مصر بلد عجائبها كثيرة، وهي ليست عجائب علي مستوي الآثار والمدن القديمة والحديثة، وإنما علي مستوي الناس والأهم المخترعات السياسية. ولن أحدثكم عن الأقصر وأسوان، أو عن مكتبة الإسكندرية القديمة أو الحديثة، ولا حتي عن نسبة العمال والفلاحين التي جاءت في الدستور- نعم في الدستور- في سابقة لم يعرف العالم لها لاحقة، ولكن سأحدثكم عن آخر المخترعات التي لم يعرف لها مثيل في زمن أو عصر أو مكان. الأعجوبة الجديدة ذاعت عندما احتج واحد من نواب المعارضة _ زميل العلوم السياسية الدكتور جمال زهران- علي قيام الحكومة " بمنح" _ هكذا جاءت في صحيفة الأهرام يوم الأول من فبراير الجاري- مائة ألف جنيه لكل نائب من نواب الحزب الوطني لكي يستخدموها في تمويل مشروعات خاصة بدوائرهم، وهو الأمر الذي رد عليه الدكتور مفيد شهاب بأن الحكومة لم تعط نواب الحكومة فقط وإنما أيضا نواب المعارضة أيضا دون تمييز. وهكذا اكتملت أركان واحدة من عجائب الدنيا السبع السياسية والاقتصادية والاجتماعية معا في مكان واحد وتحت قبة مجلس الشعب المصري. فلم يحدث في تاريخ العالم فيما أعلم أن قامت حكومة " بمنح" أعضاء مجلس الشعب فيها مبلغا من المال لكي يقوموا بمشروعات خدمية ليس فقط لأن ذلك يخل خللا بالغا بمبدأ الفصل بين السلطات الذي يقول بأن الحكومة تقوم بالمشروعات ومجلس الشعب يراقبها، أما إذا قام أعضاء مجلس الشعب بالمشروعات فمن الذي سيراقبهم في هذه الحالة: الحكومة أم أعضاء مجلس الشعب الآخرون أم أن نلحق بالتعديلات الدستورية ونعطي هذه المهمة إلي مجلس الشوري؟!. وعلي أية حال فإن حكاية الفصل بين السلطات هذه فيها قدر غير قليل من السماجة القانونية، وعدم الفهم لقواعد الفصل بين السلطات علي الطريقة المصرية المستمدة من التقاليد الفرنسية العريقة في مبدأ الخلط بين السلطات؛ ولكن من قال إن أيا من أعضاء مجلس الشعب الموقر لديه القدرة علي تحديد حاجات الناس في الدوائر وليس مجلس الحي أو مجلس المحافظة أو حتي الناس أنفسهم عن طريق جمعياتهم الأهلية أو نواديهم الاجتماعية أو حتي ساحاتهم الشعبية؟!. والحقيقة أن الأعجوبة تصبح أضحوكة عندما يكون اعتراض الزميل العزيز جمال زهران ليس علي قيام الحكومة علي " منح" أعضاء مجلس الشعب مائة ألف جنيه، أو علي الخلل بمبدأ الفصل بين السلطات علي سماجته في الواقع المصري، وإنما لأن الحكومة ليست عادلة في التوزيع كما يحدث في حالات توزيع تأشيرات الحج علي نواب المجلس. معني ذلك أن اعتراض العضو الموقر يقوم علي أن الحكومة لم تحسن القسمة والعدل بين الأعضاء في توزيع الغنيمة المصرية علي ممثلي الشعب وليس أنه لا يوجد حق لدي الحكومة في إعطاء أفراد منحا نقدية أو عينية لأي سبب كان. أفهم أن تقوم الحكومة بوضع سياسة لدعم الجمعيات الأهلية التي تقوم بعمل مشروعات اجتماعية، وأفهم أن تدعم الحكومة حتي مؤسسات خاصة تقوم بخدمة المواطنين، ولكن أن تفعل ذلك الحكومة لأفراد مهما جل وعلا شأنهم فهو والله أعجوبة الأعاجيب في زمن حكومة نظيفة ورشيدة أيضا. والأدهي والأمر أنه في زمن الشفافية لا بد وان تعرف من هم هؤلاء الأفراد وكيف تم اختيارهم، وما هي المعايير التي تم بها منح هذا ومنع ذاك، ليس فقط علي أساس من هم في حزب الحكومة أو في أحزاب المعارضة، ولكن من هم في الحضر ومن في الريف، ومن في المناطق الفقيرة ومن في المناطق الغنية، وهكذا. وربما كانت هناك طريقة أخري للتعامل مع الموضوع وهو أن تقوم الحكومة بمنح أعضاء مجلس الشعب جميعا هذه المنحة، وإذا شعر أعضاء مجلس الشوري بالغيرة فلماذا لا يتم منحهم أيضا مائة ألف جنيه خاصة وأن هناك أحزابا في المعارضة لم يسمع بها أحد. وعلي أي الأحوال فإن الحكاية سوف يمكن تركيبها بشكل آخر اعتمادا علي بعض التخمين. فما جاء من قصص هو ما أوردنا أعلاه، ولكن التفاصيل لن تكون بعيدة عن أن شخصا ذكيا ما في حزبنا الوطني الديمقراطي قرر أن الشعبية التي تحظي بها جماعة الإخوان المسلمين _ المحظورة بالمناسبة- ترجع إلي ما يقومون به من مشروعات اجتماعية خدمية وصحية. ولذا، وعلي سبيل المنافسة، فإن قيام العضو بمشروعات مماثلة سوف يحقق له وللحزب الشعبية المطلوبة. والفكرة كما نري سخيفة من أولها إلي آخرها، فشعبية الإخوان تعود في كثير من عناصرها إلي أسباب عدة أقلها أهمية المشروعات الخدمية التي يقدمونها، وهي ضئيلة بالمقارنة بالمشروعات التي أقامتها حكومة الحزب الوطني خلال الأعوام الأخيرة. ولكن كما هي العادة فإن الفكرة السخيفة تم تطبيقها علي طريقة الحزب الوطني الديمقراطي البيروقراطية الحكومية، فلا يوجد حل اجتماعي لمشكلة الخدمات، وإنما حل حكومي فج يتم بمقتضاه منح نائب الحزب الوطني، أو نائب من أحزاب المعارضة الصديقة مبلغا من المال لا يزيد عن ثمن عربة من عربات نيسان أو سيارة متوسطة الحال لكي يكتسب شعبية لم يستطع اكتسابها من خلال عمل سياسي واجتماعي جاد. والنتيجة كما هو معروف أن المبلغ لن يكون كافيا لشيء، ولا توجد طريقة أخري لدعمه وتطويره وجعل الخدمة قادرة علي دعم نفسها وتحقيق استمراريتها، ومن ثم وبعد فساد متوقع ينتهي المشروع علي لا شيء ويكسب الإخوان نقطة إضافية بإثبات كفاءتهم وفساد الآخرين في نفس الوقت. والحقيقة أن أعضاء ونواب الحزب الوطني يستطيعون الحصول علي الشعبية وخدمة دوائرهم حقا إذا ما قاموا أولا بالقيام بواجبهم النيابي كما يجب بحيث يحصل مواطنوهم علي سياسات إصلاحية تدفع بمعدلات النمو في مصر إلي آفاق أعلي مما هي عليه. وثانيا إذا ما تأكدوا أن المؤسسات الحكومية مثل المدارس والجامعات والمستشفيات والعيادات والضمان الاجتماعي والجمعيات الاستهلاكية تعمل بكفاءة عالية. وثالثا أن يبحثوا في واقع دوائرهم عن احتياجات المواطنين، والبحث معهم عن سد هذه الاحتياجات من خلال القدرات المحلية أو من خلال دعوة الاستثمارات الخارجية إلي الدائرة. وفي مصر توجد 222 دائرة، فهل يصعب علي نواب الحزب الوطني دون الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، ودون التعرض لتهم المحاباة والفساد، أن يقنعوا الصناعيين ورجال الأعمال بإقامة 222 مشروعا خدميا كبيرا ينفق عليها 222 مشروعا إنتاجيا صناعيا أو تجاريا. قوموا بذلك ولن تحتاجوا بعد ذلك لأي من عطايا الحكومة !. أيها السادة في الحكومة ومجلس الشعب والحزب الوطني الديمقراطي: أوقفوا هذه المهزلة فورا !.