لم يكن ممكنا أن تكون هناك حوارات بوسطونية من أي نوع حول الصراع العربي الإسرائيلي أو العالم دون حديث عن مصر وأحوالها. والحقيقة هي أن كل الحوارات الأخري حتي عن أمريكا ذاتها, وفلسطين, والأزمة الاقتصادية في الدنيا كلها. كانت تحوم دائما بشكل أو آخر وتأخذنا للحديث عن المحروسة وما يجري فيها. ولم يكن ذلك راجعا إلي أن مصر قوة عظمي, أو أنها الدولة الوحيدة التي يريد الأمريكيون الحديث عنها, أو حتي أنها أساس الاستقرار في الشرق الأوسط, وإنما لأنه يوجد فيها بشكل أو آخر جذور للدولة الأمريكية يصعب علي الكثيرين فهمها سواء كانوا في القاهرة أو حتي واشنطن لها علاقة بمصر. ولو كان لديك شك في هذه الحقيقة فما عليك إلا أن تعود إلي بعض الرموز الأمريكية المهمة التي ترتبط بمصر وتاريخها تم نسجها بالتاريخ الأمريكي المعاصر بأشكال شتي. وما عليك إلا أن تزور النصب التذكاري لمؤسس الولاياتالمتحدة جورج واشنطن حتي تجده علي شكل مسلة فرعونية فارعة تمثل محاولة الإنسان الاقتراب من السماء, ليس بالمعني المادي للكلمة ولكن بالمحتوي الرمزي والإنساني حينما يحاول البشر السمو الأخلاقي والاقتراب من القواعد الأخلاقية التي وضعها الله عز وجل. وبالمثل فإن الهرم الموجود علي ظهر الورقة المالية من فئة الدولار الواحد, حيث توجد صورة جورج واشنطن مرة أخري علي وجهها, يظهر ناقصا بينما تعلوه عين حارسة وسط دائرة ضوء مشعة ومتوهجة كالشمس. هنا فإن الهرم, مرة أخري, يمثل محاولة الإنسان الصعود نحو السماء من ناحية, ولكن عدم اكتماله يعني أن المهمة الحضارية لم تصل إلي منتهاها بعد, ومن هنا فإن المهمة الأمريكية هي استكمال ما بدأته مصر منذ خمسة آلاف عام أو تزيد. ليس معني ذلك أن الأمريكيين يؤمنون بالديانة الفرعونية القديمة, ولكن الموضوع هنا هو رسالة الحضارة التي بدأت في مصر, وبلورتها الديانات السماوية بصيغ مختلفة, ووجب علي الولاياتالمتحدةالأمريكية استكمالها بالتقدم العلمي الذي يوصل حكمتها لكل البشر. وإذا كان شائعا أن اليونان هي أصل الحضارة الغربية, فإن اليونان ليست هي البارزة في الرموز الأمريكية التي توجد فيها مصر بكثرة, ومن بعدها تأتي العمارة الرومانية التي تعكس عصورا وتقاليد واقعية حينما كان مجلس الشيوخ هو الحاكم الحقيقي لروما القديمة. أما روماالجديدةواشنطن فإنها استمدت حكمتها وتراثها من المصريين والرومان. هذا الشعور إزاء مصر والمصريين شعرت به مباشرة عندما حاولت الحصول علي عمل أثناء دراستي في الولاياتالمتحدة خلال السبعينيات من القرن الماضي, فإذا بالسيدة التي تتلقي طلبات العمل تبذل قصاري جهدها لكي أحصل علي الوظيفة. وفي ذلك الوقت كان الرئيس السادات قد قام بزيارته التاريخية إلي القدس, ولم يكن متصورا أن أحدا في العالم يستطيع أن يذهب بمثل هذه الثقة بالنفس إلي أرض الأعداء إلا إذا كان مصريا يشعر بآلاف الأعوام من الحضارة التي تحميه وتدفعه في الاتجاه الصحيح. وحينما ذهبت هذه المرة, كانت نصيحتي لأولادي هي الإعلان عن مصريتهم أينما حلوا أو تفاعلوا مع نظرائهم من الأمريكيين. كنت أعرف دائما أن اسم مصر له دائما فعل السحر, يفتح الأبواب, ويجعل المستمعين في حالة أخري مسالمة وصديقة. وقد لا يصدق كثير من المصريين أن استطلاعات الرأي العام لمعهد جالوب لديها ثلاثة أنواع من الدول المفضلة لدي الأمريكيين: المجموعة الأنجلو سكسونية وفيها المملكة المتحدة وكندا وأستراليا; ومجموعة الدول الحليفة وفيها اليابانوفرنسا وألمانيا وغيرها من أعضاء حلف الأطلنطي; وأخيرا مجموعة ثالثة ذات طبيعة خاصة تضم مصر وكوريا الجنوبية وإسرائيل. بعد ذلك تأتي قائمة طويلة من الدول غير المفضلة, ولكن مصر بقيت دائما علي حالها حتي وصدق أو لا تصدق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 التي خلقت فالقا بين الولاياتالمتحدة من جانب والعالمين العربي والإسلامي من جانب آخر. ليس معني ذلك إطلاقا أن هناك حالة دروشة أمريكية تخص مصر وتاريخها, أو أن هناك وضعا مماثلا لحالة الإجبتومانيا التي يقال إنها شائعة في فرنسا, أو أن الأمر يمثل حالة ماسونية تربط الولاياتالمتحدة الحديثة جدا, والمعاصرة للغاية, والأسرار المصرية القديمة كما جاء في رواية الرمز المفقود للروائي الأمريكي الشهير دان براون صاحب شفرة دافنشي الشهيرة أيضا. ولكن المعني هنا هو أن الحوارات عن مصر, خاصة عندما تكون مع جماعة من العلماء والأكاديميين الذين لم تلوثهم كثيرا حكايات الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي, فإن الصورة تكون مختلفة تماما. هنا يوجد المواطن العادي وليس باحث مؤسسة بروكينجز, أو الزميل في مؤسسة كارنيجي, أو العضو المؤسس في مجلس العلاقات الخارجية, أو كل هؤلاء الذين يملأون الدنيا مقالات ودراسات عن مصر لا بد أن تكون ساخنة للغاية, وإلا فإنها سوف تجد صعوبة شديدة في النشر أو التداول في البرامج التليفزيونية الشهيرة. هذا المواطن العادي, والأكاديمي المحترم في نفس الوقت, ليس لديه هجوم علي الحالة المصرية, وإنما يخالجه أشكال مختلفة من القلق, وأحيانا تساؤلات عما هو منشور في الصحف والمجلات والدوريات الأمريكية ويتم تداوله داخل شبكات عنكبوتية مختلفة بقدرة وإلحاح. وعندما جري الحوار مكثفا عن مصر, كانت مجلة الإيكونوميست اللندنية قد نشرت ملفها عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المصرية, وبشكل من الأشكال كان العدد هو المرجعية في الأنباء الواردة عن مصر بما اختلط فيه من نقد سياسي ومدح اقتصادي وتساؤل اجتماعي. وكان الجديد في الحوار ليس التداول حول المعلومات المنشورة, وإنما تقييمها انطلاقا من نقطة البداية التي كانت تحمل اعترافا بفشل المشروع الأمريكي الذي خلط الاستراتيجية بالتاريخ إلي الدرجة التي انتهي بها الأمر إلي حالة من الفوضي المنذرة. وبينما كان لدي الولاياتالمتحدة مصالح مشروعة في التعامل مع الإرهاب الذي دمر مركز التجارة العالمي في نيويورك وهاجم البنتاجون في واشنطن تستدعي إستراتيجية ناجعة لها أول وآخر, ولها وسائل ووسائط, ولها أهداف واضحة ومعروفة; فإن ما حدث فعلا هو أن الولاياتالمتحدة خرجت علي الدنيا بمشروع للهندسة التاريخية كانت نتائجها هي ما نراه الآن في أفغانستان حيث فقدت السلطة المركزية سلطتها علي أراضيها, والعراق حيث مضت الشهور دون قدرة علي تشكيل حكومة نتيجة عجز قوي سياسية منتخبة, ولبنان حيث تم بعد التهليل لثورة الأرز تسليم السلطة الحقيقية لفيتو حزب الله, والصومال حيث الفوضي الدائمة, وفلسطين حيث جرت القسمة الدامية بين من يريدون البناء ومن يرغبون في إطلاق الصواريخ علي أهلهم قبل أعدائهم. أين مصر من ذلك كله, وهل تستطيع المحافظة علي رأسها وسط منطقة ممتلئة بالطنين والضوضاء والحناجر العالية, ولماذا تكاد قضية الخلافة السياسية تكون الوحيدة من بين كل القضايا التي تشغل بال الجميع في مراكز البحوث والمؤتمرات؟ وحينما علقت بأن مصر الحديثة علي مدي أكثر من مائتي عام لم تعرف أبدا أزمة لتغيير رأس السلطة في البلاد حتي عندما ذهب زعيم مثل عبد الناصر, أو حتي عندما تم اغتيال قائد آخر مثل السادات; ولم يكن ذلك لأنه كان هناك نائب للرئيس, أو لأنه كانت هناك وراثة الملك في الأسرة العلوية, وإنما لأنه كان هناك في كل مرة قاعدة موضوعة مسبقا وواضحة لتداول منصب رأس الدولة. وهذه القاعدة, مهما اختلف الناس عليها وقد كنت من المختلفين موجودة وواضحة, وتحدد سبيل وطريق من يريد تولي المنصب الرفيع إذا كان مستعدا لولوج النضال السياسي من أجل الحصول علي أصوات الناخبين سواء عن طريق تسمية هيئة عليا لحزب شرعي أو السير علي طريق المستقلين الذي قد يكون صعبا ولكنه ليس مستحيلا. ولكن من قال إنه ينبغي أن يكون الوصول إلي منصب رئيس الجمهورية سهلا في أي تجربة من التجارب الإنسانية في الدول المختلفة; فقط المتقاعسون والمرفهون هم الذين يبحثون عن الطريق السهل الذي يأتي علي طبق من فضة, ولا يتطلب سعيا للحصول علي تسمية أعضاء من مجلسي الشعب والشوري وآخرين من مجالس المحافظات. والحقيقة أن ذلك كان هو الغرض الحقيقي للمشرع, أن المرشح المستقل الذي فشل في الائتلاف مع الآخرين في حزب سياسي, فلا بد له أن يقنع جماعة واسعة من السياسيين بأنه يستحق الدخول في المنافسة الكبري. وعندما قال الرئيس حسني مبارك إنه سوف يقوم بواجباته إزاء البلاد حتي آخر دقة في قلبه ونبض في عروقه فإن ذلك كان إشارة علي ما يجب أن يبذله السياسي الطبيعي في موقعه, وباللغة التي يعرفها العسكريون الذين خاضوا حروب الدفاع عن الدولة وكانوا دائما علي استعداد للتضحية بالروح من أجلها. ليس معني ذلك بالطبع أن النظام السياسي المصري مكتمل, أو أنه لا توجد هناك خطوات كثيرة وإصلاحات متعددة يجب الخوض فيها حتي تنقل مصر إلي مستويات أعلي من التقدم, وقد أوضحناها في حينها للمصريين من قبل, وللمتحاورين في بوسطن الآن, ولكن المسألة هي هل يستطيع هذا النظام التطور والتغيير بحيث يجري ذلك وفقا لقوانين التطور المصري, أم أن المسألة لا يتم حلها دون مشاهد نراها كل يوم في الجوار تظهر أكثر تعقيدا بكثير من السهولة التي تأتي بها المقالات الصحفية; أو السلاسة التي تزعم بها جماعات فاشية القدرة علي التحول من الدولة الدينية إلي الدولة المدنية وكأننا لم نر الذي جري أمام أعيننا؟ التجارب المختلفة التي عرفها العالم قالت إن الديمقراطيات التي أتت من خلال عمليات للهندسة التاريخية كانت فرصتها في النجاح محدودة; أما التجارب التي توافرت لها القواعد الاجتماعية والاقتصادية وبالتأكيد الثقافية فإن نجاحها كان مضمونا. الغريب في الأمر أن هناك تسليما بأن التغيير الاقتصادي والاجتماعي يجري في مصر علي قدم وساق سواء ما تعلق فيها بالإقليم أو في حركة السكان عليه; ولأول مرة فإن الشكوي الذائعة باتت في مصر حول توزيع الأرض بعد أن كانت القضية هي توزيع المال. والأرض لا تصير لها قيمة بعد جدب وبوار ما لم يتم استثمارها, والحرص علي عدالة توزيعها هو حرص علي عدالة الفرص المتاحة للاستثمار والتنمية علي هذه الأرض. هذه الروح من التنافس علي تحويل الأرض القفراء إلي مناطق واستثمارات عامرة بالحياة والخير هي من ناحية إدراك للإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها مصر, كما أنها من ناحية أخري تدافع بين الناس للاستفادة من هذه الإمكانيات. والناس هكذا في مصر يتغيرون, ولوقت طويل كانت تجري عمليات المقارنة بين مصر وكوريا الجنوبية علي أساس أن ناتجهما المحلي الإجمالي كان متساويا تقريبا في مطلع الستينيات, والآن فإن ناتجها يساوي عشرة أمثال مصر تقريبا. هذه المقارنة كثيرا ما كانت تستخدم إما للدلالة علي خيبة أملنا, أو لأن القادة لم يقوموا بما كان واجبا عليهم القيام به. ولكن المقارنة لا تكتمل إلا إذا عرفنا أنه بينما كانت نسبة التعليم في كوريا الجنوبية72% عام1960 فقد كانت في مصر25% فقط, وبينما حسمت كوريا أمورها في أن تكون جزءا من العالم الغربي المتقدم, كنا نحن نتردد بين عوالم مختلفة لا يجمعها إلا الشقاء. وعلينا أن نتصور ما كان سيكون عليه حال كوريا الجنوبية لو أنها جعلت توحيد الدولة الكورية سابقا علي تقدمها, أو أنها قررت أن تبقي علي عدائها التاريخي مع اليابان بدلا من الاستفادة من التجربة والاستثمارات اليابانية. مثل هذه الظروف علي أي حال لم تعد هي الحالة المصرية, والآن فإن نسبة المتعلمين المصريين تماثل ما كانت عليه كوريا عام1960, بل ما كانت عليه أوروبا في مطلع القرن, وربما كان ذلك جالبا للحسرة, ولكن في الحالتين كانت هذه الأرقام هي قاعدة الانطلاق الكبري نحو التواجد بين صفوف الدول المتقدمة, وخلق القاعدة الصناعية والاقتصادية للتطور السياسي الديمقراطي. والمعني هنا هو أنه بقدر ما تكاد تكون هندسة التاريخ والمجتمعات مستحيلة, فإن وضع البذور ورعايتها للتطور والمعرفة هي التي تجعل هناك قاعدة للانتقال بين مراحل التقدم المختلفة. وقد أصاب كثير من الأمريكيين الدهشة عندما عرفوا أن المصريين لم يعرفوا حتي وقت قريب شيئا عن الضرائب, وأن هذه دخلت مؤخرا خلال العقدين الأخيرين من أول ضرائب المبيعات حتي ضرائب الدخل حتي وصلنا أخيرا إلي الضرائب العقارية. وبالنسبة لشعب قامت ديمقراطيته علي تمثيل دافعي الضرائب فإن درجة التطور الديمقراطي في مصر باتت مفهومة. الحديث هكذا جري متشعبا في الجماعة الأمريكية, يروح ويجيء بين موضوعات مختلفة ولكنها مترابطة, ولكنها كانت تضع أبعادا أخري للحالة المصرية تختلف كثيرا عن التقارير والمقالات المنشورة عن مصر التي أيا كانت الملاحظات الموضوعية عليها, فإنها تفتقر إلي تلك الرابطة التاريخية التي تضع القطع المختلفة للصورة المصرية في مكانها الصحيح. ولكن الدرس الذي لم يكن ممكنا تجاهله هو أن الصورة المصرية في الخارج ليست بحالة طيبة; ولحسن الحظ إنني قمت بعدد من الزيارات لعواصم مختلفة طوكيو وروماوواشنطن ومدن أخري مهمة, وكان الإجماع هو أن لدينا مشكلة في التصور عن الحالة المصرية ومستقبلها. ومن المؤكد أن بعضا من ذلك يحدث بسبب دعايات لجماعات لا تحب لنا الخير, ولكن هؤلاء ليسوا مشكلتنا بقدر ما هي متعلقة بهؤلاء الذين يحبون لنا الخير ويتمنون لنا التقدم ولا يستطيعون فهم إجراءات وقوانين وأوضاع نصر علي استمرارها حتي لو تجاوزها الواقع والقدرات. والحديث عن مصر دائما طويل ومتشعب, ولكن كان هناك دائما تساؤل يقطع كل الأحاديث طولا وعرضا: هل ستقوم حرب قريبا في الشرق الأوسط؟ [email protected]