* 15 مليون شخص ضحية الغزو الإسباني بأمريكا اللاتينية * جدل علاقة الدين بالدولة سبب الحروب الأهلية بأمريكا اللاتينية * اغتيال زعيم ليبرالي فتح باب الدم * التنكيل بالثوار سبب نشأت حرب العصابات * الهرب من الفقر المدقع لحقول الكوكايين حين صدرت " مائة عام من العزلة " سأل ناقد إسباني الروائى " جابرييل جارسيا ماركيز " هل هى رواية سياسية ؟ و ما علاقة الأدب بالسياسة ؟ أجاب ماركيز " أعتقد أن القارئ فى أمريكا اللاتينية لا يحتاج إلى من يقص عليه مآسيه و اضطهاده و غياب العدالة الاجتماعية ، انه يعرف كل هذا و يعانى منه يوميا ، و إنما هو بحاجة إلى أدب جديد ففى الأدب الجديد تحريض و توعية " . و قال ماركيز أن من واجب الكاتب الثورى " أن يكتب جيدا ذلك هو التزامه " . بشاعة الاستعمار الإسبانى لقد كان كتاب أمريكا اللاتينية يعبرون فى كتاباتهم عن معاناة حقيقية طالت أمريكا اللاتينية منذ أن وطأ قدم الأسبان أرضها . و أجمع المؤرخون أن الحكم الإسبانى اتسم بالوحشية ، حيث فتكوا بالسكان الأصليين للبلاد " الهنود الحمر " ، و لم يتم تقدير عدد الملايين الذين إبادتهم أسبانيا بأمريكا اللاتينية ، فيما يعرف بإبادة جنس كامل . فى حين رجح البعض أن عدد ضحايا الغزو الاسباني قدر ب 15 مليون نسمة هلكوا فى القرنين ال 17 و ال 18 ، إلى أن استقلت بلدان أمريكا اللاتينية عن إسبانيا فى القرن ال 19 . و دمر الأسبان جزء كبير من حضارات شعوب البلاد الأصلية ، التى أثبتت الدراسات الحديثة إلى أن بعضها بلغ درجة كبيرة من التقدم ، و كان همهم الأكبر جمع الذهب و تصديره لإسبانيا . و سخروا شعوب أمريكا اللاتينية لخدمتهم بمناجم الذهب ، و كانت مناجم الذهب فى غرب كولومبيا أهم مناطق إنتاج الذهب فى الإمبراطورية الإسبانية . كما استولوا على أراضى السكان الأصليين ، فكانوا يمتلكوا سلطان مطلق على من يعملون بهذة الأراضى . و يكشف ماركيز فى قصته القصيرة " الأم الكبيرة " عن عادة وحشية للاستعمار أسموها ب " حق التفخيذ " ، مما أدى لاختلاط النسل الأسبانى بالهنود الحمر ، و الزنوج الأفارقة الذين استقدموهم كعبيد . و يعبر ماركيز عن تلك المآسى فى روايته " الحب فى زمن الكوليرا " بقوله : مدينة مازالت على هامش الزمن .. حيث تصدأ الأزهار و يفسد الملح .. المدينة التى لم يصبها شئ خلال أربعة قرون سوى الهرم البطئ ما بين شجيرات الغار الذابلة و المستنقعات المتعفنة .. و يصور الفقراء الذين يعيشون بأكواخ من الكرتون و الصفيح على ضفاف المستنقعات .. و أكبرهم سنا كانوا يحملون حتى وقت قريب وسم العبيد الملكى .. حيث ألغى الرق بعد الاستقلال عن إسبانيا . و يرسم ماركيز ملامح المدينة الغارقة فى مياه الصرف الصحى تتهددها الأمراض و الأوبئة منذ العهد الاستعمارى .. و بعد اجتياح وباء الكوليرا .. قررت أخيرا الحكومة معالجة الأمر و لكن كالعادة بعد وقوع الكارثة .. فى صورة مشابهة لما يحدث بوطننا العربى لا إصلاح إلا بعد كارثة . ثورات أمريكا اللاتينية قامت خلال فترة الاستعمار الإسبانى الطويلة من بداية القرن ال 16 و حتى بداية القرن ال 19 ، ثورات عديدة فى معظم بلاد أمريكا اللاتينية ، كانت تقمع بالحديد و النار و ينكل بالثائرين أشد تنكيل . و لخص هذا المشهد " أليخو كاربنتيير " الذى يعد من أفضل من أنجتبهم " كوبا " من الروائيين ، ، و كان مدافعا عنيدا عن الحرية ، فى روايته " تكريس الربيع " مسجلا نصف قرن من التاريخ المعاصر .. من الثورة السوفيتية إلى الثورة الكوبية مرورا بالحرب الأهلية الإسبانية .. و يظهر كيف أن أبطال روايته يأبون الاستسلام للمعاناة و يحاولون تغييرها بالثورة .. و يظهر كيف أن البطلان يعيشا فى كنف أمل حياة جديدة و ربيع جديد فى كنف " الثورة الكوبية " . و عن كولومبيا فبدأ النضال من أجل الاستقلال فيها عام 1810 ، و استطاع " سيمون بوليفار " تحرير بلاده من الإسبان عام 1819 ، و استقلت كولومبيا تحت اسم " كولومبيا العظمى " . و تكون حزبان على الساحة هم " الحزب المحافظ " و " الحزب الليبرالى " و كانا يتنازعان على الحكم ، و كان همهم الأول الحفاظ على الامتيازات الطبقية التى كانت يتمتع بها أنصارهم خلال فترة الحكم الإسبانى . الاضطرابات و الحروب الأهلية بدء صراع طويل بين الحزبين ، اقترب كثيرا من " الحرب الأهلية " من أحداث العنف و دمار ، و بلغ النزاع مداه عام 1948 حين اغتيل الزعيم الليبرالى " خورخ جايتان " الذى تمتع بشعبية واسعة ، و أثار اغتياله موجة من الاضطرابات الدامية ، و استمرت أعمال القمع مدة 10 سنوات ، قتل خلالها 250 الف شخص . و عن الحرب الأهلية التى اجتاحت أمريكا اللاتينية بعد الثورات يقول ماركيز : " كان يعرف نفسه كنصير طبيعى للسلام ، و نصير للصلح النهائى بين الليبرالين و المحافظين من أجل مصلحة الوطن .. فيما تنزف الأمة فى حرب أهلية لا تنتهى " و يتابع " كم هى نبيلة هذة المدينة التى ما فتئنا نحاول القضاء عليها منذ أربعمئة سنة ، و لم نتوصل إلى ذلك بعد " . و تعاقب المحافظون و الليبراليون على الحكم ، و لكن نفوذ الأثرياء و الأقطاعيين استمر كما هو يحتكرون التجارة و الصناعة و التعدين ، و اتسعت الفجوة الطبقية ، و أمريكا اللاتينية كجزء من العالم الثالث عانت من التخلف و البطالة و الزيادة السكانية ، و الغلاء و التضخم . و انتقد ماركيز و غيره من الكتاب الكنيسة ، لأن الغزو الاسبانى لم يكن فقط عسكريا بل كان أيضا دينيا ، و بالرغم من أن بعض رجال الكنيسة الكاثولوكية نددوا بالأعمال الوحشية التى قام بها الأسبان ، لكن كان أغلبهم يباركون ذلك !! علاقة الكنيسة بالدولة نفوذ الكنيسة بدأ يضعف مع استقلال أمريكا اللاتينية ، و كان الدين موضع الجدل فى كولومبيا فى العام الذى توفى به سيمون بوليفار عام 1930 ، بين الحزبين القائمين الليبرالين و المحافظين . قام الليبراليون أثناء حكمهم فى الخمسينات و الستينات بالفصل بين الكنيسة و الدولة ، و صادروا أموال الكنيسة ، و فرضوا قيودا على رجالها ، و ألغوا الرهبنة و الأديرة . و كان الرد عنيفا من المحافظين حين تولوا الحكم فى الثمانينات ، فالغوا القيود التى فرضها الليبراليون على الكنيسة ، و قابل الليبراليون ذلك بمعارضة عنيفة ، و رد المحافظين بعنف مماثل ، و كان هذا النزاع أساسا للحروب الأهلية . كان أطولها و أعنفها التى وقعت فى الفترة من 1899 - 1902 ،و نتج عنها انفصال بنما عن كولومبيا فى 1903 ، و أعقب ذلك 50 عاما من الاستقرار النسبى ، تضاءل خلالها تدريجيا دور الكنيسة فى الحكم . و ظهر بالكنيسة تيار إصلاحى يتعاطف مع الفقراء و لكن ذلك لم يعجب الأحزاب اليمينية المحافظة ، و قتلوا بعض رجال الدين الذين ينتمون لهذا التيار . حرب العصابات و بارونات المخدرات أدى سوء حال الطبقة الفقيرة طوال 35 عاما إلى قيام حركات ثورية مسلحة فى الريف و الحضر ، كان معظمها ذو نزعة يسارية ، و لجأت تلك الحركات إلى حرب العصابات مع الحكومة مما جعلها تفرض الأحكام العرفية ، و تسرف فى القمع ، و الاعتقالات الجماعية ، و القيام بعمليات عسكرية ضد الثوار ، و من يأيدونهم من الشعب ، و تصفية الخصوم ، و التعذيب بالسجون . و نشأ عن هذة الأوضاع فى كولومبيا و غيرها من بلدان امريكا اللاتينية إلى قطيعة بين النظم الحاكمة و الشعوب ، و فشلت كافة مشاريع تحقيق العدالة الاجتماعية . يحكى الروائى ألخيو فى روايته القصيرة " حق اللجوء " بشكل ساخر تاريخ أمريكا اللاتينية المعاصر ، فى ضوء الانقلابات العسكرية ، و رسوخ الأوضاع الظالمة و القمعية كخلفية للتغيرات السياسية السطحية. و له رواية تتناول " الطاغية المستنير " بشكل كاريكتورى ، و فى مواجهته " الطالب " البطل الشعبى المتصدى للقمع السياسى ، و فى الصفحات الأخيرة يظهر ألخيو تجلى الوعى لدى الديكتاتور فى أعقاب انهياره الإيدلوجى ، و انهيار حياته . فى السنوات الأخيرة هدأت حرب العصابات ، و ما أثارته من أعمال قمعية ، و لكن كان انصرف بالفعل العديد من المزارعين الكولومبيين لزراعة نبات " الكوكا " الذى يصنع منه الكوكايين ، و سموا " ببارونات المخدرات " الذين حققوا ثراء فاحش . و أصبحت الجبال و الغابات مناطق سيطرتهم ، و كونوا قوات عسكرية مسلحة بأجهزة حديثة ، و اصبحوا يرشون كبار المسئولين فى الدولة ، و يشنون الغارات على أقسام الشرطة ، و دور الصحف التى تهاجمهم ، و يغتالون الصحفيين و الشرطيين و حتى القضاة . و حاولت كولومبيا القضاء على ظاهرة البارونات ، و نجحت فى قتل و اعتقال بعضهم ، و لكن معركتها معهم لم تنتهى بعد . تظل المعاناة قائمة ، ف " ماكوندو " التى رسمها ماركيز و قال عنها النقاد أنها : المدينة الأسطورية .. أنها لا مكان و كل مكان .. هى وهم و حقيقة ، فهى ليست بمكان بقدر ما هى حالة فكرية " . فشعب ماكوندو هو صورة حية عن شعوب أمريكا اللاتينية بل شعوب العالم أجمع بين الهموم و الخذلان ، و الانكسارات و الانتصارات .