ممارسة التعذيب أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الأمريكية، والدليل علي ذلك تباطؤ إدارة بوش في الاستجابة للانزعاج الدولي بعد مرور أربع سنوات علي تسرب معلومات حول ممارسة التعذيب في السجون الأمريكية. جاءت الصور الجديدة للممارسات الوحشية والقتل العمد الذي يقوم به أفراد من القوات الأمريكية في سجن "أبوغريب" ببغداد، بالإضافة إلي التقرير الأخير الصادر عن الأممالمتحدة الذي يدين أعمال التعذيب والاعتقال غير القانوني في سجن جوانتانامو لتعيد إلي الواجهة عناوين إدمان إدارة بوش علي التعذيب، وهي العناوين التي نادرا ما تتصدر الصفحات الأولي للصحف الأمريكية. ويذكر أن قصة إدارة بوش مع التعذيب ليست وليدة اللحظة، بل هي تراكم لقضايا أخري غير شرعية تورطت فيها الإدارة مستغلة غياب الاهتمام الشعبي بالممارسات المشينة التي تجيزها الإدارة الحالية باسمه. ولعل القصة الأكثر إثارة للاهتمام هذه الأيام هي فشل ديك تشيني في التعامل مع سلاح الصيد وفقاً لمعايير السلامة، ولو لم يكن نائب الرئيس قد وجد أشياء أكثر جدوي وأهمية من المشاركة في حرب فيتنام كما قال هو نفسه في معرض تبريره لمسألة تهربه من التجنيد لكان تعلم علي الأقل كيفية إطلاق الرصاص دون التسبب في جرح الآخرين. وعلي كل حال، فإن الرجل نفسه الذي آثر سلامته الجسدية علي المجازفة بالانخراط في خدمة الوطن، نصب نفسه باعتباره المدافع الأول في أمريكا عن تعذيب المعتقلين في أفغانستان والعراق وجوانتانامو ومناطق أخري. والأكثر من ذلك كان تشيني وراء المحاولات الفاشلة لإجهاض وعرقلة مشروع القانون الذي تقدم به السيناتور جون ماكين بهدف منع التعذيب وتجريمه. ورغم أن الرئيس جورج بوش وافق علي المشروع، فإنه أرفقه ببيان يؤكد فيه صلاحية الرئيس، بصفته القائد الأعلي للقوات المسلحة، بتجاهل مقتضيات مشروع القانون. وبالنظر إلي إصرار إدارة بوش علي إجازة ممارسة التعذيب يصعب فهم الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك؛ فبغض النظر عن الجانب الأخلاقي الذي يضع التعذيب في خانة المشين واللاأخلاقي، لا يوجد من الناحية البراجماتية ما يبرر اللجوء إلي التعذيب ما دام يلحق أضراراً فادحة بسمعة أمريكا في العالم، فضلاً عن عدم فاعليته إذ لا ينتزع سوي القليل من المعلومات التي غالباً ما تأتي في غير وقتها. علاوة علي ذلك تعتقد بعض الشخصيات في الإدارة الحالية أن أهداف الولاياتالمتحدة النبيلة المتمثلة في نشر الديمقراطية في العالم تخولها صفة التفرد وتجعلها فوق القيم الأخلاقية للديمقراطيات الغربية. وبانتفاء الأسباب الأخلاقية والبراجماتية في اعتماد إدارة بوش علي التعذيب تبرز عوامل أخري ذات طابع سيكولوجي، ذلك أنه في تهرب بعض أعضاء إدارة بوش من أداء الواجب الوطني في السابق ربما يفسر سعيهم اليوم إلي التعويض عبر إظهار بطشهم. ولئن كان هذا التفسير قاسيا ويختزل الصورة العامة للوضع، إلا أن إدارة بوش أظهرت فعلا حماسا منقطع النظير في الدفاع عن التعذيب. ففي شهر ديسمبر 2002 وجه وزير العدل الحالي ومستشار البيت الأبيض وقتئذ ألبيرتو جونزاليس مذكرة إلي وزارة العدل تحدد المعايير الخاصة بممارسة التعذيب. ودافعت المذكرة عن حق الرئيس في الترخيص بممارسة التعذيب ما لم يؤد إلي فشل عضو من أعضاء الجسم، أو إلي الموت. وفي نفس الإطار تم عقد اجتماع لمناقشة التقنيات الخاصة بالتعذيب والمصادقة عليها، حيث أبدي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد اهتماماً خاصاً بالموضوع. وبالنسبة لهؤلاء الذين يقبعون خلف القضبان في سجن "أبوغريب" والذين تعتبرهم الإدارة الأمريكية أشراراً يجب التعامل معهم بقسوة، فإنهم غالباً ما لا تنطبق عليهم الصورة التي تسوقها صحافة "المحافظين الجدد" وبعض الأكاديميين من أتباع الإدارة. تمثل الصورة غرفة وضعت فيها قنبلة موقوتة وبداخلها نساء وأطفال مهددون بالانفجار بعد دقائق معدودة ما لم تُنتزع الشيفرة من العدو المعتقل. بيد أن السجناء في جوانتانامو الذين يحقق معهم الأمريكيون ليست لديهم أدني فكرة عن الشيفرة، وفي بعض الأحيان لا يعرفون حتي سبب اعتقالهم. لكن ما أن ينتهي منهم المحققون بعد إخضاعهم لحصص تعذيب طويلة ومهينة حتي يكون المعتقلون قد جربوا فعلاً معني الجحيم علي سطح الأرض. ويعتبر أغلب هؤلاء المعتقلين ضحايا المداهمات العشوائية للمنازل التي تتم تحت جنح الظلام. ولعل حالة سائق التاكسي في كابول الذي اعتقل سنة 2002، أبلغ مثال علي العشوائية التي تصاحب الاعتقالات ولا تفرق بين البريء والمذنب. فقد كانت جريمة السائق الوحيدة أنه تواجد في المكان الخطأ، حيث تصادفت جولته مع انفجار أحد المواقع في كابول، ولأنهم لم يجدوا أحداً غيره اعتقلته القوات الأمريكية وأخضع لتعذيب أدي إلي وفاته رغم معرفة المحققين ببراءته. ويشكل مصير سائق التاكسي في كابول فضلاً عن مئات الضحايا الآخرين الذي قضوا تحت الاعتقال الأمريكي إدانة حقيقية للممارسات الأمريكية. وفي رأيي تعزي ممارسات التعذيب التي تدافع عنها الإدارة الأمريكية إلي ذلك الاعتقاد الراسخ لدي العديد من أعضاء إدارة بوش بأن تبني سياسة الاعتقالات العشوائية بين المدنيين، وانتهاج التعذيب الممنهج ضد المعتقلين وإساءة معاملتهم من شأنها إرهاب المواطنين والحيلولة دون مساندتهم، أو انضمامهم للمتمردين. ويذكر أن آخر مرة استعملت فيها هذه السياسة علي نطاق واسع كانت في عهد ستالين الذي ارتكبت شرطته السرية جرائم فظيعة أدت إلي مقتل الآلاف من الأشخاص. ومما يدل علي أن ممارسة التعذيب أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الأمريكية هو تباطؤ إدارة بوش في الاستجابة للانزعاج الدولي بعد مرور أربع سنوات علي تسرب معلومات حول ممارسة التعذيب في السجون الأمريكية، حيث مازالت تنكر الإدارة الحالية أية علاقة بالتعذيب معتبرة نفسها المدافعة الأولي عن حقوق الإنسان وانتشار قيم الحرية والديمقراطية في العالم.