أخيرا خرجت وزارة الدكتور أحمد نظيف الثانية إلي الوجود بعد طول انتظار وتعسر غير مفهوم للميلاد؛ ويوم يكتب تاريخ هذه الوزارة ربما سوف تكشف أسرار عجيبة تفسر لنا الذي جري خلال الأيام والأسابيع السابقة علي مولدها. فمن ناحية كان باديا أن هذه الوزارة وتشكيلها سوف يكون واحدا من أسهل الوزارات وأكثرها سلاسة، فقد شكل الدكتور نظيف في شهر يوليو 2004 نوعا من الوزارة " التحضيرية " التي تختبر فيها أفكار بقدر ما تمتحن فيها شخصيات، وبالتالي فإن قرار التشكيل الجديد سوف يكون استمرارا وتأكيدا علي ما سبق. ومن ناحية أخري، أنه في أعقاب الانتخابات الرئاسية وتوجيه الرئيس للدكتور نظيف بتسيير أعمال الوزارة حتي انتهاء الانتخابات التشريعية، كان ذلك يعطي رئيس الوزراء فترة كافية للإعداد والتجهيز واختيار الشخصيات النهائية للوزارة المرتقبة. ومن ناحية الثالثة أنه بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية والتشريعية بات الرأي العام مترقبا ليس فقط إلي استكمال عملية التغيير بالتشكيل الوزاري وإنما أيضا متشوقا لكي يعرف إلي أين تؤدي من الناحية العملية هذه التغييرات الدستورية والقانونية والمعركة الانتخابية الساخنة بالنسبة لحياة الناس اليومية وهو الأمر المرتبط بالتشكيل الوزاري الجديد. ولكن ما جري كان مدهشا إلي حد كبير، فبدلا من التشكيل الفوري للوزارة الجديدة اجتمع الرئيس مبارك مع عدد من القيادات السياسية وقيل أن ذلك لمناقشة " الشأن الداخلي ". وكان ذلك تعبيرا جديدا علي اللغة السياسية المصرية، فلم يكن معتادا ذكر الموضوع بهذه الدرجة من الغموض وإنما الإفصاح عن الموضوع الداخلي الذي يناقشه الرئيس مع المسئولين، وعندما خرج الجميع من الاجتماع لم يشرح أحد أو حتي يقل جملة مفيدة عن " الشأن الداخلي " وعما إذا كان يخص الوزارة الجديدة أو أمورا أخري. ومرة أخري عقد الرئيس مبارك اجتماعا منفردا مع الدكتور أحمد نظيف وخرج الخبر بنفس الدرجة من الغموض، فقد كان الاجتماع أيضا لمناقشة " الشأن الداخلي " غير المعروف. ورغم أن التكهنات سارعت وتسرعت فورا إلي أن الرئيس كلف الدكتور نظيف بتشكيل الوزارة إلا أن النفي جاء فوريا من المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية.. معا المدهش أنه بعد النفي بفترة قصيرة للغاية تم الإعلان عن التكليف. وتكرر الأمر مرة أخري بعد الإعلان عمن قابلهم رئيس الوزراء، ونشرت الأهرام والصحف " القومية " التي لا تنطق عن الهوي تشكيل الحكومة بالفعل، وإذا بالتكذيب يأتي مرة أخري، ومن بعده الإعلان عن مقابلات جديدة انتهت إلي اختيار وزير واحد كان اسمه لا يزال شاغرا في القائمة. وقبل أن يقتنع الناس أن تشكيل الوزارة لا يزال أمامه أياما من الأسبوع القادم مع أوائل العام الجديد، إذا بالإعلان عن التشكيل وحلف اليمين يجري في اليوم الأخير من العام. ماذا جري خلال ذلك كله سوف يكشف عنه التاريخ، وربما لن نعرف عنه معلومات قط، ولكن الظاهر يكشف حالة من الارتباك في تشكيل وزارة بدت أنها سوف تكون من أسهل الوزارات تشكيلا وإعدادا. ولكن النهاية كانت سعيدة علي أية حال، ومنذ الإعلان عن التشكيل الوزاري في المرة الأولي صعدت البورصة المصرية في قفزات سريعة عاكسة حالة من الثقة في الاختيارات الوزارية. ولأول مرة تقريبا تجري مغادرة واضحة لتقاليد ثورة يوليو التي قامت وزاراتها كلها علي البيروقراطيون والتكنوقراطيون الذين لا توجد لديهم خبرة عملية تذكر، وإذا كانت موجودة فإنها مستمدة من خبرة القطاع العام المريضة أو أروقة الجامعات حيث تتدني مستويات التعليم والعلم إلي حدود دنيا تؤثر سلبيا في الأستاذ بقدر ما تؤثر سلبيا في الطالب. وبصراحة فقد جاء تشكيل الوزارة مفاجئا إلي حد ما، فقد اكتملت العملية السياسية والدستورية ببقاء نفس الوجوه القديمة في أماكنها، بل أن بعضها امتدت سيطرته إلي مجالات جديدة في الحياة العامة، وتم القتل العمدي للمادة 76 من الدستور دون أن يطرف لأحد جفن، وبدا أن هناك من يسنون السكاكين استعدادا لذبح التعديلات الدستورية المقبلة، وعاد من ظلمات ماضي الاتحاد الاشتركي العربي إلي المقدمة شخصيات كان الظن أنها قد انتهت. وببساطة فإن ما سمي بربيع القاهرة الديموقراطي والذي بدأ مع اقتراح تعديل المادة 76 قد وصل بسرعة إلي شتاء لا تبقي فيه إلا جذوع أشجار ذبلت وسقطت أوراقها. ولكن الصورة التي ظهر عليها التشكيل الوزاري أعاد بعضا من أشعة الشمس، وبعضا من دفء الأمل، فإذا كان الإصلاح السياسي يلاقي عثرات وانتكاسات، فإن الإصلاح الاقتصادي علي الأقل سوف يمضي قدما من خلال مجموعة وزارية أكثر تجانسا وانسجاما، وبخبرة عملية في خلق الثروة وتنميتها وليس استهلاكها وتوزيعها كما كان الحال في الوزارات السابقة. وهذا ولا شك خطوة كبيرة إلي الأمام، وربما كانت هي الخطوة المقصودة من الأصل حيث ساد الاعتقاد أن الاقتصاد سابق للسياسة، ولكن للضرورة أحيانا أحكامها، وعلي أية حال فإن لدينا من لديهم قدرة فائقة وخبرة علي تطويع الضرورات وإبقاء كل الأمور علي حالها مهما كانت التغييرات !!.