في رحلة خارجية طويلة، قام خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز بجولة أسيوية واسعة لفتت الأنظار بأنها لم تكن رحلة تقليدية روتينية، بل هدفت إلي وضع أسس جديدة لسياسة المملكة العربية السعودية الخارجية تتماشي مع التطورات التي مرت بها هذه المنطقة والعالم خلال السنوات القليلة الماضية. والدليل علي أهمية هذه الجولة الملكية التي شملت الصين والهند وباكستان وماليزيا، وحجم النتائج المتوقعة منها، أنها أول زيارة لعاهل سعودي للهند منذ أكثر من خمسين عاما وأول زيارة لملك سعودي للصين علي الإطلاق بعد الاعتراف بها لأول مرة في 1990، وأول جولة واسعة يقوم بها مسئول سعودي علي هذا المستوي الرفيع يتم فيها توقيع هذا الحجم الكبير من الاتفاقيات ويثار فيها توجهات سياسية واستراتيجية جديدة لم تكن مطروحة من قبل. وباختصار فإن هذه الجولة الأسيوية للملك عبد الله تقول إن النظر السعودي الذي كان موجها من قبل صوب العالم العربي والغربي يلتفت الآن إلي حديقته الخلفية التي لم تحظ بنفس الاهتمام طيلة عقود طويلة تغيرت فيها الأحوال والقوي والمخاطر والفرص. أسباب هذا التحول كثيرة، ويأتي في مقدمتها أن مركز ثقل التغيرات والأحداث العالمية قد انتقل تدريجيا جهة الشرق وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتدخل الولاياتالمتحدة وحلفائها عسكريا في أفغانستان والعراق، وإعلان الحرب دوليا علي الإرهاب، وبعد رسوخ الاعتقاد بأن ذلك الفضاء الممتد من الخليج إلي الصين صار معقلا لتجمعات الإرهابيين وزعمائهم ومكانا لتطوير أفكارهم وخططهم. لكن البعد الأمني لم يكن هو الشئ الوحيد وراء تحول اهتمام السعودية جهة الشرق، بل كانت هناك أسباب أخري متصلة بظهور كل من الصين والهند علي الساحة الدولية كنمور عالمية جديدة علي المستوي الاقتصادي والعسكري. ولعل معدلات النمو المرتفعة للهند والصين خلال السنوات الأخيرة، وتزايد إقبالهما علي استهلاك النفط مع تصاعد قدراتهما العسكرية نوعا وكما، هو الذي فجر الاهتمام السعودي بتحويل حديقته الخلفية المهملة إلي بوابة رئيسية تطل علي آسيا الجديدة وتتفاعل معها. ويأتي هذا مصدقا بصورة عملية لمفاهيم "الشرق الأوسط الكبير" التي تعرضت لنقد واسع من الذين لا يرون العالم إلا من خلال نافذة عربية مغلقة؛ كما يتفق مع حقائق تراكمت مع الوقت متصلة بثروة النفط وارتفاع أسعاره وضرورة تجديد بنيته الأساسية، وزيادة حجم التحركات البشرية من آسيا إلي المنطقة العربية، ومن داخل المنطقة العربية ذاتها إلي هناك في صور هجرة وتجارة وسياسة وإرهاب قام بها الناس طواعية بحكم الحاجة والظروف والأفكار وبدون إذن من الدول؛ وكان علي الدول أن تتعامل مع كل ذلك وتغير من مفاهيمها السابقة. أهمية السعودية كدولة وكجغرافيا أنها في منتصف الطريق بين الشرق الأوسط القديم بحدوده المعروفة والشرق الأوسط الكبير بمساحته الممتدة حتي الصين. والسعودية بالإضافة إلي ذلك تعتبر أكبر منتج للنفط في العالم، وهذا النفط يذهب جزء مهم منه إلي القوي الاقتصادية الجديدة في آسيا النهمة للنفط مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية. وبسبب موقع المملكة الاستراتيجي ونفطها الغزير واقتصادها النامي، صارت مكانا لاستقبال العمالة الأسيوية بصورها المختلفة حتي وصل عدد العاملين الهنود في المملكة إلي حوالي 1.7 مليون عامل، وهذا النمط متكرر في بلاد الخليج الأخري المستقبلة ليس فقط للعمالة الهندية ولكن أيضا للعمالة الباكستانية والفلبينية. وهناك عامل إضافي يشكل النظرة السعودية وهو الإسلام. فالسعودية تعتبر نفسها الحامية الأولي لعقيدة الإسلام، فملكها يطلق علي نفسه "خادم الحرمين الشريفين"، كما يحج المسلمون في العالم إليها كل عام في موسم الحج وعلي طول العام من أجل العمرة، كما أن ما تنتجه من فكر ديني أصبح مؤثرا سلبا وإيجابا علي المسلمين في باقي دول العالم. وعندما نتكلم عن الإسلام والمسلمين فنحن نتكلم في الحقيقة عن الدول شرق السعودية وليس غربها، فهم الأكثر عددا وتعددا، وهم الذين في حاجة إلي المساعدة والدعم، خصوصا في البلاد ذات الأقلية المسلمة مثل الصين والفلبين وتايلاند. لو تكلمنا عن الصين نجد أنها تستورد حاليا من السعودية حوالي 480 ألف برميل في اليوم، وهو لا يمثل نسبة كبيرة من مجمل استهلاك الصين الذي يصل إلي 6.9 مليون برميل يوميا والذي تستورده الصين من دول أخري مثل إيران. لكن المهم أن 75% من النفط الواصل إلي الصين يمر بالخليج والمحيط الهندي وهذا يعني "أمنيا" مسئولية حماية الممرات المائية الواصلة إلي الصين حتي لا يواجه اقتصادها بأزمة نفطية تهدده أو تقضي عليه. ونفس الكمية من النفط تقريبا تستوردها الهند من السعودية لكنها مثل الصين تتزايد فاتورتها النفطية مع النمو الاقتصادي، ويتم ترجمة ذلك إلي علاقات أمن واقتصاد مع الدول الأخري. ومثل الولاياتالمتحدة الذي بدأ أهتمامها منذ خمسين سنة بالممرات المائية المؤدية للنفط، ومن أجله تم نشر الأسطول السادس في المتوسط والتفكير في حلف الناتو، ثم بعد حرب 1973 التفكير في تكوين احتياطي استراتيجي نفطي عملاق يغطي احتياجات الولاياتالمتحدة لمدة 6 أشهر؛ علي نفس النمط تفكر الصين في تخزين 100 مليون برميل داخل أراضيها كمخزون استراتيجي يكفيها لمدة شهر علي الأقل، ونفس التفكير ربما أيضا يراود الهند. وهي أشياء قد تبدو صغيرة لكنها من "العلامات الصغري" لولادة قوة عالمية، وتتلخص في حجم ما تحتاجه الدولة من طاقة وهو ترجمة لتقدمها الاقتصادي والاجتماعي، وبقدر ما تفكر في حماية استمرار توافر هذه الطاقة وبأسعار مقبولة. ولا يقتصر الأمر علي ذلك بل ينتقل إلي التفكير في دخول الدولة إلي مجال التنقيب والبحث عن النفط والغاز وهو مجال احتكرته الدول الغربية لفترة طويلة. فالصين دخلت هذا المجال بالفعل في إفريقيا وتتطلع إلي أن تجد موقع قدم لها في منطقة جديدة مثل الربع الخالي في السعودية. ونفس الاهتمام نجده عند الهند ربما في صورة مشروعات مشتركة مع السعودية، وفي هذا الإطار يمكن للصين والهند أن ينقبا عن النفط في السعودية، ويمكن للسعودية في المقابل أن تشارك في إقامة مصاف ومعامل تكرير للنفط علي الأرض الصينية والهندية بعد أن اكتشف العالم أن أزمة النفط الحالية ترجع في جزء منها إلي أن البنية الأساسية المتعاملة مع النفط لم تعد كافية للاستجابة لمعدلات الزيادة الحالية في استهلاك النفط. فالصين علي سبيل المثال تمتلك 50% من حقل ياراكان في إيران في مقابل 100 بليون دولار لشراء النفط من إيران لمدة 30 عاما. ولقد دفع التقدم الاقتصادي الصين إلي عدم الوقوف علي حافة العالم، بل سارعت إلي افتتاح سفارة لها في بغداد، وقدمت دعما ماليا للانتخابات العراقية، وشاركت في حوار للمنتجين والمستهلكين لنفط الخليج، وأعضاؤه السعودية والكويت والعراق وإيران والإمارات من ناحية والهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية من ناحية أخري. عندما تصل الأمور إلي تلك الدرجة من التداخل يقفز الأمن الإقليمي إلي السطح، أو بتفسير آخر يقفز السؤال المهم: "كيف يمكن حماية التقدم؟" أو بصورة أخري "كيف يمكن أن نجعل التنافس من أجل التقدم سلميا؟". البداية تكون عادة بطرح السؤال عن كيفية التعامل مع القوي التقليدية القديمة الموجودة أصلا في المنطقة منذ أن عرفت المنطقة النفط مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وكيف يمكن السيطرة علي التنافس الصيني الهندي، والصيني الياباني، والهندي الباكستاني، وكيف يمكن مكافحة الإرهاب العدو الأول للنمو والاستقرار. في هذا الإطار من الصعب أن تبقي السعودية ودول مجلس التعاون بعيدة عن التنسيق المشترك وهناك قضايا حساسة قريبة من حدودها مثل قضية التسلح النووي الإيراني التي يمكن في أية لحظة أن تنفجر في وجه الجميع. وهناك بالفعل من يتحدث في ظل هذه التغيرات عن "ناتو أسيوي" يفعل ما فعله الناتو الأوروبي الأمريكي في حماية أوروبا من مخاطر أيديولوجية وأمنية كانت محيطة بها. هناك ملاحظة أخيرة علي زيارة العاهل السعودي الأخيرة لعدد من الدول الأسيوية، ملاحظة تتعلق بعلاقة الغرب بالإسلام ومستقبله معه وما يحيط ذلك المستقبل من شكوك وضعف في الثقة، الأمر الذي سوف يدفع دولة مثل السعودية وغيرها في المنطقة العربية ممن كانوا حلفاء للغرب وربطوا مستقبلهم معه إلي التفكير في البحث عن رفقاء طريق آخرين ليس بوصفهم بديلا عن الغرب، ولكن بمنطق الاعتراف بأن أرض الله واسعة، وأن في كل أرض مصلحة يجب السعي من أجلها.