عن مفهوم العدل والحرية وعلاقة كل منهما بالآخر يدور نقاش فلسفي علي صفحات إحدي الجرائد القومية بين كل من الدكتور سمير تناغو والدكتور حازم الببلاوي، وذلك بمناسبة الجدل الدائر حاليا بين العرب والغرب فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، وهل هي مطلقة أم مقيدة؟! وهو السؤال الذي أثير بشدة عقب ظهور تلك الرسوم البائسة التي تسيء لنبينا الكريم صلي الله عليه وسلم. يؤمن الدكتور تناغو بأن العدل أسمي من الحرية، في حين يؤمن الدكتور الببلاوي بأن الحرية هي التي قادت دائماً إلي العدل، وبالتالي لا عدل بدون حرية، والمتأمل فيما قاله الأستاذان الجليلان يجد أنهما قد رجعا لما قاله الفلاسفة في تعريف المفهومين، ولغة الفلسفة والفلاسفة قد تكون صعبة الفهم علي السواد الأعظم من القراء من عامة الشعب، لذلك قد لا نكون قد توصلنا لتعريف دقيق للمفهومين، وأيهما أسمي من الآخر أو يسبقه في الأهمية، وربما لو استخدمنا لغة أقل صعوبة من لغة الفلسفة فقد نصل إلي فهم لمعني كل من العدل والحرية وهل هي قيم مطلقة أم مقيدة؟! يبدأ الدكتور حازم الببلاوي بمناقشة بعض المفكرين الذين يرفعون شعار أن العدل أسمي من الحرية هم في الحقيقة يبحثون عن الحاكم المستبد العادل، وهو يختلف معهم بطبيعة الحال لأنه يري أن الحرية والمساواة هما معا أعمدة أي نظام سياسي ناجح، ويري أيضا أن الحرية هي الأساس، وينبغي أن يكون لها الأسبقية، والدكتور الببلاوي هنا يتحدث عن المساواة وليس العدل، ويتساءل أيضا عن تعريف العدل الذي هو اسمي من الحرية، هل هو القانون الوضعي أم الطبيعي أم الإلهي؟! والحقيقة أن الخلاف الظاهري بين الأستاذين الكبيرين لا يعني اختلافا جوهريا بينهما، فأحدهما يتحدث عن العدل، بينما الآخر يتحدث عن المساواة، في حين يتحدث الاثنان عن الحرية، لذلك جاء هذا التباين بينهما في الرأي وهو تبادين طبيعي لأن العدل لا يعني المساواة في كل الأوقات، فقد تكون المساواة ظلما عندما نساوي بين غير المتساوين، كأن نعطي شخصين ذات الأجر في حين أن مؤهلاتهما وقدراتهما الشخصية غير متساوية، فهنا تكون المساواة ظلما، أما عندما يتساوي البشر في دولة ما في فرص العلاج الصحي فهنا تكون المساواة عين العدل، أقول هذا بالرغم من أن "مختار الصحاح" قد ذكر ضمن شروحه المتعددة لمعني "عدل" ذكر أنها المساواة بين شيئين، كما ذكر أيضا من ضمن معاني "المساواة أنها العدل". والعدل والحرية ليستا قيمتين متنافستين، لكنهما مكملتان لبعضهما البعض، العدل يحمي الحرية، والحرية تقيد بمعايير العدل، فالعدل الذي يمثله القانون سواء كان قانونا وضعيا (وهنا يكون العدل إنسانيا وغير مطلق إلا في زمن تطبيقه) أو القانون الإلهي الذي نزلت به الديانات السماوية المختلفة (والعدل هنا هو عدل مطلق) هو أسبق دائما للحرية ومنظما لها، فلم يخلق الله الجسد الإنساني إلا بعد أن وضع له قانونا صارما يحكم أعضاءه، لكي يحفظ لهذا الجسد توازنه، وإذا ما بدأ كل عضو في التصرف بحريته المطلقة دون قيود القانون الإلهي الذي ينظم عمله، فهنا تكون نهاية الجسد، لذلك فالحرية منذ أن خلق آدم عليه السلام وإلي الآن وهي دائما مقيدة بما ينظمها من قوانين تنبع من مفهوم العدل الذي يضمن للمنظومة الاستقرار ومن ثم الاستمرار. أما عن تعريف العدل في زمننا هذا فهو في ظني يعني تطبيق القانون المتفق عليه من لدن الشعب علي الجميع دون أي تمييز، أما الحرية المطلقة فهي كما قال الدكتور الببلاوي غير موجودة، وإنما هي دائما مقيدة بقيود تختلف من مجتمع لآخر طبقا لمجموعة من العوامل التي تحدد لها حدودها، ولكن القاعدة المعروفة والمعمول بها في معظم المجتمعات تقول بأن حرية الفرد تنتهي عندما تقترب من نطاق حرية الآخرين، وقديما قال المثل "أنت حر ما لم تضر"، والضرر هنا يمتد في بعض المجتمعات إلي ضرر النفس. أما فيما يخص الحاكم المستبد العادل، فلا أعتقد أنه وجد في زمان مضي ولا في الحاضر ولن يوجد في المستقبل، لأن العدل والاستبداد نقيضان لا يمكن أن يجتمعا معا في إنسان واحد.