلة بل وحتي بعض اللاعبين الدوليين، الذين يعملون خارج إطار الدولة، يؤدي إلي تخليق عالم، تصعد فيه العديد من الدول بشكل بطيء ومطرد في آن إلي مستوي أمريكا من حيث النفوذ الاقتصادي، والتفوق في جميع المجالات. ويواصل"زكريا" طرحه فيقول إن أمريكا" قد اعتمدت طويلاً علي مواردها الطبيعية الهائلة، وجامعاتها المتطورة، وأسواقها الحرة وثروتها المتنوعة من المواهب البشرية، وافترضت أن تلك الموارد ستعوض عن انخفاض معدلات ادخارها، وعدم امتلاكها لنظام رعاية صحية، أو خطة استراتيجية لتحسين قدرتها التنافسية". ويري زكريا"أنه لم يكن هناك بأس في ذلك في عالم لم تكن فيه الدول الأخري تنجز" ولكن تلك الدول تركض في الوقت الراهن بأقصي سرعة، وتعمل بجد، وتدخر كثيراً، وتفكر للمدي الطويل. وأنها قد "استفادت من دروسنا وتلعب في الوقت الراهن لعبتنا"، وإننا إذا لم نقم بإصلاح نظامنا السياسي، ونبدأ في التفكير علي نحو استراتيجي حول الكيفية التي يجب أن نقوم بها بتحسين قدرتنا التنافسية، فإننا "سنعرض مركزنا المتميز والفريد في العالم لخطر التآكل في الوقت نفسه الذي ستواصل فيه الدول الأخري صعودها". أما "روثكوف"، فيذهب في كتابه المشار إليه أن نفوذ الدول- الأمم يتضاءل في الوقت الراهن في طائفة من أكثر القضايا أهمية في زمننا، وأن النظام الخاص الذي تستخدمه تلك الدول في معالجة وتناول الموضوعات العالمية، قد وصل إلي درجة من عدم الفعالية لم يسبق له أن وصل إليها من قبل، وهو ما يؤدي إلي نشوء حالة من فراغ القوة، الذي يتم ملئه من قبل مجموعة صغيرة من اللاعبين المنتمين إلي ما يعرف ب"الطبقة السوبر" التي تتكون من طبقة جديدة من النخب العالمية المهيأة بشكل أفضل للعمل علي الساحة العالمية، والتأثير علي المحصلات العالمية أيضاً بشكل يفوق- من حيث القدرة- معظم قادة الدول. ويضيف "روثكوف":"بعض أفراد هذه النخبة الجديدة ينتمون إلي عالم المال والأعمال، والبعض منهم أعضاء في نخب تحيط بها الغموض - مجرمون وإرهابيون- وبعضهم من أصحاب وسائل الإعلام الجديدة أو التقليدية، وبعضهم زعماء دينيون، وبعضهم مسئولون كبار في حكومات لديها القدرة علي نشر نفوذها وإبرازه عالمياً". والرئيس الأمريكي الجديد سيجد نفسه ملزماً بالتعامل مع هذه الدول الجديدة الصاعدة، وهؤلاء الأفراد النافذون، وتلك الشبكات المتشعبة، وهو مقيد في نفس الوقت بتلك القيود التي خلفتها له سنوات بوش في البيت الأبيض. لنطلق علي ذلك مسمي"العجز الثلاثي" كما يقول "روثكوف". وهذا العجز ينقسم حسب رؤيته إلي:"عجز مالي، وعجز تجاري يدفعنا إلي الاقتراض من منافسينا، إلي الدرجة التي تعرضنا للانكشاف، وعجز جيوبوليتيكي هو في الحقيقة من مواريث العراق". والقاعدة الأولي للخروج من الحفر عندما يجد المرء أو- الرئيس- نفسه في واحدة منها،هو أن يتوقف عن المزيد من الحفر أما عندما يجد نفسه في ثلاث حفر في وقت واحد، فليس أمامه في هذه الحالة سوي إحضار الكثير من المعاول.