هذا بالضبط مافعله المخرج خالد يوسف في فيلمه الجديد "ويجا"، الذي قالت "التترات" انه من تأليفه واخراجه؛ الأمر الذي يعني مسئوليته الكاملة عما شاهدناه في الفيلم الذي يعدك بالكثير، تبعا للدعاية المتقنة التي سبقته ، وحالما تنتهي من مشاهدته تكتشف انك "شربت مقلبا كبيرا"، وهو الأمر المؤسف، بحق فالفكرة وحدها كانت كفيلة باقالة الفيلم من أية عثرة تواجهه لكن المخرج خالد يوسف أبي أن يفعلها، وراح يستعرض عضلاته، خصوصا في كتابة السيناريو الذي تفرعت خيوطه وتشعبت خطوطه وأفرط في استخدام "الفلاش باك" بالدرجة التي أصبحت مثارا للتندروالسخرية من جمهور القاعة ، فانقلب "السحر علي صاحبه"، وهي مناسبة لأدعو المخرج خالد يوسف لمحاولة رصد ردات أفعال الجمهورفي الصالات التجارية، وعدم الالتفات الي ماقيل له في العرض الخاص الذي تغلب عليه، عادة، المجاملات، وأغلب الظن أن فيلما يقوم علي الغموض والتشويق بكل مايفجران من اثارة لا يمكن أن يدع مجالا للضحك أو السخرية لكن هذا ماحدث بالفعل بسبب اعتماد خالد يوسف ، كاتبا ومخرجا، علي "اللعب" بالمونتاج والفلاش باك وفي غمارهذا تغافل عن "اللعبة" الرئيسية التي كان عليه الالتفات اليها كمحور للفيلم وهي "ويجا"!! هنا نؤكد أن الغموض لم يقتصرعلي العنوان الذي يشير الي لعبة سحرية تتحول الي مايشبه " قارئة الفنجال" أو "الطالع" بمجرد أن تمر بأطراف أصابعك علي رقعة اللعبة، وانما الي بقية أحداث الفيلم، وشخوصه، فكل شخصية لديها من المبررات مايدفعها لأن تتفرد، وتتميز، وتصبح سببا في دفع دراما العمل الي منطقة الاثارة والحميمية لكن الاغراق في التفاصيل، والاستغراق في محاولة "صك" جمل حوار تدفع الي الاعجاب ، أسفر في نهاية الأمر الي وقوع الفيلم في دائرة المط والتكرار والتطويل وغاب الغموض والتشويق ، باستثناء بعض المشاهد القليلة التي سرعان ماأعيد استثمارها لتأكيد ذات المعلومة واحاطة المتفرج بنفس الأزمة . تبدأ أحداث "ويجا"، كعادة بعض أفلام الموجة الجديدة في السينما المصرية ، بمجموعة من الأصدقاء هل تعود بك الذاكرة الي "سهر الليالي"؟ يخططون لقضاء بعض الوقت في الغردقة لاحظ أن المنتج يملك قرية سياحية هناك ، وبالتالي فهي فرصة للاعلان عن القرية وتوظيف الدراما لتسهم في تحقيق هذا الهدف الاعلاني وباستثناء بعض المعلومات المتفرقة هنا وهناك لا تكاد تتبين الخلفية التي تجعل شبابا يرفلون في هذا النعيم الذي يقترب من الثراء الفاحش، ووقتها لا يجدي القول بأن أحدهم أستاذ قانون شريف منير يسابق الزمن للاقناع بالدوروكأن الشيب يصنع الخبرة هو زوج لفتاة - هند صبري - ابنة لموظف كبير في الدولة، والآخر موظف - الوجه الجديد محمد الخلعي - تنفق عليه عشيقته - منة شلبي - التي لا تدري من أين تنفق علي نفسها بعكس نجم السينما - هاني سلامة - الذي يوجز أمراض النجوم بالثقة التي تصل الي درجة الغرور، والدلال الزائد الذي يجعله أقوي من المخرج أحيانا، وهو المعني الذي نجح خالد يوسف في توصيله، وان بدا شاهين أكبر من أن يقدم هذه المشاهد القليلة الساذجة حتي لو جاءت موافقته من قبيل المجاملة لمساعده وتلميذه. في كل الأحوال يمكن التجاوز عن تفصيلة كهذه علي الرغم من دورها السلبي في تراجع التعاطف مع الشخصيات، أو الحض علي كراهيتهم في حال احساس المتلقي بالانفصال عنهم أوالايحاء بأنهم يعيشون عالما لا يعرفه علي أرض الواقع، باستثناء شخصية نجم السينما هاني سلامة، التي بدت متسقة مع ذاتها، سواء علي المستوي الاقتصادي الذي تعيشه أوالوعي الثقافي الذي يحرك أفكارها وينظم جمل حوارها غير أن الذي لا يمكن التجاوزعنه أن يتحول الفيلم الي وعظة أشبه بخطبة الجمعة فالكلام كثير عن أهمية أن نحب بعضنا البعض ، وأن نتحلي بصفات الانبياء الذين يغفرون وننأي بأنفسنا عن التمسح بالبشر الذين يغضبون ولا يتسامحون، وهي الرسالة التي جاهد خالد يوسف لتمريرها طوال الأحداث، وراح يؤكدها وينتصرلها مع النهاية التي انقلب فيها هو نفسه علي أفكاره فتحول الي "دكتاتور" وطاغية لا يقبل التسامح ولايعترف بشيء اسمه الغفران، فأصدر حكم الاعدام علي أبطاله لمجرد انهم "بشر" أخطأوا وأورثتهم الحياة أزمات حالت بينهم والتحلي بسمات الآلهة، بينما الشخص الوحيد الذي أنقذه من براثن الموت عبرالمذبحة التي جرت أحداثها في نهاية الفيلم، هو ذا الذي امتلك مقومات الملائكة واقترب من مسوح الآلهة، وأطلق صيحته التحذيرية، قبل ثوان من المذبحة: "اغفروا أو موتوا"، وعندما عجزوا عن أن يغفروا.. ماتوا!! في سياق رسالة مهمة كهذه تراجع وجود شخصيات "معدومة الأهلية الدرامية"، وكانت الأولي بالاعدام علي الورق دون هوادة ، كشخصية الفتاة اللبنانية التي هربت من أهلها، لأنهم أرادوا تزويجها رغما عن ارادتها (!) وعندما جاءت الي مصر استغلها أحد المخرجين وجعلها ترتكب الاثم فما كان من امرأة عابثة سوي أن استثمرت خطيئتها، وراحت تبتزها قبل ان تجرها الي الوحل ألم تتذكر مخرج الروائع حسن الامام وأسوأ الميلودرامات فجاجة؟ وهنا بدت شخصية بشري مستفزة ليس لكونها شريرة ، بل لغياب مبررات الشر والمصداقية؛ فهي اذن شخصيات زائدة عطلت التدفق الدرامي للفيلم الذي انطلق من فكرة مبهرة وبراقة، ولم يتوان المخرج خالد يوسف عن اختيار الصياغة السينمائية التي تحقق رؤيته دون التوقف كثيرا عند المقولات الخائبة والشاذة حول "السينما النظيفة"؛ فقد فعل كل مايتطلبه الموقف الدرامي، وماتقتضيه رؤيته كمؤلف وكمخرج دونما الدخول في زمرة منافقي المجتمع أو المذعورين التيار المتأسلم، ولهذا السبب وحده امتلك الفيلم جرأة وشجاعة لم يتوافرا لأفلام كثيرة في الحقبة الأخيرة، ربما باستثناء أفلام داود عبد السيد، وتبدو مقدرة خالد يوسف في اضفاء قليل من الاثارة في الأوقات التي يتناسي فيها استعراض عضلاته كمؤلف، يدعمه في هذا لمسة مونتاج تؤكد نفسها في كل مشهد، باستثناء افراط المخرج في استدعاء الماضي "الفلاش باك"، ولم تشذ موسيقي تامر كروان عن الانسجام الحاصل في مجموع العناصر الفنية، بعكس ماجري في عنصر الأداء التمثيلي الذي شهد تفاوتا وتباينا كبيرين، بين اجادة مطلقة لهاني سلامة في الامساك بتلابيب الشخصية ومحاولة لا ينقصها الاجتهاد من شريف منير لولا العصبية التي شابت أداءه، بينما غلب علي أداء هند صبري التكرار ولا يفارقك الشعور بأنك رأيت هذه الانفعالات من قبل ، بل تلمست المشاعر نفسها في أدوارها السابقة ، خصوصا في "مواطن ومخبر وحرامي"، ولهذا صعب عليك التوحد معها ، كما كنت تفعل، تماما مثل منة شلبي التي استجابت فيما يبدو للمقولات التي تثني علي أدائها للمواقف التراجيدية فأكثرت من البكائيات التي تحولت في أكثر من مشهد الي مصدر للكآبة وفيروس يهدد بالاصابة بالاكتئاب، اما الوجه الجديد محمد الخلعي فقد نجح في توظيف الشق العضلي للشخصية ومازال في حاجة الي الكثيرليصل الي دقائق وتفاصيل المشاعروالأحاسيس. "ويجا" فيلم فيه طزاجة الفكرة ونبل الهدف لكنه أخطأ الطريق، بفعل نرجسية مخرجه وثقته الزائدة بنفسه، فانتهي به الأمر الي واحد من دروس المطالعة الرشيدة التي تقوم علي التلقين والتوجيه المباشر، ولا تترك الفرصة للمتلقي ليجهد فكره في التوصل الي ماوراء السطور، وهي طريقة لا تصلح مطلقا لأن يقوم عليها فيلم اثارة وتشويق بل مجرد فيلم يسعي للتمرد علي السائد والمألوف وتوقف طموحه عند الحلم بالتغيير.