هل شعرت بالغصة مثلي عندما بدأت مشاهدة مباريات كأس العالم ولم تجد الفريق المصري بين الفرق المتنافسة في جنوب أفريقيا؟ ربما حدث لك هذا, أو أنك انشغلت بالإثارة الجارية حتي صرفتك عن التفكير في السؤال, ولكن الغصة جاءتني مرة أخري ساعة مشاهدة مباراة الولاياتالمتحدة وإنجلترا في واحد من فنادق واشنطن حينما سألني أمريكي متحمس عن الدولة التي أظن أنها الأحق بالفوز, ولم يسعد كثيرا بالإجابة عن حق الفريق الأفضل في النقاط الثلاث, فأضاف أنه لا يعتقد في وجود الفريق المصري في المسابقة فلم أرد أو أعلق. ولكن الغصة هكذا صارت غصتين: واحدة لأننا لم نذهب إلي جنوب أفريقيا, وواحدة لأننا لم نذهب أبدا إلي أي مكان, وما حدث في عامي1934 و1990 كان علي سبيل الاستثناء الذي لا يصلح القياس عليه, لأن فرق كأس العالم الحقة هي تلك التي عندما تذهب مرة واحدة, فإنها تبقي هناك دائما, أو في معظم الأوقات. فالمرجح دائما أن الدول التي تتقدم علي الطريق الإنساني تكون هي الدول التي تجعل التقدم حالة مستدامة تغذي نفسها بنفسها حتي تصبح عادة من عادات الدول وتقاليدها. ماذا جري حتي لا نكون هناك ونحن أبطال أفريقيا ثلاث مرات متتالية هزمنا فيها كثرة ممن ذهبوا إلي جنوب أفريقيا بل هزمنا في كأس القارات إيطاليا بطلة العالم ووقفنا بثبات أمام البرازيل التي هي أحلي من يقدم كرة القدم في الدنيا كلها؟ ودون مبالغة فإن الدوري المصري فيه الكثير مما يسمي كرة القدم علي كثرة ما انتقد وجري الحديث عنه بسخرية تارة وعدم اكتراث تارة أخري. وخلال العام الحالي شاهدنا العديد من المباريات التي تليق بالدوري الإنجليزي أو أي دوري آخر يجري في الدول المتقدمة; أي المتقدمة كرويا, أو هكذا المقصود حتي لا تختلط أمور لا ينبغي الخلط فيها. والسؤال هكذا مشروع, ومن شاهد المباراة الأخيرة في كأس مصر بين النادي الأهلي وحرس الحدود لابد أنه لاحظ نهجا هجوميا لم يعتده المشاهد المصري الذي اعتاد التركيز الدفاعي في المباريات الفاصلة. والمهم في الأمر أن كرة القدم المصرية أصبحت إذا استعرنا التعبيرات السياسية تعددية بالفعل, فلا يوجد فيها حزب واحد قائد يفوز في كل الأوقات, ولا حزبان فقط من القاهرة يتبادلان السلطة والشرعية الكروية هما الأهلي والزمالك. أصبح هناك نجوم جدد, وأحزاب, أقصد أندية, جديدة ذات مبادرات وطرق لعب وأطروحات مختلفة فيها ما يخطف السمع والبصر. والمدهش في الموضوع, والذي لا يعبر عن تقاليد مصرية سائدة, هو أن طرق اللعب لم تعد حديثة فقط, بل إنها قائمة علي خطة وإستراتيجية وتكتيك ليس شائعا في حياة عامرة بمظاهر الفوضي ومحاولات تجاوز القانون, ونتائج لا يمكن أن تعرفها قبل انطلاق صفارة النهاية علي عكس نتائج كثيرة في مصر تكون نتائجها معروفة مسبقا من فرط العادة أحيانا, أو ربما نتيجة الإدمان. وما كان أكثر عجبا أن الجمهور تمتع بروح رياضية صفقت للفائز والمهزوم معا, ولم تجد برامج التوك شو نارا لكي تزيدها اشتعالا, أو لأن الحكومة لم تكن في الملعب, أو أن من الصعب تحويل مباريات كرة القدم إلي أنواع من الفتن الطائفية لأن الرياضة وجدت أصلا لكي تحول الصراعات والنزاعات إلي منافسات رياضية. المسألة هي أننا تقدمنا بالفعل في كرة القدم سواء علي مستوي اللاعبين أو المدربين أو الملاعب أو الأندية, وكان ذلك جزءا أحيانا من تقدم عام, وأحيانا أخري كان تقدما أكثر سرعة مما هو في مجالات أخري في حياتنا, وهو ما يحدث في دول كثيرة حيث تتباين سرعات التقدم من مجال إلي آخر. ولكن اللعبة لم تكن بعيدة تماما عن التقاليد الذائعة في حياتنا وأشهرها عدم التركيز علي هدف الفوز, وهي حالة يتحدث عنها كثير من العارفين باللعبة حينما يتشتت ذهن اللاعب فيفقد السيطرة علي تلك العلاقة بين العقل والنظر والعضلات ويجري فيها ممارسة ردود الفعل بطريقة تلقائية إزاء الكرة واتجاهاتها. وما جري بالنسبة للفريق المصري أنه فقد تركيزه مرتين: مرة في بداية المسابقة عندما تعامل مع مباراة زامبيا في القاهرة وكأنها نوع من تحصيل الحاصل فكانت النتيجة التعادل وفقدان نقطتين ثمينتين. والثانية في نهايتها, وبعد أن كان التركيز الشديد هو السبب في استعادة الفريق لمكانته في المسابقة, فإن فقدانه له كان هو السبب الذي جعله يبقي في القاهرة لمشاهدة المباريات ويتعجب لمهارات الآخرين. فما حدث أن هزيمة الفريق في الجزائر كان من الأمور الواردة نتيجة ضغوط كثيرة, ولكن ما حدث بعد ذلك كان فيه ما يدعو إلي الإعجاب حينما استعاد الفريق تركيزه وفاز في المباريات التالية الواحدة بعد الأخري حتي تساوت الرؤوس قبل مباراة الجزائر في القاهرة. هنا شاهدنا أمرا عجبا, فقد كانت مباراة الخرطوم الحاسمة مع الجزائر في اليد وفق كل الحسابات الرياضية المعروفة, ولكنها تحولت بفعل فاعل إلي مشهد من مشاهد العبث التي سوف يقف أمامها كتاب التاريخ عاجزين عن تفسيرها. وكانت البداية في القاهرة عندما تحولت مباراة رياضية إلي معركة حربية, وللحق فقد كانت الشواهد تشير إلي أن رياح التعصب قد زحفت من صفحات الإنترنت إلي الشارع, ومن الشارع وجدت نفسها في محطات تليفزيونية مشهورة, ومع الوقت كانت الروح البدائية والعصبية قد بددت كل الطاقات الصحية التي كان ممكنا أن يولدها تعادل الموازين في استاد القاهرة الدولي. وببساطة فقدنا التركيز عندما ذهبنا إلي الخرطوم حيث انتهي كل شيء له علاقة مع كرة القدم, وهي الحالة النقية والصافية ليس فقط لفريق رياضي مشتت الذهن, ولكن أيضا لمجتمع فقد قدرته علي التركيز علي هدف الفوز والتفوق. والمدهش أنه جري للمجتمع ما حدث لفريق كرة القدم, فقد كان الجميع يريد نسيان ما حدث بسرعة مخيفة, ولم تجر محاولة حقيقية للتحقيق فيما جري, حتي عندما تمت الإدانة والغرامة من الاتحاد الدولي لكرة القدم فقد كان الجمع يريد النسيان, وفي حدود العلم أنه بعد أن بدأت المباريات في جنوب أفريقيا فإن أحدا لم يسأل: لماذا لسنا هناك؟ والسؤال بالطبع ليس مطروحا بهدف جلد الذات, أو البكاء علي الأطلال, أو الحزن علي اللبن المسكوب, حسب التعبيرات الذائعة التي ترفض عادة التعامل مع حقائق الواقع, ولكنه مطروح من أجل هدفين: أولهما ألا يتكرر ما حدث مرة أخري, فما أشد الألم أن تكون قاب قوسين أو أدني من الهدف, ثم تأتيك قوة صاعقة تضعك علي بعد آلاف الأميال منه. وثانيهما بصراحة أن ما جري في كرة القدم يحدث بكثرة في مجالات حياتنا الأخري فنقترب من أهداف متنوعة وإذا بنا ننصرف عن الهدف قرب الوصول إليه, ونفقد التركيز, وعندما تكتمل حالة التشتت ننسي ما كنا مقبلين عليه أصلا. والنتيجة هي ألا نكون هناك مع المتنافسين الأصلاء في مجال الرياضة, أو المتقدمين الذين وصلوا إلي حالة الاستدامة في مجال التنمية والديمقراطية. ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد حدث الأمر ذاته في آخر الدورات الأوليمبية في بكين حينما ذهبنا إلي هناك وقد تسلحنا بمكانة رفيعة حققناها في دورة أثينا الأولمبية حينما كان لدينا ميدالية ذهبية لأول مرة منذ عقود طويلة, ومعها حفنة أخري من الميداليات المتنوعة المكانة. ولكن الردة حدثت, ولولا ميدالية فضية يتيمة لعادت مصر أدراجها إلي الحالة التي كانت تخرج بها صفر اليدين كل مرة, وكان التراجع هذه المرة سببا في تشكيل لجنة تحقيق أصدرت تقريرا مهما عن أسباب المواجع. ومع ذلك فقد كان ما جري للتقرير شيئا آخر, وفي حدود العلم, وأرجو من الله أن أكون جاهلا, فإن الأمور عادت مرة أخري إلي مسيرتها الأولي. وربما كان هذا هو سبب الأسباب وراء غيابنا عن نهائيات كأس العالم في جنوب أفريقيا التي غبنا عنها عشرين عاما, وقبلها غبنا ستة وخمسين عاما. وبالطبع فإن الحديث كله ليس عن مباريات كرة القدم, ولا كأس العالم, ولا حتي الدورات الأوليمبية والرياضية, فكلها مسابقات مهمة لا شك, ولكن المسابقة الكبري هي التي تخص شعبا بأكمله, وأمة طال بها زمن الانتظار. وعندما استمعت إلي حديث تليفزيوني للدكتور أحمد نظيف, شرح فيه منهجنا المتدرج في التغيير لم أختلف معه كثيرا, ولكن التدرج أمر والبطء أمر آخر, ومن يتخيل أن مباريات كأس العالم, والمباريات الرياضية في العموم جوهرها السرعة والإنجاز وتحقيق الأهداف في أوقات مناسبة لا يمكنه أن يأخذ الأمور بتأن ورفق, وكلاهما يكون بداية لتشتت الأذهان, والخروج عن الخطط, وترقب المفاجآت والأزمات التي ليس لنا فيها يد, فما كنا نحن الذين أشعلنا الحروب في الخليج, وما كنا نحن الذين أطلقنا الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية المعاصرة. وببساطة تعالوا نتخيل للحظة واحدة لو أن لاعبا في كرة القدم قرر التعامل مع الكرة بتأن, وخطوة بعد خطوة, فلن يوجد جدال ساعتها أنه سوف يفقد الكرة, وربما المباراة كلها حيث لا يوجد بالطبع اتفاق مع الفرق المقابلة علي السير علي نفس المنهج. ذات الاتفاق ليس موجودا في أمور حياتنا الأخري, والفرق في حالتنا هذه هي بقية دول العالم التي لا يمكن إقناعها بضرورة اتباع نفس القواعد المتمهلة. ومعذرة إذا كنا قد خرجنا من كرة القدم إلي موضوع آخر أظنه هو أصل المسائل كلها. [email protected]