تقليل الاغتراب 2025.. رابط تسجيل رغبات تنسيق المرحلتين الأولى والثانية المعتمد    رئيس «القومي للطفولة» تزور محافظة الوادي الجديد لمتابعة الأنشطة والمبادرات    تراجع سعر الريال السعودي أمام الجنيه في 7 بنوك الآن    أسعار الفراخ البيضاء اليوم الخميس في أسواق مطروح    اتحاد الغرف التجارية يكشف خطة الحكومة لتخفيض الأسعار    الصفقة تمت.. بإيرن ميونخ يوافق على انتقال كومان إلى النصر    لليوم الثانى .. إغلاق حركة الملاحة النهرية في أسوان وأبوسمبل لسوء الأحوال الجوية    «تعليم مطروح» تعلن الانتهاء من تجهيزات امتحان الدور الثاني للثانوية العامة    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الخميس 14 أغسطس 2025    بعروض فنية.. انطلاق فعاليات المسرح المتنقل ل «قصور الثقافة» (صور)    مع اقتراب موعد المولد النبوي 2025.. رسائل وصور تهنئة مميزة ب«المناسبة العطرة»    وزير الصحة يستقبل رئيس هيئة الشراء الموحد لبحث تعزيز التعاون وتوطين صناعة مشتقات البلازما    زوجة "بيليه فلسطين" توجه نداءً عاجلاً إلى محمد صلاح    اليونان تشهد تحسنا طفيفا في حرائق الغابات.. وحريق خيوس لا يزال الخطر الأكبر    الاحتلال يطرح 6 عطاءات لبناء نحو 4 آلاف وحدة استعمارية في سلفيت والقدس    قرار جمهوري بإنشاء حساب المشروعات ب10 ملايين يورو مع البنك الأوروبي.. تفاصيل    ريبيرو يستقر على بديل ياسر إبراهيم أمام فاركو    خوان جارسيا: لم أتردد لحظة في التوقيع لبرشلونة    موعد مباراة منتخب مصر وإثيوبيا فى تصفيات أفريقيا المؤهلة لمونديال 26    فراعنة اليد في مواجهة نارية أمام إسبانيا بربع نهائي مونديال للشباب    "بالم هيلز" تستهدف إطلاق مشروعها الجديد في أبو ظبي بمبيعات متوقعة 300 مليار جنيه    إجراء 3 قرعات علنية للتسكين بأراضي توفيق الأوضاع بالعبور الجديدة.. الإثنين المقبل    قانون الإيجار القديم 2025.. إخلاء الوحدات بالتراضى أصبح ممكنًا بشروط    "بعد فيديو ال 3 سيارات".. التحقيق مع المتهمين بمطاردة فتاتين بطريق الواحات    اليوم.. جنايات القاهرة تنظر محاكمة عاطلين لحيازتهما الآيس بالوايلي    النيابة تحقق فى مطاردة 3 طلاب سيارة فتيات بطريق الواحات    رئيس هيئة الدواء المصرية يبحث مع سفير ناميبيا لدى مصر تعزيز التعاون فى قطاع الدواء    فيديو.. أحمد سلامة ينتقد تصريحات بدرية طلبة الأخيرة: النقابة بتعرف تاخد أوي حق الممثل والعضو    غدا.. المركز القومي للسينما يعرض أربعة أفلام في احتفاله بوفاء النيل    تطورات الحالة الصحية ل«أنغام»    غدًا .. انطلاق أولى فعاليات مهرجان القلعة فى دورته الجديدة    بعد تعرضها لحادث سير.. ليلى علوي تتصدر تريند "جوجل"    "عربية النواب" تدين تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" وتثمن الموقف المصري    خالد الجندي: حببوا الشباب في صلاة الجمعة وهذه الآية رسالة لكل شيخ وداعية    100 منظمة دولية: إسرائيل رفضت طلباتنا لإدخال المساعدات إلى غزة    تبلغ ذروتها اليوم.. 8 نصائح مهمة من الصحة لتفادي مضاعفات الموجة الحارة    «100 يوم صحة» تُقدم 45 مليونًا و470 ألف خدمة طبية مجانية في 29 يومًا    وزير العمل يعيد الإنتاج بالعامرية للغزل والنسيج بعد مفاوضات ناجحة    مواعيد مباريات الخميس 14 أغسطس 2025.. 4 مواجهات بالدوري ومنتخب السلة واليد    بسبب أمم أفريقيا.. الأهلي السعودي يسعى للتعاقد مع حارس مرمى جديد    إعلام عبري: الجدول الزمني بشأن خطة العمليات في غزة لا يلبي توقعات نتنياهو    بالأسماء.. حركة محلية جديدة تتضمن 12 قيادة في 10 محافظات    شقيقة زعيم كوريا الشمالية تنفي إزالة مكبرات الصوت على الحدود وتنتقد آمال سيول باستئناف الحوار    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 14 أغسطس 2025    ياسين السقا يروي كواليس لقائه الأول مع محمد صلاح وأول تواصل بينهم    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    طريقة عمل مكرونة بالبشاميل، لسفرة غداء مميزة    الأحزاب السياسية تواصل استعداداتها لانتخابات «النواب» خلال أسابيع    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    الصين تفتتح أول مستشفى بالذكاء الاصطناعي.. هل سينتهي دور الأطباء؟ (جمال شعبان يجيب)    أصيب بغيبوبة سكر.. وفاة شخص أثناء رقصه داخل حفل زفاف عروسين في قنا    كمال درويش: لست الرئيس الأفضل في تاريخ الزمالك.. وكنت أول متخصص يقود النادي    تحذير بسبب إهمال صحتك.. حظ برج الدلو اليوم 14 أغسطس    البحيرة: ضبط المتهمين بقتل شخصين أخذا بالثأر في الدلنجات    المركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة يحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني تحت شعار "صوت الإنسانية"    تداول طلب منسوب ل برلمانية بقنا بترخيص ملهى ليلي.. والنائبة تنفي    خالد الجندي ل المشايخ والدعاة: لا تعقِّدوا الناس من الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
الصحفي و الوزير‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 05 - 2010

قليلة هي الأعمال التي تلخص أحوالنا وتضع النقاط علي الحروف فيها‏,‏ وتبرزها لنا في حالة نقية وصافية‏,‏ بحيث نتبين وضوح معالمها‏,‏ ونستطيع ساعتها أن نعرف أسباب الحالة التي نعيش فيها‏. وربما ساعتها أيضا نستطيع أن نخرج من الأسباب إلي السياسات التي ينبغي اتباعها حتي ننتقل إلي حالة أو حالات أفضل‏;‏ ومن يعرف ربما نلحق بركب الدول التي توصف بأنها متقدمة في العالم‏.‏ ولا يخفي علي أحد أن هناك الكثير من القضايا المعلقة في الفضاء السياسي والاقتصادي والثقافي المصري يجري حولها الحديث أحيانا‏,‏ والشجار أحيانا أخري‏,‏ ولكن هناك غراما دائما في أن تبقي هكذا حالها لا يظهر فيها نقاط الاتفاق والخلاف‏,‏ ومزايا ومثالب كل مسار‏,‏ وما حدث في تجارب الدول الأخري التي يجري استدعاؤها حسب الأمزجة أو عندما تتوافق مع واحدة من وجهات النظر أو حتي من أجل الإحراج والشماتة‏.‏
والقائمة طويلة وتشمل قضايا متعددة‏,‏ وهل ننسي ما يجري من وقت لآخر من أحاديث حول الدستور‏,‏ وعلاقة الدين بالدولة‏,‏ ومدي تدخل الدولة في الاقتصاد‏,‏ والحد الذي يمكن فيه الاستفادة من تجارب الدول الأخري في الشرق والغرب‏,‏ ومتي تقف الاستفادة لكي تقفز الهوية والخصوصية والذاتية‏,‏ والذي فينا ولا يعرفه أحد لا من قبل ولا من بعد لكي يبقي الأمر تفكيرا أو تذكيرا علي ما هو عليه‏.‏ وهل يمكن تجاهل قضايا المرأة ومكانتها في المجتمع‏,‏ حتي هذه اللحظة‏,‏ عما إذا كان واجبا أو ممكنا دخولها إلي مجال العمل أم أن مكانها حيث تتناسب طبيعتها هكذا يقال في بيتها تربي الأجيال وتساند الأزواج‏.‏ وماذا عن قضايا الوحدة الوطنية التي يحلف الجميع بأغلظ الأيمان أنها في أحسن حال‏,‏ بينما يراها آخرون أنها ليست بتلك الحال‏,‏ وإنما هي في حالة أخري يكون فيها حلو اللسان عن المساواة أما عندما يصل الأمر إلي الواقع نجد أنفسنا أمام شعب آخر‏.‏
ولكن من بين هذه القضايا الشائكة جميعا توجد حزمة أو شبكة من الموضوعات التي تبدو لي أنها حاكمة لكثير من المسائل الأخري تتمحور حول مفهوم الخصخصة الذي تجري حوله وترتبط به مفاهيم أخري‏,‏ مثل اقتصاد السوق وشكل الملكية فردية أو جماعية والعلاقة مع الاقتصاد العالمي الذي يقوم بشكل أو آخر علي الفكرة الرأسمالية بعد أن تم التخلص من الأغلبية الساحقة من الدول الاشتراكية‏,‏ ولما يبق إلا القليل منها مصحوبا بعدد لا بأس به ممن يريدون نوعا من التلفيق ما بين الفكرتين والنظامين‏.‏
ووسط هذه العملية المتشابكة من الأفكار والنظم يصعب دائما وجود عمل صحفي أو فكري يمكنه أن يصفيها من شوائبها ويضعها علي مائدة البحث كما يفعل الطبيب الذي يقوم بتطهير وتعقيم المريض قبل إجراء العملية الجراحية حتي تكون جاهزة لما سيأتي من علاج أو جراحة‏.‏ ولكن فعلها الكاتب والصحفي الكبير والقدير ونقيب وزعيم الصحفيين الأستاذ مكرم محمد أحمد عندما قام بالحوار مع الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار علي صفحات الأهرام يوم السبت الماضي تحت عنوان لماذا كان ينبغي أن نعيد النظر في الخصخصة؟‏!;‏ ولم يكن ذلك عنوانا بل خبرا أيضا لأن أحدا لم يكن يعرف أنه قد تم اتخاذ قرار من الدولة أو المجتمع بإعادة النظر في الخصخصة‏,‏ لسبب بسيط هو أنه لم يكن معروفا أن هناك قرارا بكل ما يعنيه القرار من معني التنفيذ والنفاذ والسرعة في التطبيق بخصخصة الاقتصاد المصري من الأساس‏.‏
طرفا الحوار ينتميان إلي جيلين مختلفين‏,‏ الصحفي كان بارزا عبر عصور مختلفة‏,‏ ومعروف بنقاء الفكرة مع حسم الموقف‏,‏ وله في النبل أحوال كثيرة في الخدمة العامة والمهنة الصحفية‏.‏ ولكن أبرز ما فيه أنه يعبر عن عصر كامل مر بمصر منذ الأربعينيات من القرن الماضي وظل مظللا عليها بمفاهيم للحرية والعدل كانت بنت أيامها‏,‏ وفي كل الأحوال لم تخدشها أو تفض بكارتها تجارب الأيام بين الشعوب والأمم‏.‏ الوزير ابن جيل آخر جاء إلي الدنيا والسياسة مع الثلث الأخير من قرن ما لبث أن ولي وراح‏,‏ وأخذته أسرته السياسية من الجامعة إلي دنيا الخدمة العامة والسياسة بعد أن طاف الدنيا يطلب علما وينهل من عالم تغير كما لم يتغير في زمن آخر‏.‏ وعندما دخل الوزارة كانت حقيبته في قلب الموضوع حيث الاستثمار والاستثمارات والتراكم الرأسمالي يقع في قلب الانتقال الوطني من حال إلي أخري‏.‏ وعندما جلس الصحفي والوزير معا من أجل الحوار كان هناك عالمان يلتقيان‏,‏ ويدركان ما بينهما من حيرة واغتراب لم يفلح الوطن في الخروج منهما بعد‏.‏
الحوار يعكس هذه الحيرة بين الصحفي والوزير‏,‏ حيث الأول يعتقد اعتقادا جازما أن هناك قرارا كان موجودا ويجري الآن إعادة النظر فيه‏,‏ لأن الوزير صرح بأنه لن يقوم ببيع مؤسسة اقتصادية عامة لمستثمر رئيسي‏,‏ وإنما سيطرح بعضا من أسهمها في البورصة ويبقي للدولة القدرة علي التحكم في الوحدة الاقتصادية وهو ما يعني في الواقع العملي وجود قطاع عام قوي داخل القطاع الخاص فتحصل الوحدة الجديدة التي هي ليست عامة نقية‏,‏ ولا خاصة صافية‏,‏ علي مساوئ كليهما‏.‏ الوزير من ناحيته يعرف الحقيقة تماما‏,‏ وهو أنه لا يوجد تقرير دولي واحد يعترف بمصر ضمن الدول التي تحولت إلي اقتصاد السوق‏,‏ وهو يعلم تماما أن الاقتصاد العام في مصر واسع وفسيح ويشمل كل أشكال البنية الأساسية من مواصلات واتصالات وطاقة وطرق وموان ومطارات وكهرباء وماء وصناعات إستراتيجية ومزارع عامة‏,‏ فضلا عن أرض مصر كلها البالغة مليون كيلومتر مربع‏,93%‏ منها كالعذراء لم يمسسها بشر‏.‏ وما جري منذ أعوام طويلة هو أن الدولة وجدت أن هناك‏314‏ شركة عامة‏(‏ في مصر أكثر من‏70‏ ألف شركة‏)‏ يمكن خصخصتها لا يوجد فيها من العمال أكثر كثيرا من‏300‏ ألف عامل‏(‏ يقترب عدد العاملين في مصر من‏24‏ مليون نسمة‏).‏ وما جري فعليا أنه بعد خمسة وثلاثين عاما من الانفتاح الاقتصادي‏,‏ والإصلاح المالي‏,‏ والتحول كما قيل نحو اقتصاد السوق‏,‏ ومتابعة التطورات والنظريات العالمية في التغيير والتقدم‏,‏ ودخول مصر إلي منطقة الدول البازغة والناشئة والصاعدة‏,‏ فإن ما تمت خصصته لا يزيد علي‏149‏ شركة وبقيت‏165‏ علي حالها في حماية الدولة والمجتمع‏.‏ ويلخص الوزير الموقف الذي يعرفه تماما حين يقول بالرجاء والدعوة للتفهم‏:‏ يبدو أنني سوف أستعين بالمثل الشعبي الذي يقول الصيت ولا الغني لأنه برغم هذا الوصف الذائع بأننا أكثر حكومات مصر ليبرالية‏,‏ فإننا في حقيقة الأمر لم نبع أكثر من سبع شركات من جملة شركات قطاع الأعمال المؤهلة للبيع‏.‏ لاحظ هنا سبع شركات باعتها حكومة متهمة ببيع مصر‏,‏ وعلي مدي خمس سنوات أو أكثر من عمر الحكومة‏,‏ ولكن حتي لا تأخذك الظنون بعيدا عن الحالة الرأسمالية للحكم‏,‏ وزواج رأس المال بالسلطة كما يذاع‏,‏ فلا بد أن تستمر في قراءة ما قاله الوزير لأنه يحكي قصتنا كاملة حينما يفصل فيما فعلته الحكومة بشركاتها السبع المباعة‏:‏ ثلاث من هذه الشركات التي تم بيعها ذهبت إلي وزارة الدفاع‏(‏ هل يوجد ما هو وطني وقومي وعام أكثر من ذلك؟‏)‏ ورابعة ذهبت إلي جهة سيادية أخري‏,‏ وعلي عكس الشائع أعدنا إلي ملكية الدولة عددا من الشركات التي كان قد تم بيعها للعاملين فيها عام‏1997‏ وعددها‏33‏ شركة لم تحقق أي منها نجاحا يذكر بعد خصخصتها‏.‏
قصة الثلاثة والثلاثون شركة التي جري خصخصتها في السابق بتمليكها للعمال لم يجر أبدا روايتها لأنها لا تخص مستثمرا رئيسيا‏,‏ ولا شركة متعددة الجنسيات‏,‏ ولا مجموعة من الرأسماليين المصريين الذين اشتروا أسهما وحصلوا علي حقوق الأغلبية‏;‏ ولكنها تقول لنا الكثير عن جوهر عملية الخصخصة التي تمت‏,‏ أو قل التي لم تتم أيضا‏.‏ ومع ذلك‏,‏ وبعد شرح الوزير المستفيض‏,‏ والمعتذر بدرجة أو أخري عن أمور لم تحدث من الأصل‏,‏ فإن الصحفي يسأل فورا عن سبب الحرص علي الهرولة إلي الخصخصة‏,‏ وكأن ثلاثين عاما من سير السلحفاة ليس دليلا كافيا علي التأني‏,‏ مادام جري خفض مديونيات قطاع الأعمال العام بعد جهد جهيد وبدأ بعضها يعطي‏3.7‏ مليار جنيه من الأرباح بينما لا تزال مديونيته قدرها ستة مليارات‏.‏ وكانت آخر مرة استمعت فيها إلي كلمة الهرولة قد جاءت من السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية إبان عملية السلام العربية الإسرائيلية في منتصف التسعينيات‏,‏ وشاعت الكلمة حتي كتب عنها نزار قباني‏-‏ رحمه الله قصيدة‏,‏ وبعد عقد من الزمان كانت الهرولة قد انتهت ومعها السلام والأرض معا‏.‏
لاحظ هنا أن الصحفي ليس مهتما إطلاقا بإجراء المقارنة بين قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص‏,‏ وما يدفعه الأخير من ضرائب للدخل والمبيعات والشركات المملوكة للدولة‏,‏ ولا جرت مقارنة أبدا مع دول طالما استعذبنا المقارنة معها مثل تركيا وماليزيا وبولندا والبرازيل وأنواع مختلفة من فهود ونمور الدول وما حدث فيها من برامج للخصخصة والتحول إلي اقتصاد السوق وما تبقي من طوائف التغيير التي جرت في العالم خلال العقدين الأخيرين‏.‏ ولأن الصحفي هنا بقدراته الكبيرة يكاد يكون ملخصا لكثير من الآراء الشائعة والمعبرة عن عصور مصرية بأكملها فإنه ينظر بحالة من التوجس الدائم إلي كل ما له علاقة بالقطاع الخاص أو من يقترب منه‏,‏ ولديه مصدر للمعلومات تكاد تجده علي لسان كثرة من الصحفيين والمعلقين بالتليفزيون والمتحدثين في البرامج الحوارية واسمه البعض‏,‏ فيكون السؤال‏:‏ البعض يعتقد أن الإضرابات الأخيرة التي حدثت في بعض شركات الأعمال وخروج عمال هذه الشركات في وقفات احتجاجية أمام مجلس الشعب‏,‏ هي من مثالب الخصخصة التي أهدرت حقوق عمال هذه الشركات‏.‏ وبعد ذلك يمضي السؤال لكي يعدد ما يفعله بعض المستثمرين من تخسير أعمالهم لكي يتحولوا إلي الاستثمار العقاري‏,‏ أو طرد العمال بحجة العمالة الزائدة‏.‏
ليس مهما هنا التنويه عما إذا كان المقصود هنا حالات فردية أو حالات عامة في الشركات التي تمت خصخصتها‏,‏ ولا يعنينا الآن عما إذا كان هناك حق لصيق في اقتصاد السوق أن يتحول المستثمر من قطاع استثماري إلي آخر أكثر ربحا وعائدا أم أن الأصل في العملية الاستثمارية كلها أن يستثمر الاستثمار الناجح حيث توجد الخسائر الدائمة‏!.‏ ولكن ما يهمنا ويعنينا أن هذا البعض المجهول دائما ليس علي صواب‏,‏ ولذا يجري الوزير فورا إلي نفي تهمة الاحتجاجات‏,‏ بل إنه يقطع هكذا قال بأن غالبية الاحتجاجات تمت في قطاعات حكومية لا يوجد ما هو عام أكثر منها‏.‏ والحقيقة أن جميع الدراسات والبحوث التي جرت علي هذه التحركات الاحتجاجية أثبتت أن الأولوية فيها للقطاع الحكومي‏,‏ ثم القطاع العام والهيئات العامة‏,‏ وأخيرا يأتي القطاع الخاص بأشكاله المختلفة‏.‏
ولما كان كل ذلك غائبا‏,‏ ويقوم علي ذلك البعض الذي هو في حقيقته نوع من المعتقدات الشائعة بين صفوف النخبة وجري ترديدها بإلحاح حتي تم تصديقها وصارت من الكتب المقدسة‏,‏ فإن الصحفي ليس مهتما بتتبع نتائج الخصخصة الفعلية‏,‏ وما جري للاستثمارات الخاصة في مصر ولا نتائجها‏,‏ ولا مدي ما قدمته للمجتمع من ضرائب وتشغيل وتصدير علي الأقل مقارنة بما قدمه النموذج الآخر القائم علي الملكية العامة‏.‏ ولكن المهمة الواقعة عليه هي السؤال عن الدروس المستفادة من أخطاء الخصخصة الذي ينتظر إجابة واضحة تكشف عن بدائل الخصخصة‏.‏ وبعدها يمضي للتعريض ببرنامج عرضه الوزير من قبل عرف باسم الصكوك الشعبية والذي اعتبره الكثيرون وهي كلمة أخري مرادفة لكلمة البعض طريقا مراوغا للتخلص من شركات قطاع الأعمال العام‏.‏
لاحظ هنا أن تركيب القصة كلها يبدو غريبا للغاية‏,‏ فلدينا خصخصة محدودة للغاية يجري تصويرها من قبل الصحفي علي أنها كاسحة‏,‏ ونتائج اجتماعية وسياسية نتيجة تحولات كثيرة في المجتمع والدولة والعالم يجري تصويرها علي أنها نتيجة للخصخصة التي لم يحدث منها إلا القليل‏.‏ وبين هذا وذاك يجري الحديث عن الاحتكارات الكبري في الدولة في مجالات الأسمنت حيث توجد‏20‏ شركة‏,‏ والحديد حيث توجد‏18‏ شركة أخري‏,‏ والقمح واللحوم التي يتم إنتاجها وبيعها وشراؤها واستيرادها عن طريق الفلاحين المصريين ومن قبلهم وبعدهم الحكومة التي تقوم بالاستيراد‏;‏ وكأنه لا توجد في دولة مصر جهات حكومية معنية بتحديد ومكافحة حالات الاحتكار‏.‏ ولذا فإن الوزير يعود مرة أخري إلي التأكيد علي أن الحكومة التي ينتمي إليها كانت هي التي قدمت قوانين حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وقانون حماية المستهلك‏;‏ ولكن السؤال لم يطرح للنقاش أبدا لماذا لم تكن هذه القوانين موجودة منذ وقت طويل‏,‏ أو طالب بها أحد عندما كانت الدولة تحتكر كل شيء‏,‏ ولم يكن علي المستهلك إلا أن يقبل ويطيع‏.‏
ولكن الصحفي يفصح في النهاية عن موقفه‏,‏ وموقف عصره‏,‏ من حالة السوق المثالية حيث تتدخل الدولة لتحديد الأسعار‏,‏ ولكن‏,‏ والكلام للصحفي‏,‏ إذا كان التسعير الجبري للسلع الأساسية يتعارض مع قواعد تحرير الأسواق‏,‏ فلماذا ترفض الحكومة الأخذ بنظام السعر الاسترشادي الذي يقوم علي حساب كلفة الإنتاج إضافة إلي تحديد نسبة من الربح العادل‏...‏ هنا يسلب الصحفي السوق أهم خصائصها وهو تحديد السعر العادل ويضعها في يد حزمة من الموظفين الذين عليهم إصدار كتاب كل ساعة ولكل إقليم حسب الفقر والغني وما بينهما من ستر أو يسر ولكل فصل من فصول السنة‏,‏ وبعد ذلك يضع الدولة أمام اختبار قاتل إذا ما وجدت أن أسعارها الاسترشادية لا معني لها في واقع متغير لا تتغير فيه طبيعة السلعة فقط‏,‏ وأذواق المستهلكين وقدراتهم‏,‏ ولكن مع كل ذلك أشكال وأثمان الدعاية وأشكالها‏.‏ ولكن الاختبار الأهم سوف يكون لشعب المستهلكين الذين سوف يجدون أنفسهم أمام سوق سوداء مستديمة يضيع فيها معني العدل والرشاد‏.‏ ولذلك فإن الوزير يتجنب مناقشة تلك المسألة الاسترشادية‏,‏ ويشير إلي المنافسة كعاصم من زلل السوق وذنبه‏;‏ وفي الحالتين تبقي الصور المتقابلة مع الصحفي حائرة وزائغة‏.‏
تهنئة للصحفي والوزير علي تعبير كل منهما عن عصره‏,‏ وكان الحوار ممتعا ومفيدا أيضا لأنه وضع نقاطا كثيرة علي حروف وطن لم يصل بعد إلي مرافئ وصلت إليها دول كثيرة قبلنا‏,‏ والمهم أن نستمر في الحوار ونأخذه خطوات إلي الأمام‏.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.