«الداخلية» تكشف ملابسات فيديو قيادة سيارة نقل عكس الاتجاه في كفر الشيخ    ترامب وملك الأردن يبحثان مستجدات المنطقة خاصة فى قطاع غزة    مقتل ضابط إسرائيلى متأثرا بإصابته فى 19 يوليو بمعارك جنوب قطاع غزة    إصابات واعتقالات خلال اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي عدة بلدات بالضفة الغربية    افتتاح المقر الإقليمى للفيفا بالمغرب.. وأبو ريدة يهنئ لقجع    قطاع العقارات يتصدر تعاملات البورصة المصرية.. والخدمات المالية في المركز الثاني    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. جنازة زياد الرحبانى من كنيسة رقاد السيدة المحيدثة بعد غد والعزاء الإثنين والثلاثاء.. مهرجان الإسكندرية السينمائى يكرّم أحمد رزق.. مصطفى قمر يطرح "ديو غنائي" مع إدوارد قريبا    المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني: نقدر جهود إدخال المساعدات لقطاع غزة    محلل سياسي: مصر تقف أمام مخطط قوى دولية لتطبيق سيناريو شرق أوسط جديد    جامعة المنصورة تطلق القافلة الشاملة "جسور الخير 22" إلى شمال سيناء    تقارير: زوارق حربية إسرائيلية تقترب من السفينة "حنظلة" المتجهة لغزة    محافظ الإسكندرية يفتتح ميدانين بمنطقة سيدي جابر    هل يجب تسجيل طالب الثانوية رغباته بمعامل تنسيق الجامعات الحكومية؟    علاجات منزلية توقف إسهال الصيف    حزب "المصريين": جماعة الإخوان الإرهابية تسعى لزعزعة استقرار البلاد    بسبب حملة يقودها ترامب.. وكالة ناسا ستفقد 20% من قوتها العاملة    مقتل مدني جراء هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية في كورسك الروسية    مفوض «الأونروا»: عمليات إسقاط المساعدات من الجو في غزة «غير فاعلة»    سميرة عبد العزيز: الفن حياتي والمخرجون طوّروا أدواتي    "التزمت بالمنهج العلمي".. سعاد صالح توضح حقيقة فتواها بشأن الحشيش    برلماني: دعوات الإخوان للتظاهر خبيثة وتخدم أجندات إرهابية"    ميناء دمياط.. 39 عامًا من التطوير    استنكار وقرار.. ردود قوية من الأزهر والإفتاء ضد تصريحات الداعية سعاد صالح عن الحشيش    هل تجنب أذى الأقارب يعني قطيعة الأرحام؟.. أزهري يوضح    الحكم بحبس أنوسة كوتة 3 أشهر في واقعة هجوم النمر على عامل سيرك طنطا    ‬محافظ المنيا يضع حجر الأساس لمبادرة "بيوت الخير" لتأهيل 500 منزل    ليكيب: جيرونا يتوصل لاتفاق مع جيرونا على استعارة ليمار    ترامب: سأطلب من كمبوديا وتايلاند وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب    ما حكم شراء السيارة بالتقسيط عن طريق البنك؟.. أمين الفتوى يجيب    ضبط سائق ميكروباص يسير عكس الاتجاه بصحراوي الإسكندرية    بعد كسر خط مياه.. توفير 8 سيارات مياه بالمناطق المتضررة بكفر الدوار    الكشف على 394 مواطنًا وإجراء 10 عمليات جراحية في اليوم الأول لقافلة شمال سيناء    محمد شريف: شارة قيادة الأهلي تاريخ ومسؤولية    وزير الشباب: تتويج محمد زكريا وأمينة عرفي بلقبي بطولة العالم للاسكواش يؤكد التفوق المصري العالمي    كلمتهم واحدة.. أبراج «عنيدة» لا تتراجع عن رأيها أبدًا    تعرف على موعد الصمت الدعائي لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    الأهلي يعلن إعارة يوسف عبد الحفيظ إلى فاركو    أحمد حسن كوكا يقترب من الاتفاق السعودي في صفقة انتقال حر    وزير قطاع الأعمال يتابع مشروع إعادة تشغيل مصنع بلوكات الأنود بالعين السخنة    غدا آخر موعد للتقديم.. توافر 200 فرصة عمل في الأردن (تفاصيل)    بيراميدز يقترب من حسم صفقة البرازيلي إيفرتون دا سيلفا مقابل 3 ملايين يورو (خاص)    إخلاء سبيل زوجة والد الأطفال الستة المتوفيين بدلجا بالمنيا    انتقال أسامة فيصل إلى الأهلي.. أحمد ياسر يكشف    وزير الأوقاف يحيل مخالفات إلى التحقيق العاجل ويوجه بتشديد الرقابة    مصر تدعم أوغندا لإنقاذ بحيراتها من قبضة ورد النيل.. ومنحة ب 3 ملايين دولار    أبو ليمون يهنئ أوائل الثانوية الأزهرية من أبناء محافظة المنوفية    بعد إصابة 34 شخصًا.. تحقيقات لكشف ملابسات حريق مخزن أقمشة وإسفنج بقرية 30 يونيو بشمال سيناء    "القومي للطفولة" يشيد بقرار محافظ الجيزة بحظر اسكوتر الأطفال    سعر الحديد اليوم السبت 26-7-2025.. الطن ب 40 ألف جنيه    الصحة تدعم البحيرة بأحدث تقنيات القسطرة القلبية ب46 مليون جنيه    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 154 مخالفة عدم الالتزام بغلق المحلات في مواعيدها    وزير الإسكان يتابع مشروع إنشاء القوس الغربي لمحور اللواء عمر سليمان بالإسكندرية    رسميًا إعلان نتيجة الثانوية الأزهرية 2025 بنسبة 53.99% (رابط بوابة الأزهر الإلكترونية)    "الثقافة صوت الأمة وضميرها" وزير الثقافة يهنئ المبدعين بيوم الثقافة العربية ويدعو لتعزيز الهوية وصون التراث    وزير الثقافة ناعيًا الفنان اللبناني زياد الرحباني: رحيل قامة فنية أثرت الوجدان العربي    95 جنيهًا لكيلو البلطي.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم    بعد ظهور نتيجة الثانوية 2025.. وزارة التعليم: لا يوجد تحسين مجموع للناجحين    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف رأفت آخر الإنطباعيين بمصر
نشر في محيط يوم 04 - 09 - 2008


يوسف رأفت آخر الإنطباعيين بمصر
محيط - السفير يسري القويضي
تحية وتقدير لفنان رقيق من الجيل الثالث, وأحد تلامذة أحمد صبري, كان بيننا يستمد بحبه للفن قوته لمواجهة متاعب الشيخوخة، حتى رحل منذ بضعة أيام في 22 أغسطس 2008، تاركا إبداعاته التي ستظل وتبقى شاهدة على مسيرته الفنية.
عرفت الفنان يوسف رأفت عندما عرض أعماله بجاليرى اكسترا عام 1998, وكنت سأعرض أعمالي في نفس الجاليرى بعده بعدة أسابيع. ولما حضر لمشاهدة عرضي, ووجد أعمالا غير مألوفة له – و بدا أنها أعجبته - فإذ به يمسك بيدي ويقترب مبتسما من أحد اللوحات, وتساءل في صوت رقيق أقرب إلى الهمس, ما هذا الذي تفعله؟ وقبل أن أجيبه, أسرع هو يرد على نفسه, أنك تلعب بالتشكيلات الورقية, ويا له من لعب! انه لعب مبدع.
أتذكر جيدا تلك الواقعة, وأتذكر أيضا أننا تبادلنا كروت الزيارة, وأجرينا حديثا حول رحلة قمت بها إلى الواحات البحرية, ولمست لديه حماسا شديدا للقيام برحلات مماثلة, فاتفقنا على أن أزوره في منزله بمصر الجديدة لنواصل الحديث, ولأزوده بتفاصيل أكثر حول الرحلة إلى الواحات البحرية.
عندما توثقت صلتي بيوسف رأفت, وجدت فيه شخصا متفائلا طيب السريرة, من الصعب أن يحمل ضغينة تجاه الآخرين. لا يعوقه عدم وجود ذراعه الأيمن عن نشاطه الفني بتاتا. شاهدت أعماله على جدران شقته, ووجدته منهمكا في تصوير المناظر الطبيعية, يستلهمها من اسكتشاته أحيانا, وأحيانا أخرى مما يراه عبر نافذة غرفته, أو باستدعائه صورا من الذاكرة لمشاهدات سابقة. وعرفت منه أنه بعد انتهاء خدمته الحكومية بوزارة التربية والتعليم في عام 1980, تفرغ للفن مقتصرا على تصوير المناظر الطبيعية......... وإن لم تخني الذاكرة فقد ذكر لي " أنا مصور لوحات شخصية في الأساس تتلمذت على يد الفنان أحمد صبري, ومارست تصوير البورتريه بعد تخرجي, ثم قررت هجر هذا النوع من التصوير بعد أن صورت في أحد المرات لوحة شخصية لقريبة لي, لأهديها لها, وراعيت أن تعكس اللوحة شخصيتها بأكثر من تصويري لتفاصيل ملامحها الصريحة. لقد كانت لوحة رائعة إلا أن تعليقات صاحبتها كانت محبطة, لقد استنكرت ما صورته, وقالت هل أنا قبيحة إلى هذه الدرجة, وطلبت تعديلها. فرفضت وقررت من يومها أن أكف عن تصوير النساء, بل في واقع الأمر كففت عن تصوير اللوحات الشخصية بشكل عام ".
ان يوسف رأفت قليل الكلام, يستمع بأكثر مما يتكلم, ربما خجلا, وربما تواضعا, وربما أدبا, لكنه إذا أنس إليك, فانه ينطلق يتحدث بحرية, وعلى سجيته, يحكى ذكرياته, ويدلى بآرائه.
لم أسمعه يغتاب أحدا على الإطلاق, كان عف اللسان, حتى تجاه من قد يصيبه بالضرر, بل سيصفح عنه, ويبرر له فعلته, وأقصى شيء يفعله هو تجنب ذلك الشخص.
اقتربت منه كثيرا, وتوطدت صداقتنا, استشرته في كثير من الأمور الفنية, وكان يحب أن يسمع رأيي, وبخاصة عندما ينتهي من لوحة جديدة. تحدثت معه بحرية حول أشياء عديدة, وموضوعات شتى, لكني استشعرت بحرج في سؤاله عما أصاب ذراعه اليمنى. وفى يوم من الأيام, وكأنه أحس بحرجي و امساكي عن السؤال, فإذ به يبادر بالإشارة إلى أنه وهو طفل صغير ركب موتوسيكلا خلف أحد أخواله, وتعرضا لحادث طريق, كان من نتيجته اضطرار الجراح لبتر ذراعه اليمنى, ومن يومها شب يعتمد على ذراعه الأيسر اعتمادا كاملا, وأردف مسرعا يقطع الحديث حول ذلك الأمر قائلا أنه نسى تلك الواقعة تماما.
ولد يوسف رأفت في عام 1920 ونشأ في كنف أسرة تجل وتحترم العلم والثقافة, التحق بالمدرسة العليا للفنون الجميلة عام 1940 , ليدرس بقسم التصوير, وكانت دفعته تتكون من خمسة طلاب ضمت كل من الفنانان حامد عويس, وكمال النحاس , وكانوا يدرسون على يد الفنان أحمد صبري الذي كان صارما وقاسيا, لكنهم كانوا معجبون به ويقدرونه. ويذكر يوسف رأفت أن تنافسا شديدا, وخلافا كبيرا وقع بقسم التصوير بين الفنانين يوسف كامل وأحمد صبري, فلم تجد إدارة المدرسة من سبيل لحل الخلاف, إلا بالفصل بينهما, فعهدت بقسم التصوير بالمدرسة ليوسف كامل, وعهدت بقسم التصوير للدراسات الحرة لأحمد صبري. ولارتباط الطلاب بأستاذهم صبري, فقد قرروا الاستمرار في إكمال دراستهم على يديه في المرسم الذي يدرس فيه بالقسم الحر.
ويتذكر يوسف رأفت أن أحمد صبري كان يجلس بينهم ليصور الموديل في الأتيلييه, وكان الطلاب يقفون مبهورون بما يصوره الفنان, وما يكاد يوشك أن ينتهي من اللوحة التي يعمل بها, حتى يفاجئهم بكشط الألوان وكحتها عن سطح اللوحة لتعود نظيفة تماما, كل ذلك والطلاب مذهولون. لماذا يفعل أستاذهم ذلك؟ إن اللوحة كادت أن تنطق! لقد اكتملت وانتهت في نظرهم!!................ ثم يبدأ الفنان صبري يخط خطوطه من جديد على السطح المكشوط - ولكنها هذه المرة – خطوطا مبسطة وسريعة, تلخص الكثير من التفاصيل التي لا لزوم لها................................لقد أعطاهم الأستاذ مثالا عمليا, موضحا لهم بأن على الفنان ألا يقع حبيس الانطباع التفصيلي الأول, وإنما عليه ملاحظة جوهر موضوع اللوحة والبحث عنه بعناية, حتى ولو اقتضى الأمر كشطها. و على الفنان أن لا يبدأ لوحته إلا بعد السيطرة عليها, وترتيب عناصرها, وتوزيع ألوانها وتحديد مناطق الظل والنور بها.
كان أحمد صبري رساما قديرا للوحات الشخصية (البورتريه), والطبيعة الصامتة, بأكثر منه مصورا للمناظر الطبيعية, لكنه كان أكثر ميلا لمدرسة الانطباعيين من حيث أسلوب استخدام الألوان, وتلك كانت موضة العصر في مصر في أوائل القرن العشرين, وقد تعلم تلاميذه منه ألا يتخلوا نهائيا عن الخطوط كأساس للتصوير, ولكن عليهم - في نفس الوقت - إعطاء اهتمام بالمساحات اللونية, وأن يمتلكوا القدرة على استعمال اللون, سواء في الخلفيات أو في الموضوع الأساسي للوحة, بما يخدم الموضوع الذي يصورونه.
يتذكر يوسف رأفت كل تلك التفاصيل, ويقول أنه وأقرانه الدارسين بقسم التصوير,عندما هرعوا للانضمام لأستاذهم صبري في القسم الحر تعرفوا على زملاء فنانين آخرين كانوا يدرسون بالقسم الحر,ويذكر منهم الفنان الناقد مصطفى كمال الجويلى ( الشهير بكمال الجويلى) والفنان الكاتب أمين الريان. وعقدوا معهم صداقات وعلاقات متينة. وفى عام 1944 تخرج يوسف رأفت وكان على رأس دفعته, وطبقا للتقليد الذي كان سائدا في ذلك الوقت, استقبل الملك فاروق الأول أوائل الخريجين من الكليات الجامعية والمعاهد العليا في حفل استقبال بسراي عابدين, وقد حظي يوسف رأفت هو, وحامد عويس بهذا التكريم. وأطلعني على صورة تذكارية لتلك المناسبة لا زال محتفظا بها, معتزا بقيمتها التاريخية.
مارس يوسف رأفت في شبابه تصوير اللوحات الشخصية (البورتريه), و قام بإعطاء دروس في التصوير بمرسم خاص أقامه في أحدى غرف أستوديو للتصوير الفوتوغرافي يملكه شقيقه المصور الفوتوغرافي مصطفى رمزي. وكان الأستوديو يقع في شقة بالدور الأرضي لمبنى خلف سينما كايرو بالاس, بالقاهرة, وتتكون الشقة من عدة غرف, وقد سمح له شقيقه باستخدام إحداها في أيام محددة من أيام الأسبوع. ويسترجع يوسف رأفت شريط الذكريات ويقول أن بنفس الدور الذي يشغله الأستوديو كان هناك مكتبا لتشغيل العمال ومقاولات النقل يشرف عليه ويديره شاب اسمر اللون يرتدى معطفا اصفر, تدل هيئته على أنه رئيسا لمجموعة من العمال, كان هذا الشاب هو أنور السادات, وقتما كان هاربا من السلطات.
وبالنسبة لانضمامه إلى وزارة التربية والتعليم, ابتسم وقال لي أنه لم يسعى إلى تلك الوظيفة, وان الأمر حدث بالصدفة. لقد دعاه صديق له ليعلم التصوير والرسم في مدرسة خاصة يديرها, كوسيلة لشغل الوقت, وقبل يوسف رأفت العمل بتلك المدرسة إكراما لصديقه, و على أساس عدم الالتزام الدقيق بمواعيد تقيد من حريته, وقد قبلت إدارة المدرسة ذلك. وبعدها بوقت قصير صدر قرار بإلغاء المدارس الخاصة وضمها إلى منظومة المدارس الحكومية, وهكذا وجد يوسف رأفت نفسه فجأة موظفا بوزارة التربية والتعليم, ويضيف بأنه لم يقم بالتدريس بالمدارس وكان معظم الوقت
يمارس مسئوليات إشرافية بالمناطق التعليمية, كما حصل على أجازة بدون مرتب لعدة سنوات, عندما منحته وزارة الثقافة منحة تفرغ ( من 1960 إلى 1963 ) تجددت عدة مرات, وكان يمكن أن تجدد لمرات أخرى عديدة لولا أن وزير التعليم, السيد يوسف الذي عرف بصرامته وشدته, لم يوافق على مد الأجازة بدون مرتب للفنان يوسف رأفت وأمر بضرورة عودته للعمل بالوزارة.
ويسترجع يوسف رأفت الذكريات, وكيف تعرف على زوجته الفنانة الراحلة عائشة الأرمانى, والتي عملت بالتدريس فيما بعد في كلية التربية الفنية, وقد جاء الارتباط بينهما عام 1950 بعد قصة حب متبادل وإصرار من جانبهما لمواجهة كل الاعتراضات العائلية التي وقفت في طريقهما, ونجحا في التغلب على كل العوائق. سافرت هي إلى سويسرا لاستكمال دراساتها الفنية هناك, وسافر إليها في الأجازة ليكون بالقرب منها. و عندما سافرت إلى المملكة العربية السعودية معارة للتدريس الفني هناك, سافر مصاحبا لها, وعمل خلال وجوده هناك في رسم وتصميم الصور والمؤشرات المدرسية و النماذج التعليمية.
لم تكن الحياة أمام الزوجان الفنانان هينة, و وردية, بل كانت شاقة ومتقشفة في أغلب الأحيان, وبالذات عندما رزقا بابنتين وولد, وعزما معا على تنشئتهم وتعليمهم بالمدارس الأجنبية لاكتساب تعليما راقيا ومهارة لغوية تعينهم في حياتهم, لقد كانت تكاليف الحياة الكريمة باهظة و كبدتهما الكثير, فعزما على ألا يمتهن أي من أولادهم مهنة الفن. فعملا على إبعادهم عن طريق الفن وتجنب غوايته, حتى أنهما على سبيل المثال, لم يصطحبوهم إلى المتاحف أو المعارض الفنية, بل وجهوا كل اهتمامات أطفالهم إلى التفوق الدراسي والنواحي العلمية وإكمال تعليمهم الجامعي ليتخرجوا إلى الحياة العملية في مهن أخرى خلاف مهنة الفنان.
لقد كانت الفنانة عائشة الأرمانى بالنسبة ليوسف رأفت – حسب قوله – الزوجة والأخت وإلام, كان يحس بالراحة في قربها منه, ويستشعر الأمان لوجودها معه. استقرا بعد الزواج في شقة بمنيل الروضة, ثم انتقلا إلى مصر الجديدة في أواخر الخمسينات, في المنزل الذي لا زال مقيما فيه مع أبنه وأحفاده, ثم شاءت الأقدار أن يختطف الموت زوجته بعد إصابتها بالسرطان في عام 1986. لقد كانت صدمة هزت مشاعره, وزلزلت حياته, وكان لابد له أن يتجاوز الصدمة, فأعطى جل وقته و جهده للفن, ونشط بشكل أكثر حماسا بعد خروجه إلى المعاش, واستطاع بصحبة بعض الأصدقاء أن يرتب رحلات لبعض الدول الأوروبية فزار المملكة المتحدة وتشيكوسلوفاكيا, و في داخل مصر, زار أسوان والأقصر وشرم الشيخ والبحر الأحمر, وأخيرا واحة سيوه, وقد صحبته في زيارته تلك للواحة. لقد كان يمتع عينيه ويملئهما بذخيرة فنية كانت الأساس لكثير من اللوحات التي عرضها في معارض خاصة ومعارض عامة, وكلها لوحات ترتبط في أسلوبها بالمدرسة الانطباعية التي ظل يوسف رأفت مخلصا لها, وتتميز لوحاته بنزعة تفاؤلية واضحة, وبألوانها المبهجة. ويرتب عناصرها في اتزان, ونسق يسر العين ولا ينفرها.
لقد كان من عادته أن يكمل اللمسات الأخيرة للوحة بعد أن يضعها في الإطار الذي سيحيط بها. وغالبية لوحاته, في المراحل الأخيرة, مصورة باستخدام سكين التلوين, وكثيرا ما كان يستخدم شفرات الحلاقة لكشط المساحات وإحداث خربشات وتأثيرات على السطح. ومن عادته كذلك أن يرتد إلى الخلف عدة خطوات بعد وضع اللمسات لكي يرى تأثيرها على اللوحة كوحدة واحدة متكاملة, وتتكرر تلك العملية طوال عمله باللوحة. وبالطبع مع تقدم السن, وصعوبة الحركة, لم يعد قادر على النظر للوحة من زوايا مختلفة, وكان يصورها من الوضع الجالس, مما كان له تأثير يمكن ملاحظته في اللوحات التي أنتجها في السنتين الأخيرتين.
ولقد باح لي الفنان يوسف رأفت, في يوم من الأيام, بأنه في الماضي وكما اعتاد منذ أيام الدراسة بكلية الفنون الجميلة, كان يمزج الألوان ويكونها ليصل إلى الدرجة اللونية التي يرغبها, وظل يستخدم ذلك الأسلوب , إلى أن تعرف على فنان شاب غير ذائع الصيت - يمت بصلة قرابة بعيدة له – كان لديه مجموعة كبيرة من الألوان تحتوي على كل الدرجات اللونية, بحيث يضع درجة اللون التي يريدها من الأنبوبة مباشرة متجنبا خلط الألوان, فيحافظ بذلك على طزاجة اللون, لقد أعجبت تلك الطريقة يوسف رأفت, ومن يومها زادت مجموعة الألوان لديه فتجد في أدراج دولاب الألوان بجانب حامل الرسم مجموعات من أنابيب الألوان لكل الدرجات المتاحة. وقد ساعدته تلك الطريقة على إكساب لوحاته, التي أنجزها في السبعينات وما بعدها, ألوانا طازجة بهية, بأكثر مما كانت علية اللوحات السابقة التي صورها في الخمسينات والستينات.
في السنوات من 1998 وحتى 2008 توطدت صداقتي معه, وكم تأسفت أنى لم التق به من قبل ذلك، لكني على أيه حال كنت موفور الحظ بتعرفي عليه, لقد قمنا بأنشطة كثيرة معا, ورغم أنه فنان تقليدي ملتزم بأسلوبه الانطباعي, وانأ ممن يقبلون على الجديد والحديث في الفن, إلا أنه كان متفتح الذهن, غير رافض للاتجاهات الجديدة والحديثة, بل كان يشجع من يقابلهم من شباب الفنانين, ويرحب بفنون الحداثة.
لقد صحبته كثيرا إلى مرسمي بمدينة العبور, لقضاء اليوم معي, وكنا نقضى وقتا ممتعا, نتبادل فيه الخبرات, وأذكر أنه شاركني في لوحة أو لوحتين قمنا فيها برص وتوزيع ولصق أغطية الزجاجات البلاستيكية والصناديق الورقية الملونة على سطح اللوحة, وكان سعيدا بما فعلنا, ولم يستهزأ بما افعل, أو بالخامات غير التقليدية التي استخدمها, لقد كنا نلعب على حد قوله, فالفن هو في الواقع لعب منظم له قواعد وأصول. فبدون القواعد والأصول سيعد اللعب عبثا وإهدار للوقت والموارد.
كنا نذهب معا لزيارة العروض الفنية, ونخرج في عطلات نهاية الأسبوع في رحلات قصيرة نستمتع بالطبيعة ونشاهدها سواء في البحر الأحمر أو الإسكندرية أو منطقة الأهرام والصحراء, وقد قمنا معا برحلة إلى واحة سيوه, وكانت الزيارة الأولى لنا لتلك الواحة. وظللنا نتابع تلك الأنشطة إلى أن تثاقلت حركته في الفترة الأخيرة, وأصبح من العسير عليه القيام بها. ورغم أنه
كان يرفض الاستسلام إلى فكرة الحد من حركته, إلا أن المحيطين به تقديرا لمكانته,وعطفا عليه, وحفاظا على صورته لدى الأخريين ممن لا يعرفونه, كانوا يرون أن البقاء بالمنزل يوفر له الراحة والصورة الكريمة التي يستحقها.
ورغم شيخوخته لم يفقد الفنان يوسف رأفت بشاشة الوجه والابتسامة الرقيقة, ذهنه لا زال يقظا يتذكر طرفا من الذكريات, ثم يسرح وينسى أحيانا, ويكرر ما قاله مرة ومرات, ورغم كل ذلك فهو شخصية رقيقة, نأمل له تمضية بقية الرحلة في هدوء وسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.