أمريكا تنظر باهتمام إلي تحركات القيادة السعودية صوب الشرق، وزيارة خادم الحرمين الشريفين مؤخرا للهند والصين، والدخول مع هذه الدول في شراكات اقتصادية وأمنية لم تكن مطروحة بهذه القوة من قبل. سوف تنشر هذه المقالة وتكون زيارة الرئيس بوش الطويلة للشرق الأوسط قد انتهت، وعاد الرجل إلي بلده حاملا حصادا متنوعا يتراوح بين نجاح وفشل. ليس من رأي كمن سمع كما يقولون. فلاشك أن الرئيس بوش قد سمع كثيرا من مستشاريه قبل مغادرته واشنطن إلي الشرق الأوسط، لكنه بعد انتهاء الزيارة يكون قد رأي وسمع الكثير من المنطقة نفسها. كان لزيارة بوش هدفين رئيسيين تم الإعلان عنهما قبل الزيارة. الأول: إعطاء دفعة قوية لعملية السلام في الشرق الأوسط في أعقاب مؤتمر أنابوليس علي أمل الوصول إلي اتفاقية سلام قبل نهاية العام؛ والثاني: تقوية تحالف الولاياتالمتحدة سياسيا وعسكريا مع معسكر الاعتدال في المنطقة ضد التهديد الإيراني والدول والجماعات المشايعة له. ولم يدخل بشكل جدي في إطار هذه الزيارة الموقف في العراق أو الأزمة اللبنانية، لكن كان الموضوعان بطبيعة الحال حاضرين علي الهامش، وجاهزين للاستدعاء خلال المحادثات في أية لحظة. وما حدث بالفعل أن الزيارة قد تحولت من زيارة وداع كما اعتقد البعض وأنا منهم إلي مباراة شطرنج ساخنة بين الولاياتالمتحدة وحلفائها من جهة، وبين تحالف القوي المضادة التي وجدت في الزيارة مناسبة يجب استغلالها للنيل من بوش والولاياتالمتحدة من جهة أخري. ومن غير المعروف حتي الآن طبيعة النوايا الحقيقية عند الطرفين بالنسبة للمستقبل: هل كان ما حدث قبل وأثناء الزيارة من تحرشات من قبيل إعلاء سقف الشروط قبل الدخول في مرحلة مفاوضات يكون كل طرف فيها مستعدا لتقديم تنازلات للطرف الآخر؛ أم أن ما حدث كان مقدمة ضرورية للانقضاض وتكسير العظام والدخول في صراع شامل طويل حتي النهاية. يتذكر الجميع أن مؤتمر أنابوليس قد اٌستقبل بهجوم من إيران وحزب الله ومن القوي الإسلامية الشرعية وغير الشرعية بوصفه مؤامرة غربية لتصفية القضية الفلسطينية، وفي المقابل _ وبعد تردد _ وافقت الدول العربية علي المشاركة بوزراء الخارجية في حضور سوريا لكن ذلك لم يمنع استمرار الصراع العسكري بين إسرائيل وبعض الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية إلي درجة استخدام الطائرات من جانب إسرائيل، والصواريخ ومدافع الهاون من جانب الفلسطينيين. لكن الإنجاز الأكبر لسوريا وإيران قبل الزيارة مباشرة كان في إفشال جهود الولاياتالمتحدةوفرنسا في حل الأزمة اللبنانية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية هناك. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سبقه اغتيال وخطف لفرنسيين في موريتانيا، واغتيال دبلوماسي أمريكي في السودان، ثم مؤخرا مقتل أمريكي وجرح آخرين جراء تفجير سيارة مفخخة في بيروت. وبمجرد أن وضع الرئيس الأمريكي قدمه في المنطقة، تم الإعلان عن تحرش قوارب حربية إيرانية بقطع من الأسطول الأمريكي في الخليج. والحادث وصفته السلطات الأمريكية بأنه الأخطر منذ سنوات، وأن تكرار حادث مثله مرة أخري يمكن أن يشعل الحرب بين إيرانوالولاياتالمتحدة. الأمر المدهش أن زيارة بوش قد تقاطعت مع زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي للمنطقة، وقد عرض ساركوزي من جانبه اشتراك فرنسا في برامج تعاون عسكري مع دول الخليج. وبرغم تبني ساركوزي للخطاب الأوروبي التقليدي حول القضية الفلسطينية، إلا أنه حرص علي التعبير عن قلقه من التهديد الإيراني وهو في ذلك يتبني موقفا قريبا من الولاياتالمتحدة. وليس مستبعدا وجود نوع من التخطيط المشترك بين الولاياتالمتحدةوفرنسا في شأن إيران والقضية الفلسطينية التي يري ساركوزي أن الوصول إلي حل لها سوف يصب في خانة التغلب علي قوي التطرف في المنطقة وسلبها أحد أسلحتها الأساسية. ولقد توازي مع زيارة بوش اجتماع دول الجامعة العربية علي مستوي وزراء الخارجية بغرض الوصول إلي حل للأزمة اللبنانية، وملء الفراغ الدستوري في مقعد الرئاسة، وتحقيق إنجاز عربي بعد أن فشل المسعي الأمريكي والأوروبي في حل المشكلة. وللأسف لم ينجح عمرو موسي والوفد المرافق له إلي بيروت في فرض رؤية الجامعة العربية علي أطراف الصراع هناك. وكانت الجامعة تتطلع إلي تحقيق مكسب سياسي في لبنان يمكن من خلاله دعم المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. . وبرغم كل ذلك كان الفشل متوقعا، لأن التدخل العربي في لبنان لم يكن يصب في صالح معسكر الممانعة الإيراني السوري، ثم إنه جاء وسط مباراة جارية بالفعل محورها زيارة الرئيس الأمريكي للمنطقة والإصرار علي خروجه من هذه الزيارة خالي الوفاض تماما. وبرغم عودة عمرو موسي من لبنان بدون تحقيق نتائج ملموسة إلا أنه عازم علي معاودة الكّرة والسفر مرة أخري إلي لبنان لأن مثل هذه الأمور من الصعب حلها من أول محاولة. وقد حذر الرئيس مبارك الأجنحة اللبنانية من خطورة الموقف، وضرورة انتباه أطراف النزاع إلي أن الموقف يتحرك صوب كارثة إذا لم يتم تدارك الموقف قبل فوات الأوان. وفي إسرائيل، وفي الضفة الغربية، اكتشف الرئيس بوش سهولة أن يطلق تصريحات يُرضي بها جميع الأطراف وسط أجواء معبأة بالتطرف من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. لقد ذكر في تصريحاته لأول مرة ضرورة الانسحاب الإسرائيلي إلي حدود 1967 وإنهاء الاحتلال، لكنه ذكر في المقابل ضرورة تعديل خط الهدنة، ولم يصدر منه ما يُطمئن العرب والفلسطينيين بالنسبة لعودة اللاجئين وكذلك ما يخص قضية القدس. والمفاجأة أنه وعد بالعودة إلي المنطقة مرة أخري بعد شهور لمتابعة التقدم في المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو بذلك يبعث رسالة إلي المعسكر المضاد أن زيارته للمنطقة ليست زيارة وداع، وأنه مدرك لحجم التحدي وقادر علي تحقيق ما وعد به، وأنه لن يترك المنطقة لقمة سائغة لقوي التطرف. وفي الكويت سمع الرئيس بوش مباشرة من رأس الدولة أن الكويت لن تسمح بشن هجوم علي إيران من أراضيها، وهو ما أكدته الرياض والإمارات للرئيس بوش، لكن ذلك لم يمنع إطلاق برامج جديدة لتسليح جيوش هذه الدول وتحديث قدراتها الدفاعية لردع القوة الإيرانية. وهناك مواضيع أخري كانت محلا للبحث في الرياض علي وجه الخصوص، وبدرجة ما في باقي دول الخليج، مثل موضوع أمن الطاقة، وارتفاع أسعار النفط إلي مستويات خيالية، وخطط دول المنطقة لدخول عصر الطاقة النووية، وتأثير كل ذلك علي الاقتصاد العالمي، والخوف من دخوله في دورة ركود جديدة. وبرغم أن تلك النوعية من الموضوعات لا ترقي في شهرتها الإعلامية إلي شهرة القضية الفلسطينية، إلا أنها أصبحت علي درجة من الخطورة بالنسبة للدول الصناعية الكبري والعالم الغربي بوجه عام حيث ضمتها قائمة المخاطر من منظور الأمن القومي لهذه الدول. وتتميز منطقة الخليج بأنها المرآة التي تعكس تحولات القوة علي امتداد الجغرافية الآسيوية، وأهمها بزوغ الهند والصين كقوي دولية صاعدة لن تأخذ وقتا طويلا قبل أن يصبح لها بصمتها الخاصة علي التحولات الدولية. ولاشك أن أمريكا تنظر باهتمام إلي تحركات القيادة السعودية صوب الشرق، وزيارة خادم الحرمين الشريفين مؤخرا للهند والصين، والدخول مع هذه الدول في شراكات اقتصادية وأمنية لم تكن مطروحة بهذه القوة من قبل.