أثناء زيارتي الأخيرة إلي لبنان انتحي بي قائد السيارة التي أقلتني جانبا، وأشار إلي مطعم يحتل "الرصيف" في أهم شوارع بيروت قائلا: "هذا "ويمبي" الذي اغتيل فيه الضابطان الإسرائيليان عقب اجتياح القوات الإسرائيلية للعاصمة بيروت!! قالها بفخر، وكأنه يتأسي علي زمن البطولة الذي صارت واقعة "ويمبي" أحد معالمه البارزة، وإذا بي أتذكر ذلك الحوار أول أمس، وأنا أتابع المشهد نفسه في فيلم "ناجي العلي" الذي انفردت قناة "روتانا سينما" بعرضه، بعد فترة طويلة من المنع والحجب والملاحقة والمصادرة والتعتيم، وذلك في إطار "خبطتها الإعلامية" التي أطلقت عليها "أفلام من نار" أو "الأفلام الممنوعة" وواكبتها بشعار: "إن خفت ما تشفش.. وإن شفت ما تخافش" علي غرار: "إن خفت ما تقولش.. وإن قلت ما تخافش"، وأكدت خلالها عرض فيلمي "ناجي العلي" و"الناجون من النار" بالإضافة إلي تكرار عرض أفلام: "البريء"، "الكرنك"، "درب الهوي" و"احنا بتوع الأتوبيس". والواقع أن التنويه بعرض "ناجي العلي" مثل مفاجأة مدهشة بالنسبة لي، وجاء عرضه الجماهيري الذي تم علي نطاق واسع ليزيد من هذه الدهشة التي سرعان ما انقلبت إلي فرحة، بعد الاستقبال الطيب والحفاوة الجماهيرية التي لمستها في ردود فعل الكثيرين في البيوت المصرية، ولحظتها لم أملك سوي أن أترحم علي عاطف الطيب الذي أخرج "ناجي العلي"، فما كان من البعض سوي أن أنكر عليه هذا بحجة أنه يمجد سيرة فنان كاريكاتور نكل بالسادات وهاجمه في رسوماته، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما اتهم "الطيب" ومعه صناع فيلم "ناجي العلي"، وعلي رأسهم بطله نور الشريف، بالخيانة العظمي، وأتذكر الآن فزع عاطف الطيب رحمه الله عندما نجحت الحملة الصحفية التي قادها الكاتب إبراهيم سعده في إقناع والده الطيب بالتهمة التي تلاحق ابنه فراح يسأله بعفوية: "صحيح أنت خنت بلدك يا عاطف؟!" ، وأكبر الظن أن تلك اللحظة وحدها كانت كفيلة بوجع قلب عاطف فمات بعدها بسنوات قليلة بأزمة قلبية عقب إجرائه لعملية جراحية في الوقت الذي خشي نور الشريف علي نفسه فآثر السلامة، وانحني للعاصفة حتي تمر!! تذكرت مشهد "ويمبي" وعاطف الطيب يقدمه بشفافية وإيجاز في فيلم "ناجي العلي" حين يجلس الضابطان الإسرائيليان في المطعم ويحاولان، بصفاقة ولزوجة، التحرش بفتاتين في مائدة مجاورة فتنصرفان وهما تصبان عليهما اللعنات، وفي لقطة لاحقة يصران علي الدفع بالشيكل عملة إسرائيلية لكن عامل المطعم يصر علي تقاضي الثمن بالليرة اللبنانية، وقبل احتدام الموقف يتقدم أحد الشبان ويتظاهر بالدفع بالإنابة عن الإسرائيليين، وفي حركة مباغتة يطلق عليهما الرصاص فيرديهما في الحال ويغادر المكان. مشهد له مغزي في فيلم يخطئ من يظن أنه يتحدث عن القضية الفلسطينية وحدها، لأن قضيته الأساسية الديمقراطية المنتهكة بواسطة الأنظمة العربية، فالفيلم لم يكن معنيا حسبما تصور الكثيرون باتهام ياسر عرفات ورفاقه بقتل ناجي العلي في لندن، نتيجة ما أطلق عليه الاقتراب من الذات المصون لعرفات، وإنما راح يبحث الوضع "الديمقراطي" في الوطن العربي الذي لم يحتمل رسومات كاريكاتورية تبنت وجهة نظر مختلفة، ولن نقول مناهضة، وتصور أن الحرية تتيح له أن يقولها دون قيود، وإذ بأبواب الجحيم تتفتح في وجهه؛ حيث طورد وهُجر من بلد عربي إلي آخر، ولم تضق به الدنيا وإنما ضاقت به مساحة الحرية الخانقة التي يعيشها الوطن العربي، والمهيمنون علي القضية الفلسطينية الذين تدعوهم "ديمقراطيتهم" للظن أن أي حديث معارض بمثابة "نشر للغسيل القذر"، بينما يري ناجي العلي أن "البيت الذي تدخله الشمس لا تعشش فيه الخفافيش". من هنا كانت مبادرة "روتانا سينما" بعرض "ناجي العلي" بمثابة إعادة اعتبار له، ولأبطاله وصانعيه الذين ظلمتهم الحملة التتارية، التي أدت إلي إنشاء لجنة مشاهدة، هي في حقيقة الأمر تصفية، مهمتها الأولي والأخيرة استبعاد فيلم "ناجي العلي" من مسابقة أفلام المهرجان القومي للسينما الذي تنظمه وزارة الثقافة في دورته عام ،1992 بحجة أنه غير جدير بالمنافسة، بينما يعلم القاصي والداني أن قرار تشكيل اللجنة، التي لم تظهر للوجود منذ ذلك العام، جاء استجابة للحملة الظالمة التي شنها الكاتب الصحفي الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير واحدة من كبريات المؤسسات الصحفية في مصر. بالطبع لم تترك الجمعيات الأهلية السينمائية وكذلك نقابة الصحفيين والمحامين، "ناجي العلي" وحده في مواجهة "الخفافيش" الذين أرادوا التمسح بسيرة الأموات، ونظمت الكثير من الندوات التي استضافت عاطف الطيب ونور الشريف وبشير الديك ومدير التصوير محسن أحمد وفنان المونتاج أحمد متولي، لكن التيار كان أقوي منهم جميعا، فاستبعد الفيلم من المهرجان القومي وأجهض عرضه التجاري، والحجة "الإساءة إلي سمعة مصر وكبير العائلة"، وبقيت التجربة بأكملها "غصة" في حلق المخرج عاطف الطيب، الذي أرهق قلبه المسكين في الدفاع عن وجهة نظره، وظل ورفاقه في التجربة ممنوعين من التواجد في أية مطبوعة تصدر عن المؤسسة الصحفية، التي طاردته بتهمة "الخيانة" حتي رحل وجاء عرض الفيلم هذه الأيام في "روتانا سينما" ليعيد له، ولرفاقه جميعا، الاعتبار، وكان للاستقبال الحافل بالفيلم، الذي لم يصدق أحد حساسية لغته السينمائية، التي ربما لم يبلغها عاطف الطيب في أي فيلم من أفلامه، وإنسانية القضية التي قدمت في صورة نبوءة سينمائية ليخرج الناس، بعد مشاهدة الفيلم في منازلهم، وهم يتساءلون مع الرائع محمود الجندي "فين الجيوش العربية؟! هي حتوصل امتي"؟! .. ورحمة الله عليك يا عاطف الطيب. وألف رحمة عليك يا ناجي.. العلي.