ممارسة التعذيب أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الأمريكية، والدليل علي ذلك تباطؤ إدارة بوش في الاستجابة للانزعاج الدولي بعد مرور أربع سنوات علي تسرب معلومات حول ممارسة التعذيب في السجون الأمريكية. إذا كان من الطبيعي ان تنكب الاحزاب السياسية لمراجعة مواقفها وانجازاتها بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الاخيرة، الا انه من غير الطبيعي ان تتحول تلك المراجعات إلي انقلابات داخلية، تكاد تعصف بأركان وقيادات، وربما بوجود تلك الاحزاب اصلا علي المسرح السياسي في مصر. وعلي الرغم من إنني غير منتم لأي حزب او جماعة سياسية اخري، الا انني اصاب بغصة كبيرة عندما استشعر وجود خطر ما، قد يؤثر سلبيا علي وجود واداء اي حزب سياسي كبير، وذلك علي اعتبار ان ما قد يصيب ذلك الحزب وغيره، فإنه سينعكس بالضرورة علي البنية السياسية الداخلية من جانب، فضلا عن تأثيره السييء الذي سوف يحدثه علي النسيج الوطني بشكل عام. في هذا السياق يمكن اعتبار الذي يحدث في حزب الوفد الآن، نموذجا للازمة التي تعيشها قيادات وجماهير الاحزاب السياسية المصرية بشكل أو بآخر، بما في ذلك الحزب الوطني الديمقراطي نفسه، والذي طالبت فيه "قواه الإصلاحية" مؤخرا بإجراء تغييرات عميقة في شخوص وممارسات الحزب، خصوصا في ظل السلبيات الماضية التي ادت لسقوط رموزه وتواضع النسبة التي حققها مرشحوه في الانتخابات التشريعية الاخيرة. اما بالنسبة لاحزاب المعارضة الاخري ذات الثقل السياسي الاهم او هكذا كان متصورا والتي يأتي الوفد علي رأسها فقد استيقظت فجأة صبيحة اعلان نتائج الانتخابات لتجد نفسها "خالية الوفاض"، فالذي اكدته النتائج، ويشير بما لا يدع مجالا لأي شك، إلي أنها عاشت طيلة السنوات الماضية علي أوهام وخيالات، صورت لها أنها بالفعل أحزاب سياسية ذات أصول وجذور في الشارع المصري، وبأنها كيانات سياسية يمكن أن تحصد عددا لا يستهان به من مقاعد مجلسنا النيابي عند إجراء الانتخابات بحيادية وشفافية، إلا أن الذي حدث بالفعل كان غير ذلك علي طول الخط. لذلك تعرض قادة تلك الأحزاب لمؤاخذات وهجوم القيادات الوسطي لها، الأمر الذي عنون إلي ميلاد جيل جديد من القيادات، التي رأت أن الوقت قد حان لرحيل القيادات التاريخية للأحزاب بكل الفشل الذي حملته، تلك القيادات التي عمدت إلي تهميش الصفوف التالية لها، والتي "تمترست" دائما بكراسيها ومواقعها، حبا في الرئاسة والوجاهة. قد تكرر ذلك السيناريو تقريبا في حزب التجمع، حيث رأت قيادات عديدة هامة فيه أن اليسار لم يعد قطبا في الصراع حول المستقبل السياسي في مصر، كما أنه يعاني من التشرذم والانقسام، واختفاء العلاقات الصحيحة بين تياراته المختلفة، مما يستوجب أن يتحمل اليساريون مسئوليتهم للبحث حول صياغة كيان يساري موحد، لذلك لم يكن غريبا أن تقرأ عن حرب طاحنة قد دارت رحاها داخل جدران الحزب بين رئيسه ونائبه. كما لم يكن الحال في الحزب العربي الناصري أحسن حالا من سابقه، حيث ارتفعت سخونة الأحداث داخله بين رئيس الحزب وأمينه العام، خاصة بعد إعلان الرئيس عن تمسكه برئاسة الحزب، علي الرغم من سقوطه أو إسقاطه في الانتخابات، فضلا عن النزاع الذي بدي بين رئيس الحزب ورئيس تحرير جريدته، والذي أدي بالأخير إلي التهديد بتقديم استقالته، اعتراضا علي ما يدور في دهاليز الحزب أو كابينة القيادة فيها. ويبدو أن عدوي الانقلابات الداخلية قد امتدت أيضا لتطال العديد من أحزاب المعارضة الصغيرة الأخري. وإذا كانت تلك الأحزاب لا تعدو عن كونها أحزابا عائلية محضة، إلا أن ذلك لم يمنع أيضا القيادات الوسطي بها من رفع "راية العصيان" في مواجهة قياداتها، حيث أعلن عضو الهيئة العليا وأمين تنظيم الحزب بمحافظة أسوان مع عدد لا يستهان به من أعضائه علي سبيل المثال، عن الدعوة إلي عقد جمعية عمومية في أسوان، وذلك تمهيدا أيضا لطرح الثقة في رئيس "حزب مصر 2000" والإطاحة به، بعد إعلانهم عن اكتشاف العديد من المخالفات الجسيمة التي ارتكبها رئيس الحزب ماليا وقانونيا أثناء فترة توليه رئاسة الحزب، فضلا عن اتهامه بتحويل الحزب إلي حزب عائلي يضم الأبناء والأقارب، والذين تم تسكينهم في مواقع قيادية داخل صفوفه!! وقد استتبع ذلك حسب ما نشر زعم رئيس الحزب ببطلان الاجتماع الذي كان مزمعا عقده في أسوان بتاريخ 25 يناير الماضي ولم يكتف رئيس الحزب بذلك، بل إنه هدد بإبلاغ جهاز مباحث أمن الدولة لاتخاذ التدابير اللازمة لمنع البلبلة وإثارة الانشقاق داخل صفوف الحزب حسب وصفه، كما أنه أكد بعدم السماح بتكرار أحداث الوفد داخل الحزب الذي يترأسه! (ويذكر في هذا السياق الدرامي، أن إجمالي عدد أعضاء ذلك الحزب لا يتجاوز "165" عضوا فقط، حسب ما هو متاح ومنشور عن أرقام العضوية بالأحزاب المصرية المختلفة). بينما انصرفت اهتمامات بعض تلك الأحزاب السياسية محدودة العضوية إلي مجرد الاهتمام بالوجود الإعلامي فقط بين الحين والآخر، ظنا منها بأن ذلك قد يوجد لها جسرا من التواصل والتفاعل السياسي مع الجماهير، التي هي منصرفة في الأساس عن المشاركة السياسية ولو حتي بالتصويت في الانتخابات. لذلك رأينا منها عجبا مثل: أولا: إعلانها عن تشكيل "حكومة ظل" قام بتشكيلها رؤساء عشرة أحزاب منها، تماما كما يحدث في بعض النظم الغربية التي قطعت شوطا كبيرا في الممارسة والحياة الديمقراطية بمعناها الحقيقي!! ثانيا: إعلانها عن تشكيل لجنة أسموها "لجنة التشاور والتضامن الحزبي"، مكونة من ستة أحزاب معارضة صغيرة، والغريب الذي استتبع تشكيل تلك اللجنة، هو مطالبتها أولا: بإجراء مناظرة علنية مع الحزب الوطني لكشف ما وصفوه بالحيل والمكائد التي يدبرها الحزب ضدهم واستسلام النظام السياسي في مصر "للديمقراطية الأمريكية"! ومطالبها، ثانيا: بمساحات إعلامية متساوية في الإذاعة والتليفزيون لعرض برامجها وآرائها في مختلف القضايا الداخلية والخارجية لمواجهة ما وصفوه بالتهكم عليهم في أجهزة الإعلام المختلفة. فإذا كان ما سبق يمكن اعتباره في إطار "المعقول"، إلا أن بقية مطالبات اللجنة الأخري، فإنها تصب لاشك في خانة "اللامعقول" فهل من المعقول في شيء أن تطالب بحق أحزابهم في الحصول علي حصة إضافية من الأموال مما يعينها علي حل مشاكل أعضائها ومواجهة متطلباتها المادية، وهل من المعقول كذلك لها أن تطالب بالسماح لها باستثمار أموال أحزابهم في مشروعات تجارية لتحقيق الاكتفاء الذاتي ماديا لأحزابهم؟ وليسمح لنا هؤلاء مع احترامنا لهم بسؤالهم عن حقيقة موقفهم المالي، فكيف يشكون من العوز والحاجة والمطالبة بدعم الدولة ماديا لهم، في نفس الوقت الذي يطالبون فيه بالسماح لهم باستثمار أموال أحزابهم في مشروعات تجارية؟ أليس في ذلك تناقضا غريبا ومريبا؟! وإذا كنا قد كتبنا من قبل كثيرا حول اقتصار الاهتمام بالسياسة في مصر علي النخب السياسية والحزبية ومجموعات المفكرين والكتاب والمثقفين فقط، فإننا نعيد القول والزعم بأن كل الذي يدور في كواليس الأحزاب السياسية وصحفها، لا يشغل مطلقا اهتمام القاعدة العريضة من المصريين، الذين ينشغلون وينسحقون تحت وطأة البحث عن "لقمة العيش" وتوفير احتياجاتهم الاستهلاكية الغذائية علي أقل تقدير، أما "ترف السياسة" وأزمات الأحزاب والصراعات الدائرة داخلها فلها رجالها والمهتمون بها، فما جدوي هذه الأحزاب في بلدنا ما لم تقدم للناس حلولا وبرامج واقعية وعملية تضمن استمرار حصول المواطنين علي الغذاء وخدمات التعليم والصحة، تلك المطالب التي ازداد الإحساس بثقلها وزيادة وطأتها، خاصة في السنوات الأخيرة. لقد شهد الأمس انهيار حزب "الغد" وفي الانتخابات الأخيرة تبعثر "التجمع" ومن قبلهما جميعا سقط "الأحرار" وتجمد، والخوف أن يكون ذلك هو المصير المحتوم للوفد، وليس الناصريون إلا جريدة، ذلك طرح الأستاذ سمير الشحات في عموده "أحداث في الأخبار" بأهرام يوم 30 يناير الماضي، تشخيصه السابق وسؤاله المهم التالي: ما جدوي هذه الأحزاب في بلدنا بالضبط؟ وما هي الأحزاب أصلا؟ ثم استطرد قائلا ونحن معه.. أن معني وجود أحزاب، أن يكون مسموحا لكل مجموعة تجمعها مصالح مشتركة وأهداف واحدة، بأن تتحد وتتكتل وتشكل حزبها الذي يعبر عن مصالحها ويمارس الضغوط المختلفة للحفاظ عليها.. فهل مسموح لنا نحن المصريين بذلك الآن؟ وهل حدث في دولة ما باستثناء مصر المحروسة أن أنشأ أحدهم صحيفة فإذا بالصحيفة تصبح حزبا؟ ما الحل إذن؟ الحل هو إلغاء لجنة شئون الأحزاب وإطلاق حرية تشكيلها لكل الفئات والجماعات والملل، دونما رقابة من أحد إلا القاضي الطبيعي فقط.. وساعتها سنكون بحق بلد أحزاب!! كما كنا ولا نزال "بلد شهادات" (الإضافة الأخيرة من عندنا).