حينما قابلت الشيخ حسن نصر الله لأول وآخر مرة في شهر فبراير عام 2000 ضمن بعثة صحفية أعجبت بالرجل كثيرا، ولم يكن ذلك راجعا لأنني أوافقه في الرأي، وإنما للطريقة التي عرض بها رأيه بهدوئها ومنطقيتها واستنادها إلي نظرة استراتيجية لها أول ولها آخر. وعندما خاض حربه الأخيرة، لم يقل الإعجاب حتي ولو اختلفت مع الذين يريدون وضع سماحته فوق المساءلة التي أعتقد أنه آن لكل العرب ألا يضعوا أحدا فوقها. فقبل وبعد كل شئ فإن رجلنا لم يقل كلمات تافهة مثل تلك التي كان يقولها صدام حسين مثل أم المعارك وما في نحوها، كما أنه لم يقل علي خصمه أنه "خرع" مثل الرئيس الخالد جمال عبد الناصر. وبشكل ما وبمعيار معين تستطيع القول أنه قد انتصر في الحرب الأخيرة، فإذا استبعدت ما جري للشعب اللبناني، والدولة اللبنانية باعتباره نوعا من تحصيل الحاصل أو باعتبارهما شاهدين علي الحرب وغير مشاركين فيها، وإذا استبعدت إعادة احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني باعتباره جاء نتيجة نذالة إسرائيلية غير مقبولة وبعد خسائر فادحة، وإذا استبعدت قرار مجلس الأمن وما جاء فيه من تحميل حزب الله المسئولية وصورة نزع سلاحه، إذا أخذت كل ذلك في الاعتبار فإن حزب الله انتصر بالفعل!!!. وفي هذه الحالة فإن أحدا لن يحتاج لإسرائيل لانتزاع اعتراف بالنصر لحزب الله لأن المعايير الإسرائيلية لا تتطابق معنا علي أية حال بعد أن سلمنا واحتفلنا بأن قيمة الإنسان الإسرائيلي أعلي بكثير من قيمة الإنسان العربي، فالأولي يجب المحاسبة عليها بقسوة أما الثانية فإنها تدخل في حسابات التضحيات التي ليس لها علاقة بالمعارك !. ومع ذلك فإنني معجب للغاية بالسيد حسن نصر الله لأسباب مختلفة تماما عن إعجاب كثيرين به بسبب موقفه أثناء الحرب اللبنانية الأخيرة، فقد حدد منذ بداية الأزمة أهدافه بصورة واضحة، هي أنه علي استعداد للقبول بوقف إطلاق النار إذا لم تكن الشروط "مذلة"، أما ما هو أقل من الإذلال فهو مقبول. وبالفعل عندما جاء قرار مجلس الأمن 1701 أعلن عن استعداده للتعاون في تطبيقه، بل انه لم يقدم حرجا للدولة اللبنانية عندما وافق وزراؤه علي إخلاء الجنوب من كل أنواع الأسلحة فيما عدا تلك التي تخص الدولة اللبنانية. وكان رجلنا من المرونة بحيث وافق علي نشر الجيش اللبناني المحروم من الوصول إلي جنوب البلاد، وكانت حجته مثالية فقد كان المنع بسبب الخوف علي الجيش أما وقد أصر الجمع اللبناني علي نشر القوات فلا بأس هذه المرة علي الأقل. هذه المرونة ليست معتادة من الثوريين العرب المعتادين علي قنوات الجزيرة، فالشيخ حسن نصر الله تصرف كرجل دولة مشغول بالرموز والإشارات بقدر اهتمامه بالكلمات الصريحة. وعندما كان يرسل إشارات التحذير من التصعيد لإسرائيل كان يحاول أن يجعلها حربا محدودة كما تصور منذ البداية، ولكن الإسرائيليين لم يقبلوا بقواعدا للعبة كما وضعها، وإنما وضعوا قواعد لعبتهم الخاصة التي كانت غاشمة للغاية. وربما كان ذلك سبب الاتجاه إلي المرونة والبرجماتية، وتلك كانت لها إشاراتها منذ البداية وحتي النهاية، عندما بشر صاحبنا اللبنانيين بتعمير البلاد منذ الأسبوع الأول من القتال، فإنه كان يؤكد علي حرب دخلها وهو كاره لها ولم يتوقع حدوثها. ولكن الإشارة باتت بشارة عندما أعلن الرجل عن بدء عمليات التعمير فورا، تماما كما فعل الرئيس أنور السادات عندما أعلن عن تعمير مدن القناة حتي قبل تمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء لأن ذلك معناه أن مصر في هذه الحالة لبنان لا تريد القتال مرة أخري. ولكن الدرس الذي أريد لجميع العرب أن يتعلموه من السيد حسن نصر الله هو إيمانه الذي لا يحد بدور القطاع الخاص في الحياة، وليس مقصودا عنا بالطبع أي حديث عن خصخصة المقاومة ونقلها لفرق خاصة غير الدولة تقرر قضايا الحرب والسلام لبقية الشعب سواء قبل أو أبي، وإنما المقصود تحديدا هو من حزب الله لكل من أضير منزله من الحرب مبلغ 12 ألف دولار لكي يقوم بالتعمير حسب طريقته وهواه وتقاليده. ولا يهمنا في إطار أهداف هذا المقال من أين جاءت الأموال، وما هي أغراض من منحها، فهذا علي أية حال قضية أخري، ولكن القضية هنا هي أن السيد حسن نصر الله لم يطالب من المواطنين أي مجموعة من الصور تدل علي أن المنزل قد تم تدميره، وبعدها يحصل الضحية علي المال فورا. تعالوا نتخيل المسألة في بلد آخر، ومصر مثال ناصع، فلو جري ما جري لدينا بسبب الحرب أو الكوارث الطبيعية لكانت الدولة هي التي حصلت علي كل المنح والمعونات، وشكلت لجانا تسد وجه الشمس للتعامل مع الواقعة الكارثة، وكانت هذه اللجان سوف تتفنن في طلب إثباتات لا نهاية لها وهي أن يكون لصاحب المنزل صورا سابقة تثبت أن المنزل المهدم لم يكن مهدما من الأصل، وأن هدمه كان بسبب العمليات الحربية، مع طلب عشرات من الشهادات من مهندسين علي أن المنزل لم يكن سيهدم علي أية حال بسبب إهمال صاحبه، أما من توفوا أثناء المعارك فإنه سيكون عليهم التقدم مباشرة مع عدد من الدمغات لإثبات أنهم ماتوا تحت الأنقاض وليس في مكان آخر. السيد حسن نصر الله لم يأبه لذلك كله، فالرجل في النهاية مثل كل اللبنانيين مؤمن باقتصاد السوق، فلا حك إصبعك مثل ظفرك، ولا يعلم شخص عن منزله المهدم إلا صاحبه، وهو وحده الذي يستطيع أن يبنيه بكفاءة وبأقل التكاليف ووفقا للتقاليد المتعارف عليها بين الجيران، وإذا كانت هناك حفنة من الغشاشين فإن هناك غالبية الناس من الصالحين الذين لن يحصلوا وقت الجهاد علي ما لا يستحقون. هذا درس بليغ من سماحة السيد حسن نصر الله لكافة الحكومات العربية، فلو فعل ما فعله آخرون وشكل شركات قطاع عام للتعمير والإسكان ومؤسسات قومية ووطنية للبناء والإنشاء، لبقي اللبنانيون في العراء ولسنوات طويلة. ولكن الله سلم، ولن يمر وقت طويل حتي تعود البيوت إلي مكانها، وفيها يسكن الناس لكي يعيشوا حياتهم في سلام، فرجلنا ليس لديه محيط من المال لكي يعيد التعمير مرة أخري. وربما توجد تساؤلات عن الطريقة التي أدار بها الأزمة سماحة الأمين العام لحزب الله، ولكن المؤكد هو أن قدراته أعظم في مجال البناء والتعمير.