علي المستوي المحلي والعالمي يتحدث الناس الآن عن التعذيب كوسيلة وممارسة مازالت للأسف موجودة من أجل قهر المعارضين، وانتزاع المعلومات من الخارجين علي القانون أو من يضمرون شرا للدولة من خلال التجسس أو التخريب أو الإرهاب. وبرغم أن التعذيب يتعارض أخلاقيا مع الكرامة الإنسانية وحقوق البشر في العيش في أمان وكرامة، إلا أنه ومع كل التقدم التكنولوجي وانتشار الدفاع عن قيم حقوق الإنسان لم يتقلص حتي في الدول المتقدمة، ومازالت الحكومات تلجأ إليه كوسيلة للحصول علي المعلومات في عالم يتغير بسرعة كبيرة، وفي مواجهة تحديات ومخاطر مُركبة قد تستعصي علي الفهم والتحليل، لاتخاذ إجراءات مضادة وفي الزمن المطلوب. علي مستوي الداخل المصري مازلنا نسمع عن التعذيب وعن استخدامه في بعض مراكز الشرطة والسجون برغم الحساب والعقاب الذي تنزله السلطات علي من يستخدم مثل هذه الممارسات غير القانونية. أما علي المستوي الدولي فيتحدث الناس عن قرار الرئيس أوباما بغلق معتقل جوانتانامو، وما أقدم عليه مؤخرا من نشر مذكرات التعذيب التي أصدرتها إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وخلال الحرب في العراق وأفغانستان، وبطبيعة الحال كل ما يتصل بالحرب ضد الإرهاب. يبدو موضوع التعذيب من علي السطح أنه من الأشياء الضرورية برغم رفضه أخلاقيا حيث ننظر إليه في أوقات الطوارئ علي أساس أن الضرورات تُبيح الممنوعات بدون التأكد من فرضية أن التعذيب هو المخرج الوحيد للحصول علي المعلومات بسرعة لمنع الضرر قبل أن يقع، ومع تكرار استخدام التعذيب يُصبح من الأدوات العادية حتي في غير أوقات الطوارئ والأزمات. وإذا أخذنا الحالة الأمريكية علي أساس أنها تحت مجهر المُحللين في الوقت الحاضر، وبسبب الضجة التي صاحبت نشر مُذكرات التعذيب، واحتجاج عدد كبير من قيادات المُخابرات الأمريكية في عصر بوش علي نشر هذه المذكرات والإفصاح عن أدوات التعذيب وأساليب الاستجواب المُستخدمة، واعتبارهم أن ذلك يمثل خطرا علي الأمن القومي ويعطي لأعداء أمريكا معلومات خطيرة قد تُضعف من قدرة المخابرات الأمريكية في المستقبل الحصول علي المعلومات من مصادرها المُختلفة ومن بينها استجواب المُتهمين والمتورطين في عمليات تجسس أو إرهاب؛ لوجدنا أن إدارة أوباما لها رأي آخر في الموضوع، وأنها بنشر هذه الأوامر تُريد من ناحية تحديد أنها من عمل الإدارة السابقة، ومن ناحية أخري فتح النقاش علي المستوي المجتمعي والأمني حول قضية التعذيب ومدي ضرورته في حماية المجتمع والأمن القومي. وفي الحقيقة لا يمكن إنكار أن النقاش الدائر في الولاياتالمتحدة حول هذا الموضوع مُمتع للغاية من زاوية أن كل الأمور هناك مطروحة للنقاش العام حتي ما يتصل بأجهزة المخابرات خاصة أنه يمس الجوانب المفهومية وبدون أن يتعرض للجوانب الفنية التي قد تأخذ في نهاية الأمر أسلوبا عملياتيا يجب الحفاظ علي سريته. وهناك أيضا جانب آخر يتعلق بالأخلاق والقانون والدستور، وموضع قضية التعذيب في هذه الثلاثية المتداخلة بغرض التعرف علي مسافة وحجم التجاوز حتي في أوقات الحاجة الملحة والتي قد يري البعض فيها أن التعذيب ضروري لإنقاذ أرواح أو تجنب ضرر فادح. وفي الحالة الأمريكية ووسط الفوضي التي عمت البلاد مع أحداث 11 سبتمبر والحاجة الماسة للمعلومات لمواجهة الموقف، كان التعذيب هو الوسيلة المتاحة والمبررة لاستخراج المعلومات من الأفراد المشكوك فيهم وبسرعة. لكن ذلك كان يعني أمام الجميع أن المُخابرات الأمريكية برغم شهرتها وسمعتها الذائعة كانت "نائمة في العسل"، وأنها فوجئت بما فعلته القاعدة برغم قيامها بعمليات إرهابية كبيرة ضد المصالح الأمريكية في إفريقيا وباكستان والبحر الأحمر. ومن المعروف أنه خلال هذه الفترة من التسعينيات، وفي أعقاب انتهاء الحرب الباردة، تم تخفيض ميزانية المخابرات علي أساس أن العدو الكبير _الاتحاد السوفييتي- قد تفكك، وأن تلك الجماعات الإرهابية تمثل مشكلة بوليسية بسيطة أكثر منها مشكلة أمنية تمس الدول علي المستوي القومي. وأتذكر في تلك الفترة أنني نشرت في صحيفة الأهرام مقالة عن الوسائل الجديدة للمخابرات وتحولها إلي الاعتماد علي الوسائل العلنية في جمع المعلومات مثل الصحف والتليفزيون وأقمار التجسس بهدف تقليل الميزانيات الخاصة بجمع المعلومات بشريا عن طريق العملاء. كما أن الحديث عن أفغانستان بعد انسحاب السوفييت منه كان قد خفت حدته، وقل معه الاهتمام بهذه المنطقة التي تحولت بدون أن يشعر أحد إلي خلية دبابير تنتظر الهجوم علي العالم عندما يحين الوقت. وبرغم مؤشرات كثيرة بدت واضحة في الأفق إلا أن المخابرات الغربية كانت تفكر علي مستوي مختلف، ولم تكن تصدق أن مثل هذه الجماعات يمكن أن تمثل تهديدا علي شاكلة ما تكرر في التسعينيات، وفي 11 سبتمبر مع بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. فرقعة العمليات الإرهابية والعثور علي خلايا نائمة جعلت الولاياتالمتحدة والدول الغربية في حالة شك دائم في كل شئ، وصارت الحاجة إلي المعلومات _ أية معلومات _ ماسة وعاجلة، ولم يكن أمام أجهزة المخابرات إلا توسيع "مجال الاشتباه" واستخدام التعذيب للحصول علي المعلومات بسرعة وتحت ضغط أمني وسياسة. وقد نتج من هذا الأسلوب رسم صورة مختلفة ومشوهة عن الحقيقة مصدرها عينة من البشر تحت وطأة التعذيب الشديد مستعدة أن تقدم للمُحقق ما يريد أن يسمعه وليس الحقيقة علي أرض الواقع. باختصار وفي حالة الولاياتالمتحدة بالذات وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر لم تكن الولاياتالمتحدة تعرف ما تريد أن تعرفه، كما أنها لم تكن قادرة علي التمييز بين المعلومات المهمة والهامشية. وفي حالة القاعدة _ وبسبب التعامل معها في البداية بوصفها تهديداً ثانوياً _ لم تكن الولاياتالمتحدة علي علم بنوايا هذا التنظيم وقدراته وقياداته ومدي انتشاره علي مستوي العالم. ولما واجهت التهديد واكتشفت مدي خطورته لم تكن علي علم بتفاصيل كثيرة فلجأت تحت وطأة الزمن والأحداث إلي التعذيب. ومن هذه الزاوية وصل النقاش الدائر حاليا إلي استنتاج مفاده أن التعذيب هو نتيجة مباشرة للقصور في عمل أجهزة المخابرات وليس طبيعة التهديد نفسه، وأن قلة معرفتها بما يجري علي مسرح الأحداث لم يعينها علي فرز الصالح من الطالح مبكرا وبدرجة عالية من الدقة. ولا شك أن استجواب المشكوك في أمرهم تكون مجدية بدون تعذيب إذا كان المستجوب علي علم بالحقيقة أكثر من المُتهم من خلال جهده السابق في التعرف علي مسرح العمليات وعلي مصادر التهديد المحتملة وطبيعتها وبشكل مستمر ومتجدد.