لا أعتقد أن احدًا في بر مصر لم يسمع أويعرف بحقيقة الذي جري ولأول مرة في قاعة محكمة الجنايات يوم 29/5/2007 بل انني لا أبالغ عندما أقول بأن ما حدث وإن كان يشكل سابقة جديدة وخطيرة فيما يحدث بقاعات المحاكم المصرية إلا انه - وهذا هوالمفزع - يؤرخ لمرحلة تصور البعض منا فيها انه من حقه أن تصدر المحاكم أحكامها طبقا لرغباته وتحقيقًا لأهوائه، وإن لم يتم ذلك فله أن يسب هيئة المحكمة وأن يقوم الجمهور المشاغب الذي يستحضره لذلك الغرض بالاعتداء بالضرب علي الحضور وعلي سكرتارية المحكمة، ولا بأس من العبث بأوراق وملفات القضايا وتمزيقها، وكذلك تحطيم كل ما يمكن تحطيمه في قاعة المحكمة بما في ذلك نزع مقاعدها وتكسير وخلع منصة هيئة المحكمة وتدمير أجهزة وكاميرات البث التليفزيوني، ولا مانع بتاتًا من تحطيم أكبر عدد ممكن من السيارات الخاصة بالمتقاضين والأهالي ويا حبذا لوكان من بينها بعض سيارات الأمن المنوط بهم حفظ النظام وتأمين الجلسات!! لقد سبب لي هذا الحادث المروع وذلك السلوك المنفلت وتلك الهيستريا والبلطجة المستحدثة إزعاجا وخوفا وحزنا لا نهاية له صحيح أن حالات انفلات السلوك والعنف اليومي قد أصبحت - بكل أسف - ملمحًا أساسيا في ثقافتنا الحياتية اليومية، واننا قد قبلنا مكرهين الخضوع لهذه الثقافة الكريهة في كل ما يدور حولنا ولكننا لم نكن لنتصور مطلقًا أن يمتد كل ذلك الانحطاط إلي قاعات المحاكم وأن يطال هذه المؤسسة المقدسة المهيبة، وأن يستمرئ بعض السفهاء منا التجاوز والتطاول علي سدنة العدالة ورموز ما بقي لنا من كرامة واحترام وتبجيل. وإذا امعنا النظر قليلاً في فلسفة ما دار بقاعة المحكمة المشار إليها فاننا سنجد جذورًا أعمق لما بدا علي السطح فخلال السنتين الأخيرتين قرأنا وسمعنا وشاهدنا عن ممارسات وأساليب جديدة في تعامل الدولة والحكومة مع القضاة في هذا الاطار تتجسد أمامنا مواقف عديدة لم يلق فيها القضاة وناديهم ما يوجب علي العامة ويفرض عليهم عدم المساس بذلك الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه كما كان يحدث في الماضي، ودعونا نكون صرحاء ونحن بصدد إعادة التفكير فيما حدث، ودراسة ممكنات عدم حدوثه مرة أخري في المستقبل فهل نسينا تعنت السلطة التنفيذية في استهداف هز صورة القضاة عندما حولت بعضهم "ممن كان لهم رأيهم الخاص في احداث الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة" إلي التحقيق علنًا وعلي رؤوس الاشهاد في استعراض للقوة هز بلا شك الصورة المحترمة للقضاء وللقضاة، والتي ترسخت في أذهان الجميع حتي انها باتت عقيدة راسخة لدي الخاصة والعامة علي مر السنين؟ ألم نلاحظ خلال الفترة الأخيرة العديد من المماحكات والتشكيك الخفي بخصوص كنه وطبيعة نادي القضاة ودوره وعلاقته باعضائه وصلاحياته بل ان الأمر تعدي ذلك للحديث بخبث عن الأمور المالية للنادي ومسئولية مجلس إدارته الحالي في كل ذلك؟ لمصلحة من كان افتعال وجود انشقاقات بين النادي المركزي للقضاة في القاهرة، وأندية القضاة في بعض المحافظات؟ ولماذا لجأت وسائل الاعلام الحكومية للتهليل وللترحيب لابراز تلك الانشقاقات وتعميقها ولمصلحة من؟ أليس بصحيح ما تعرض له بعض القضاة من تجاوز صاحبه استغراب مواز من أطراف اخري ذات مصلحة إلي درجة أن احدهم تعرض - بكل أسف - للضرب المبرح عند وقوفه أمام نادي القضاة مما نتج عنه حدوث كسور وجروح عديدة اصابته وألمت به علي قارعة الطريق وعلي مرأي ومسمع من الجميع؟ ألم يكن موقف القضاة الشجعان الذين كشفوا التزوير وفضوه وأعلنوا عنه وتأييد ناديهم لهم هوالقشة التي قصمت ظهر البعير في علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية الأمر الذي أدي في نهايته إلي تغيير المادة المتعلقة بذلك في الدستور لكي تنتهي وإلي الأبد القاعدة الذهبية لنزاهة الانتخابات في مصر والتي كانت تضمن وجود قاض لكل صندوق انتخابي؟! اعتقادنا وقناعتنا تجعلنا نحس بأن الاجابة بتجرد وموضوعية علي تلك الاسئلة قد يفضي بنا لادراك الأسباب التي ترسخت في اللاشعور المصري، والتي نتج عنها حوادث عديدة تشير في مجملها إلي لجوء بعض المتهورين منا إلي الاستخفاف بمكانة القضاء وقدسية المحاكم، ولعل ما حدث في محاكمة السيد/ مرتضي منصور وما صاحبها من هوس وانفعال وانفلات للسلوك لهوخير شاهد علي ما ذهبنا إليه لكل ذلك فانني اعتقد بوجود رابطة ما بين الذي يحدث في ملاعب كرة القدم عندنا، وبين الذي شاهدناه مؤخرًا في قاعات المحاكم، وأرجوأن يعذرني القارئ في تلك المقارنة التي لا تجوز بالطبع، أو التي ينبغي أن لا تجوز في أي زمان أو مكان ولكن ما باليد حيلة ففي الحياة الاجتماعية المصرية تكثر التجاوزات وينتشر التطاول ويغيب المنطق كثيرًا وتسود ثقافات غريبة ومشينة تدفعنا دفعا لمقاربة ومشابهة ما يدور في جميع ملاعب الكرة عندنا بما يدور الآن في بعض المحاكم وخصوصا التي تشهد قاعاتها النظر في قضايا تخص بعض علية القوم أوقضايا الرأي العام، ولغرض التوضيح فانني استبيح القارئ العزيز عذرًا ليتدبر معي الأفعال والآليات المشتركة بين اللاعبين "المقتاضين" في علاقتهم بحكام المباريات "القضاة علي المنصة" ففي الحالة الأولي تقوم قيامة اللاعبين والجمهور لمجرد أن يتخذ حكم المباراة قرارًا في غير صالحهم أولصالح النادي المنافس، ولقد قدر لي وأنا في مستهل شبابي، وعندما كنت أذهب أحيانًا لمشاهدة بعض المباريات الهامة وقتها في استاد النادي الأهلي بالجزيرة أوفي استاد القاهرة بعد ذلك أن تتلوث مسامعي وحواسي بأكبر قاموس "ربما في العالم بأسره" من الشتائم والبذاءات والألفاظ النابية فالمطلوب من الحكم تحت هذه الظروف الضاغطة أن يحكم لصالح ذلك الفريق وهذا الجمهور الزاعق المنفلت، وإلا فعليه اللعنات والسباب ابتداءً بأمه "ولا أعرف لماذا الأم بالذات" وانتهاءً بدينه!! إذن فالمطلوب أن يحكم حكم المباراة بما نحبه ونرغبه بغض النظر عن مدي قانونيته وهكذا انتقلت ربما تلك الثقافة اللعينة لتستقر أخيرًا في قاعات المحاكم علي ما يبدوإلي الآن ففي أثناء النطق بالحكم الذي تضمن حبس النائب/ عماد الجلدة في قضية الرشوة بالهيئة المصرية للبترول شهدت المحكمة "مثلها في ذلك ملاعب الكرة المصرية" ثورة عارمة من قبل أنصار النائب المذكور وحدث منهم ما سبق أن ذكرناه لا لشئ إلا لأن حكم المحكمة لم يعجبهم أولم يكن علي هواهم ونظرًا لشعبية النائب "اللاعب المشهور" فقد حشد لتشجيعه ومؤازرته نحو"400" مشجع قاموا بأداء الواجب عند النطق بالحكم داخل قاعة المحكمة وخارجها ويبدوانهم اخلصوا كثيرًا في عملهم إلي الدرجة التي تطلبت استعانة قائد الحرس بمدد إضافي من قوات الأمن المركزي للسيطرة علي الموقف بعد أكثر من "25 دقيقة" - حسبما نشر - من حالة الهرج والمرج0 التي ترافقت مع النطق بالحكم!