بضعة أيام بين مدن لبنانية وأخرى سورية تكشف عن التباين الصارخ بين الشقيقتين اللدودتين على ساحتيهما السياسية، ففى حين يفصح كل شارع فى لبنان عن هوية قاطنيه، ما بين انتماء سياسى وتنوع دينى وطائفى، من خلال الصور والأعلام والشعارات الفئوية، يجتمع السوريون - حكومة وشعباً – ويلتفون – مسؤولين ومعارضة – حول رمز واحد وصورة واحدة وسياسة واحدة.. كلا البلدين يفخر بما يزخر به نظامه السياسى من «ديمقراطية» وتعددية حزبية لا تفضى إلى انقسام. فى السطور التالية رصد للواقع الديمقراطى فى لبنان. البداية كانت فى العاصمة بيروت، المجزَّأة نفسها - إن جاز التقسيم – إلى شرقية، ذات أغلبية مسيحية مارونية، وغربية، ذات أكثرية مسلمة سنية، فضلا عن ضاحيتها الجنوبية، المصطبغة باللون الأصفر المميز لأعلام جماعة «حزب الله» الشيعية. ورغم رفض الكثيرين هذا التقسيم، لاسيما إذا ما أدرجت بيروت بشكل عام على أنها سنية، فإن الشعور بالوجود السنى يفرض نفسه، فما إن يتم اجتياز منطقة الطريق الواصل من المطار الدولى إلى وسط العاصمة، حتى يستقبل الزوارَ تمثالُ رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريرى، الواقف شامخا فى ذات الموقع الذى تم فيه تفجير سيارته مع رفقائه فى 14 فبراير 2005، إضافة إلى صوره المنتشرة فى كل مكان، مذيلة بشعار «الحقيقة لأجل لبنان»، وبعضها مزود بعداد آلى يضيف يومياً عدد الأيام التى مضت منذ رحيله. وفى ساحة الشهداء، الواقعة تقريبا بوسط بيروت، تجد مسجد محمد الأمين، الشهير بمآذنه الأربع وقبتيه الزرقاوين المطعمة إحداهما بتاج مذهب، والذى يقول على فضل (34 عاما)، حارس أمن يعمل لدى إحدى الشركات الإنمائية بالمنطقة، إن الحريرى شرع فى بنائه من نفقته الخاصة ووضع حجر أساسه عام 2002 قبل اغتياله، ثم افتتحه نجله سعد الحريرى فى 17 أكتوبر الماضى، وأشار فضل إلى أن غالبية اللبنانيين دأبوا مجازا على تسميته «مسجد الحريرى»، حباً له وإحياءً لذكراه. ولعل شعبية الحريرى، الذى كان يحمل الجنسيتين اللبنانية والسعودية، بالعاصمة لا تنبع من كون أن الأغلبية فى بيروت هى للسنة فحسب، وإنما من الخدمات الاجتماعية والأعمال الخيرية ومشاريع الإعمار التى كان يقوم بها «الشيخ»، لا فى العاصمة فقط، بل فى مدن لبنانية أخرى كثيرة مثل صيدا، مسقط رأسه، التى أكد عصام بركات (48 عاما)، وهو مسيحى مارونى يعمل سائقا لدى شركة سياحية، أن الحريرى قام بتحديث نصف منازلها المطلة على البحر، مستطرداً بأسف وهو يشير بذراعه إلى عشرات المنازل القديمة المواجهة لقلعة صيدا، والتى كانت أشبه بالعشوائيات الفقيرة: «إن العمر لم يسعفه لإعادة إعمار كل ما دمرته الحرب». ويقول بركات إن أفضل ما فى الشيخ الحريرى أنه كان «عصاميا» وبنى نفسه بنفسه، حتى أصبح واحدا من أشهر رجال الأعمال على مستوى العالم، فأسس الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت (سوليدير) عام 1994، والتى استطاعت أن تعيد إلى ال «داون تاون» (وسط البلد) بهاءه، خاصة ذلك الشارع الرئيسى الشهير الموصل إلى الساعة الكبيرة التى تتوسط ساحة النجمة. محافظة جبل لبنان وبعد يومين من مطالعة صور الحريرى وسماع أحاديثه من أهل محافظة بيروت (الأولى بين محافظات لبنان ال 6)، كانت المحطة أو المحافظة الثانية باتجاه الشمال إلى قضاء كسروان فى محافظة جبل لبنان، حيث الأغلبية المسيحية، التى تنعكس روحها فى العديد من مزاراتها ذات الطابع السياحى الدينى، مثل كنيسة «حريصا»، التى يؤمها الحجاج المارونيون على سفح جبل لبنان، المطل على البحر المتوسط، كما تتركز التجمعات المسيحية فى تلك المنطقة أيضا نظرا لقربها من دير «بكركى»، مركز البطريركية المارونية فى لبنان، حيث مقر البطريرك نصر الله صفير. محافظة الشمال ومن تلك المناطق المارونية إلى مثيلاتها فى جبال الأرز، حيث دلفنا شمالا أكثر فأكثر إلى المحافظة الثالثة «الشمال»، وصولا إلى قضاء «بشرى»، منطقة نفوذ سمير جعجع، قيادى حزب القوات اللبنانية، وإن لم تكن مسقط رأسه، وليس أدل على ذلك من أنه يحظى تقريبا بإجماع وتأييد غالبية قاطنى تلك المنطقة من بائعى السوق السياحية المرافقة لأقدم غابة أرز فى لبنان والعالم، والذين يحفرون صوره على خشب الأرز للبيع ك «سوفونير»، كما رأى عاملون وإداريون فى متحف جبران خليل جبران، المحفور فى بطن الجبل، أن كنيته ب «الحكيم» لا تعود فقط لدراسته الطب، خاصة أنه لم يستكملها، وإنما لأنه «بعيد النظر» و«بإمكانه تحرير كامل لبنان وجلب الاستقرار»، بل كانت شعبية جعجع جلية بين «زينة» و«بول»، اثنين من خادمى أحد أقدم أديرة وادى قاديشا، ورغم عدم اكتراث «زينة» بالسياسة رأت - ككثيرين غيرها - أن الديمقراطية فى لبنان تنبع من تعددية طوائفه، التى أكدت الحروب استحالة افتئات إحداها على الأخرى، مهما تناوبت عليها القوى الخارجية اللاعبة على الساحة الداخلية للبنان. محافظة البقاعف وبالعودة أدراجنا صوب الجنوب ولكن بانحراف قليل تجاه الشرق، قطعنا حدود المحافظة الرابعة «البقاع»، حيث بعلبك التاريخية «مدينة الشمس»، التى بدأت تظهر فيها على طول الطريق الممتد إليها الصاعد لأعلى صور نصر الله والأعلام الصفراء ل «حزب الله»، وبين الحين والحين صور قائده العسكرى عماد مغنية، الذى اغتيل فى دمشق فى فبراير الماضى، ليتوج هذا الطريق الطويل قبل بضعة كيلومترات من القلعة بالمسجد الشيعى الكبير «خاولة بنت الحسين»، المزدان بالفسيفساء الفارسية الملونة، والذى تتصدر واجهته صور الإمام الشيعى آية الله الخمينى، كاشفة عن الانتماء الدينى والسياسى للأغلبية السكانية لتلك المنطقة، التى يقطنها الشيعة المؤيدون لحزب الله، وحركة أمل.«هؤلاء خارجون عن القانون»، بهذا التعميم، استهل السائق المارونى حديثه عن أبناء المدينة الشيعيين، مشيرا بإصبعه إلى ساحة كبيرة، على امتداد الطريق الشرقى، ممتلئة بالسيارات المهشمة والمفككة، التى قال إن بعضها تهشم فى حوادث مرورية، لكن أغلبها «مسروق»، وأضاف أن هذه المنطقة – التى نمر بها تحديدا - تنشط فيها عمليات السطو المسلح من قبل قطاع الطرق، الذين يستولون على السيارات ويفككونها ويقومون بتهريبها إلى سوريا وبيعها هناك كقطع غيار، فى حين يقوم البعض الآخر بمهاداة الضباط السوريين بالموديلات الفخمة من تلك السيارات المسروقة. كنا 3 فتيات، نظرنا لبعضنا البعض وهو يتحدث عن «قطاع الطرق» و«السطو المسلح»، فلم نتمالك أنفسنا من الضحك ونحن نلومه – لا لأنه لم يقل لنا من البداية أن الطريق قد يكون غير آمن بل لأنه قالها الآن - ومن باب تغيير الموضوع، سألناه عن سبب قيام الأهالى بتلك الأعمال غير المشروعة، فقال بركات إنهم كانوا يشتهرون بزراعة الحشيش قبل أن تجرم الدولة زراعته، إذ عرضت عليهم زراعة بديلة للقمح والذرة، وأمدتهم بالآلات الزراعية، «لكن الناس هنا لم تقنع بالربح لأنه كان أقل مما تدره زراعة الحشيش»، فاضطروا للجوء إلى تجارة السيارات المسروقة، التى رأى أنها تتم تحت حماية السوريين، «ونظرا لكونهم يعيشون بطريقة قبلية وعشائرية، فإن السوريين يوفرون لهم الحماية إذا ما لجأوا لأراضيهم هربا من الأمن اللبنانى» - على حد قوله. وبعد ساعات من التجوال بين معابد قلعة بعلبك وسوقها السياحية التى لم تخل بدورها من أعلام «حزب الله»، كان السائق يشق بنا طريقه بعيدا عن تلك المنطقة الشائكة باتجاه زحلة، «عروس البقاع» وعاصمته وأرقى وأغنى مدنه، لتتغير المعالم من جديد، وتتحول الصور من العمائم والجلابيب واللحى السوداء إلى أخرى لقيادات أغلبها ل «حزب الكتائب» وأعلامه وشعاراته، لاسيما خلال فترة الاستعدادات للانتخابات النيابية المقبلة، لتعكس انتماء الأكثرية المسيحية من أبناء تلك المدينة، المعروف أن غالبيتهم هاجر إلى كندا، لكنهم حافظوا على الطابع المعمارى الأبيض القديم لمنازلهم ذات القرميد الأحمر والتى تعلو الربوات المحيطة بالمدينة، لتبدو شوارعها الصغيرة الجميلة كوادٍ ضيق يعيد إلى الأذهان كلمات قصيدة «جارة الوادى» التى كتبها أحمد شوقى فى مقهى «البردونى»، أحد المقاهى الشهيرة فى زحلة، على خرير نهره البردونى، ويمتد مشهد نفسه لينسحب فى طريق العودة هبوطا، مرورا بمدينة شتورة، ذات الأغلبية المسيحية أيضا والواقعة وسط سهل البقاع. محافظة النبطية وبالخروج من حدود البقاع الجنوبية، ولوجاً إلى المحافظة الخامسة «النبطية»، تتكهرب الأجواء الأمنية فجأة، حتى فى وجه الأفواج السياحية، إذ تتكاثر نقاط التفتيش العسكرية على طول الطريق الواصل إلى مدينة «مرجعيون»، تلك البلدة المسيحية، التى يصفها روبرت فيسك فى إحدى يومياته من الحرب اللبنانية، بأنها بلدة «محشورة» بين منطقتى نفوذ شيعيتين، تابعتين لحزب الله، ولعل هذا هو أحد الأسباب التى عادة ما تدعو إلى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة فى تلك المنطقة المحاذية للحدود السورية شرقا، والقريبة من إسرائيل جنوبا، رغم كونها منطقة سياحية يقصدها الراغبون فى مشاهدة «بوابة فاطمة» الحدودية، ومنطقة الخيام، أحد المعاقل الحدودية لحزب الله، والتى تحوى أطلال معتقل الخيام الشهير، وهو القطاع الذى منعنا الجيش من دخوله – حتى كسياح – قبل الحصول على تصاريح خاصة من وزارة الدفاع. محافظة الجنوب المحطة الأخيرة كانت فى المحافظة السادسة «الجنوب» حيث تعود التجمعات السنية مرة أخرى، لتنتشر من جديد صور الحريرى على جدران المنازل فى مدينة صيدا، بوابة الجنوب، وهى مدينة ذات غالبية سنية، يعشق سكانها الحريرى، ويترحمون على إنجازاته التى لم يمهله القدر لاستئنافها. وبالعودة شمالا إلى محافظة جبل لبنان على بعد حوالى 40 كيلومتراً جنوب نقطة الانطلاق «بيروت»، تتبدل الصورة مرة ثانية مع تكاثف أشجار الصنوبر ويسود اللون الأخضر منطقة الشوف، التى يتقاسمها الدروز والمسيحيون، وتتبدل الأجواء السياسية ثانية، فتحدد معالم خريطة جديدة، تسودها صور رئيس الحزب التقدمى الاشتراكى وليد جنبلاط، على طول الطريق الجبلى الضيق الهابط المروع، لاسيما كلما اقتربنا من بلدته ومقر إدارته السياسية «المختارة»، مسقط رأس والده الزعيم الدرزى كمال جنبلاط، والتى تنتشر فيها أيضا نقاط تفتيش أمنية عدة، خاصة إذا ما كان جنبلاط متواجدا فى مركز ثقله السياسى ومحل إقامته الصيفى «المختارة»، شأنه فى ذلك شأن لبنانيين كثيرين يمتلكون منزلين، أحدهما صيفى على الجبل، والآخر شتوى فى المناطق السفلية البعيدة عن المرتفعات. الطريف أنه قبل انتهاء جولة ال 5 أيام هذه، التى مررنا فيها تقريبا بكامل ألوان الطيف السياسى والدينى فى لبنان، وقبل التوجه برا إلى جارتها السورية، نادرا ما وقعت أعيننا على صورة الرئيس ميشيل سليمان، وهو المشهد الذى اختلف كليا بمجرد تخطى نقطة الحدود السورية، والتى علقت على جدرانها من الداخل والخارج عشرات الصور للرئيسين الأسد الأب والابن» والتى وجدنا أنفسنا مضطرين لتأملها طوال 45 دقيقة كاملة، استغرقها ضابط الحدود السورى، وهو يتحقق من جوازات سفرنا المصرية، سألنا خلالها عشرات المرات بصلف، وهو ممسك بالجوازات فى يده : «شو اسمك؟.. شو اسم أمك؟».