بربك قل لي ماذا تفعل حين لا يحل الخير محله، وحين يصادف أهل السوء؟ ذاك هو السؤال الرئيسي الذي أثاره انتخاب ''حماس'' بأغلبية ساحقة في الجمعية التشريعية الفلسطينية، التي أدت القسم يوم السبت الماضي. والحقيقة أن هذه لحظة ذات حدين: فإما أن تكون فاتحة لمرحلة جديدة من التسوية أو الهدنة طويلة الأمد في تاريخ العلاقات الإسرائيلية- الفلسطينية، أو أن تفتح باباً لفوضي عارمة شاملة. وبما أننا بهلوانات يلعبون لعبة قذف القنابل اليدوية عالياً في الهواء وتلقيها الواحدة تلو الأخري، فرجاء من الجميع التزام الحرص والامتناع عن أي حركات مباغتة! ومن دون أن نغرق في أية أوهام، فمما لاشك فيه أن ''حماس'' تتحمل وزراً كبيراً من المسئولية عن فظائع العنف الذي استهدف أرواح وحياة المدنيين الإسرائيليين. لذا فليست ثمة غرابة أن تنحو إسرائيل إلي الاعتقاد بأن السياسة الوحيدة الصحيحة الواجب اتباعها إزاء ''حماس''، هي مواصلة القتال ضدها حتي الرمق الأخير. ولكن هل ثمة حكمة أو ذكاء في تبني اعتقاد كهذا في الوقت الحالي؟ فإذا ما أرادت إسرائيل التخلص حقيقة من ''حماس'' أو علي الأقل تجريدها من أسلحتها، فإن الوحيدين القادرين علي فعل ذلك بدرجة عالية من الكفاءة والفاعلية، إنما هم الفلسطينيون أنفسهم ولا أحد سواهم. والسبب هو أنهم هم الذين انتخبوا ''حماس'' عبر منافسات ديمقراطية وحرة ونزيهة، طالما ألح الرئيس بوش علي إجرائها. وفيما لو قدر ل''حماس'' أن تفشل في دورها القيادي الجديد هذا في السلطة الفلسطينية، فإنه لمن المهم أن ينظر إلي ذلك علي أنه فشل ذاتي إرادي، صنعته ''حماس'' بنفسها واختارته طوعاً وإرادة. والمقصود هنا بالطبع إخفاقها في التحول من تنظيم إرهابي، إلي جهاز للحكم، قادر علي تحقيق الأمن والسلام وتوفير الحكم الصالح للفلسطينيين. وعلي ''حماس'' ألا تعلق فشلها بأي حال من الأحوال علي شماعة التبرير القائلة إن واشنطن وتل أبيب لم تمنحاها الفرصة الكافية للحكم والقيادة. وفيما لو بدا واضحاً للفلسطينيين أن ''حماس'' قد لُويت ذراعها وأُرغمت علي الفشل بسبب الضغوط الخارجية الممارسة عليها، فإن ذلك لن يسفر إلا عن فوز ساحق ثان للحركة في أي انتخابات فلسطينية تجري في المستقبل. ذلك هو تعليق خليل الشقاقي، المختص بقياس الرأي العام الفلسطيني. وبهذه المناسبة، فإن علينا أن نثير السؤال التالي: في حال إرغام ''حماس'' علي الفشل، فمن يجرؤ بعدها علي مطالبة الفلسطينيين بإجراء أية انتخابات نزيهة وديمقراطية في المستقبل؟! لندرك إذن حقيقة أن دفع ''حماس'' في ذلك الاتجاه، لن يثمر إلا عن إطالة أمد النزاع وزيادة المنطقة اضطراباً علي ما هي عليه من اضطراب أصلاً. ولهذا السبب، فإن من رأي خليل الشقاقي أن تتقبل كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل حقيقة كون ''حماس'' جزءاً لا يتجزأ الآن من حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بقيادة رئيس السلطة الحالي، محمود عباس ''أبومازن''، المعروف باعتداله وانفتاحه علي فكرة التسوية السلمية مع إسرائيل. كما جاء علي لسان الشقاقي قوله: ''نحن نريد أن نوفر لحماس سياقاً وطنياً فلسطينياً، تستطيع من خلاله توجيه أفكارها ومواقفها نحو الاعتدال، دون أن ترغم علي ذلك من قبل كل من الغرب وإسرائيل''. وإذا ما قدر ل''حماس'' أن تتغير وتبدل أفكارها ومواقفها المتطرفة، فإن السبيل الوحيد لذلك هو إرغامها علي مواجهة حقيقة أن في وسعها تحقيق نتائج ومكاسب أكبر للفلسطينيين، عبر التفاوض مع إسرائيل، وليس من خلال القتال معها ومواجهتها عسكرياً. يجدر بالذكر هنا أن معظم استطلاعات الرأي العام الفلسطيني التي أجريت مؤخراً، تشير إلي أن الأسباب الرئيسية التي أدت إلي فوز ''حماس'' بالأغلبية الساحقة، هي تطلع الفلسطينيين إلي الأمن والنزاهة وصلاح الحكم، وليس تطلعهم إلي نمط ''الدولة الإسلامية''. كما يشار أيضاً إلي أن كبار مسئولي وقادة الحركة، بدأوا يلمحون في حديثهم وتصريحاتهم إلي حاجة الحركة لمواجهة هذا التصادم القائم بين أيديولوجيتهم ومتطلبات الشعب الفلسطيني وتطلعاته. وكما قال لي ذلك اليوم في رام الله، فرحات أسعد، الناطق الرسمي باسم الحركة في الضفة الغربية ''مثلنا مثل غيرنا ندرك أن السياسة لا تبني علي المبادئ وحدها، وأنها تقوم بالقدر ذاته علي المصالح أيضاً''. ولكن من يدري إن كانت هذه التصريحات تتوخي الصدق والحقيقة فعلاً؟ غير أن من المعلوم أن لإسرائيل مصلحة ما بعدها مصلحة، في اختبار قدرة ''حماس'' علي البقاء والاستمرار في دورها القيادي السياسي الجديد. ذلك أن لإسرائيل مكسباً كبيراً تجنيه، فيما لو واصلت ''حماس'' التزامها بوقف إطلاق النار المبرم الآن، وفيما لو وضعت نصب عينيها، صلاح الحكم وبدء دعم التفاوض التكتيكي-غير المباشر- مع إسرائيل. وستكون هذه هي المرة الأولي التي يتم فيها تمثيل الشارع الفلسطيني بأسره، بما فيه ''فتح'' و''حماس'' في المفاوضات، مما يعطي أي اتفاق يتم التوصل إليه، شرعية غير مسبوقة في تاريخ المفاوضات والاتفاقات المشتركة بين الطرفين. وإذا كان من رأي المنظر السياسي الإسرائيلي يارون إزراحي، أن أية بوصة واحدة من الأرض المحتلة يتنازل عنها حزب ''الليكود'' للفلسطينيين، تعادل كيلومتراً كاملاً يتنازل عنه حزب ''العمل''، فإن الشيء ذاته ينطبق اليوم علي الجانب الفلسطيني، حيث يكون لأي اتفاق يعقد مع ''حماس''، وزن ومصداقية لا يتوفران في أي اتفاق آخر مع جهات، تعجز عن الوفاء بما تقطعه علي نفسها من عهود واتفاقات.