أيام قليلة وتأتي مباريات كأس العالم حينما تتجه أنظار الدنيا كلها إلي جنوب إفريقيا لكي تشاهد فرقا تتنافس, ولكن معها أيضا تمثيلا لدول وأمم وثقافات, ولم يحدث في تاريخ الإنسانية أن تجمعت الأنظار علي هذه الصورة صوب مكان واحد كما يحدث خلال هذه الفترة. وما زلت أتذكر ذلك الوقت من صيف عام1998 عندما ذهبنا في بعثة الأهرام الصحفية في رحلة آسيوية بدأناها في باكستان, ومنها إلي الهند ثم سنغافورة فإندونيسيا وأخيرا الصين حيث قضينا أسبوعا كاملا. وفي هذه الدول شاهدنا عواصم وحواضر وقابلنا مسئولين كبارا وباعة طريق, وتحدثنا عن الأزمة المالية والاقتصادية الآسيوية والتفجيرات النووية الهندية والباكستانية, ولكن مباريات كأس العالم كانت حاضرة في كل الأوقات رغم فروق التوقيت, واختلاف الليل والنهار في بلد اللعب فرنسا عن البلاد العابرين فيها, وكم من المرات سهر أفراد من البعثة حتي الفجر لمشاهدة فرقهم المفضلة. كان ذلك قبل اثني عشر عاما, حيث لم يكن قد جري للدنيا ما جري لها الآن, ولم تكن أجهزة الكومبيوتر بهذه الخفة والشمول التي صارت عليها من قدرة علي المتابعة والمشاهدة, وكانت المعجزة التي حصلنا عليها تلك الأجهزة التي عرفتها الأهرام لأول مرة من أجل الرحلة الصحفية. ومع ذلك كانت العولمة الثقافية والرياضية قد مضت بسرعات مخيفة عابرة قرص الشمس مع الدول والقارات. ومع المباريات كان الحديث عن طرق اللعب والمناورة, ووسائل الفوز اعتمادا علي الجماعة أو المهارة الفردية أو كليهما معا. ولم يكن ذلك حديثا رياضيا في معظم الأوقات وإنما اقترابا من الفلسفة والبحث عن وجود الإنسان في ساحة منافسة تختبر فيها المعادن, ويدرك البشر أقصي ما فيهم من قدرة بدنية. ودار الزمان دورات متعددة حتي وصل كأس العالم إلي إفريقيا ومعه أغنيته الخاصة, وفي العادة كان كأس العالم مثل الدورات الأولمبية يذهب إلي حيث يوجد التقدم الذي ينبغي علي الإنسانية جمعاء مشاهدته, ولكن الأمر هذه المرة ربما كان مختلفا قليلا حيث وصل إلي أقل قارات العالم تقدما حتي لو اختار أكثر بلدانها غني وقدرة. المعني في هذه المرة يدخل في دائرة الحقوق المتساوية أكثر مما يدخل في دائرة المثال حتي لو كانت جنوب إفريقيا من الدول التي خاضت مخاضا خاصا جعلها مع المكسيك والبرازيل من دول المميزات الخاصة. مصر في هذه المسألة? كأس العالم2010 أصيبت بخيبة الأمل مرتين: مرة عندما فشلت في الحصول علي المونديال نفسه لكي يقام علي أرضها, وعلي عكس ما قال حافظ إبراهيم فإن بناة الأهرام في سالف الدهر لم يكونوا من الكفاية عند التحدي والمقارنة ما بين ملفات الدول المتنافسة من أجل أن تكون مصب اهتمام العالم شهرا كاملا. والمرة الأخري عندما فشل فريقنا القومي في الوصول إلي نهائيات كأس العالم بعد هزيمته من الجزائر في الخرطوم في مباراة فاصلة كان لها ما لها من ذكريات مريرة. وهذه المرة أيضا لم نكن علي مستوي الحدث حتي لو كنا لثلاث مرات أبطال أفريقيا دون منازع. لماذا خاب أملنا مرتين; مسألة تستحق البحث, ولماذا لم نبلغ حد الكفاية حتي نحوز شرف إجراء المنافسة علي أرضنا, وما الذي كان ينقصنا حتي نرضي بقية الأمم ونصل إلي السقوف التي اختارتها لتنظيم المسابقات العالمية, وهل نحتاج في كل الأحوال إلي كأس العالم حتي ندرك الحاجة إلي تحقيق هذه المستويات من أجلنا نحن وليس من أجل أي غرض آخر؟ ولماذا حدثت الهزيمة من الجزائر, وهل كان ممكنا تجنبها, وهل نحتاج في كل مرة نقترب فيها من الوصول إلي النهائيات العظمي أن نعرف تأثير ما يفعله غضب طائش أو حجر لا يعرف أحد إلي أين يذهب, وما دخل العروبة في موضوع منافسة يخص العالم أجمع؟ قضيتنا وحسرتنا بالغة وكاشفة في آن واحد, ولا أدري ماذا كنا سنفعل إذا ما ذهبنا إلي كأس العالم فتجاربنا قليلة, ويصعب القياس عليها. ومنذ عام1934 لم نصل إلا مرة واحدة في عام1990, وحينما وصلنا إلي باليرمو أقمنا استحكامات دفاعية ونجحت الخطة مع هولندا وأيرلندا فتعادلنا مع كليهما, وخرجت الجماهير في أفراح لا تنام, ولكن الخطة الدفاعية فشلت مع إنجلترا فخسرنا بهدف واحد. ولكننا حققنا في النهاية ما كنا ننوي تحقيقه علي أي حال وهو التمثيل المشرف, وهو تعبير كرهته أيامها, وناديت بالثورة عليه, ولكن ربما كان ذلك هو ما نقدر عليه. وبعد عقدين من السنوات أعتقد أننا كنا سوف نكون أفضل كثيرا, وفريقنا بات أكثر طاقة, ولديه قدرات هجومية يخشي منها من قبل خصوم وصلوا جميعا إلي كأس العالم لأسباب لم أفهمها ولم تنجح جميع الاستديوهات التحليلية في شرحها بكفاءة. ولكن لو تفتح باب الشيطان وعمله, والحقيقة المرة هي أننا لن نكون هناك في الساحة التي يوجد فيها آخرون يلعبون ويتنافسون في جنوب أفريقيا, وعلينا أن نبدأ الطريق من أوله مرة أخري, ومن الجائز أننا سنكون أكثر حرصا في المستقبل, ومن الجائز أيضا أننا سوف نمضي علي طريقة سيزيف في الأسطورة الشهيرة حيث يدفع الصخرة إلي أعلي الجبل حتي تكاد تلمس أصابعه حدود القمة وهل كان هناك ما هو أقرب بعد الفوز علي الجزائر في القاهرة واكتمال قوة فريقنا في الخرطوم؟ فإذا بالصخرة تتدحرج إلي السفح مرة أخري كاللعنة في الأساطير المسحورة. ولكن السباق نحو كأس العالم ليس في كرة القدم فقط, فكما رأينا فقد كان سباقنا من أجل الحصول علي السباق نفسه واحدا من أنواع السباقات, وأكاد أجزم أن الصين لا تلعب كرة قدم جيدة علي الإطلاق قد صنعت كل ما له علاقة بكرة القدم ومسابقة كأس العالم وطرحتها علي الأسواق الدولية. ولا يزال العالم يتذكر استاد عش الطائر الصيني خلال الدورة الأولمبية, وسوف يتذكر أيضا كل ما سوف يجري في جنوب إفريقيا التي حصلت علي مليارات الدولارات قبل أن تبدأ المباريات, أو قل قبل أن تفتح سوق المنافسة. والمسألة بالفعل في كثير من جوانبها سوق تسوق فيها الدول والجماعات والثقافات ما لديها من قيم وقدرات بجوار الأعلام والأناشيد الوطنية; وفيها أيضا تجري أكبر عملية لتسويق اللاعبين والفرق. وببساطة بات الأمر كله صناعة كبري, ومن كان يظن أن الرياضة مكان للهواية فإن الأمر لم يعد كذلك, وتحول الأمر كله إلي سوق عالمية بالفعل تلتقي فيها الإنسانية كلها علي الاحتفاء بمهارات في الدفاع والهجوم, ولكنها في نفس الوقت تبيع وتشتري ساعات إرسال وتوقيتات متعة يصحبها بعض منغصات التحليل الفضائي التي لابد منها. وذات مرة شاهدت مباراة كبري في كأس العالم مع تحليلها, وتخيلت هل من الممكن أن يستمع الإنسان إلي قطعة موسيقية ثم يفسدها بعد ذلك بتحليل الجمل الموسيقية؟ وبالطبع فإن المسألة مختلفة, والتحليل الفضائي جزء هام من السوق والصناعة الكبري التي صارت المراهنات والتوقعات جزءا أساسيا فيها مع حقوق البث ومن يحتكر الإرسال في مناطق مختلفة. وحتي وقت قريب كانت مشاهدة مباريات كأس العالم جزءا من الحقوق الأساسية للإنسان, وبعضنا شاهد مباريات مسجلة لبيليه, وأخري مباشرة من المكسيك كان فيها مارادونا, ولم ندفع جنيها واحدا في أي منهما. ولكن الأمر كله بات مختلفا, وربما كان ميسي أو دروجبا مصنوعين من طين آخر, أو أنهما جاءا من عصر آخر, ومن عجب أن اللعبة نفسها لم تجر فيها تغيرات جوهرية اللهم إلا زيادة سرعاتها, ولكن التغير الجوهري جاء في طريقة نقلها, ومع ذلك جاءت القدرة المادية التي تحولت إلي عمليات ومنها إلي نفوذ سياسي, وهل كان ممكنا لأحد أن يتخيل ذلك الذي حققته قطر بقناة الجزيرة ونقلها لمباريات كأس العالم؟ وذات يوم قال هنري كيسنجر أن الولاياتالمتحدة لن تصير قوة عظمي ما لم يكن لها فريق محترم في كأس العالم, كان تعجبه كبيرا من أن بلاده لم تهتم بالموضوع كما يليق. ولكن أمريكا ليست وحدها في الموضوع, فالهند مثلا, بما فيها من مليار وبعض مئات من الملايين ليس لها حول أو صول في كرة القدم; وباكستان التي أخذت من الإنجليز لعبة الكريكيت فإنها لم تأخذ منهم كرة القدم. ومع ذلك فإنني علي يقين أن اللعبة مع العولمة سوف تأخذ ألباب هذه الدول وشعوبها, وفي المدارس الأمريكية فإن لعبة كرة القدم باتت تنافس لعبة كرة السلة وكرة القدم الأمريكية; وإذا كانت الصين تلعب كرة القدم الآن, فتأكد أن الهند وباكستان لا تستطيعان الانتظار طويلا. استعدوا الآن واربطوا الأحزمة فسوف تقلع طائرة كأس العالم, ولا تخف كثيرا من الاحتكار القطري للمباريات فقد اشتري لك التليفزيون المصري المباريات الهامة والمصيرية, وبذلك يضاف نوع جديد من الدعم يحافظ علي التوازن النفسي للشعب المصري بعد أن بات الشاي المضاف إلي بطاقة التموين لا يستطيع القيام بهذه المهمة. وربما كانت هذه هي المرة الأولي التي يتم فيها إضافة هذا النوع من الدعم دون احتجاج يذكر من المؤسسات العالمية المالية المعروفة, ولا يبدو أن الدكتور يوسف بطرس غالي لديه مشكلة, ومن المؤكد أنه لن يفرض ضريبة علي مشاهدة المباريات لأنه سوف يكون مشغولا بمشاهدتها!!. [email protected]