لم تعد الكنيسة والأزهر مجرد مؤسسات دينية، بل أصبح لهما دور كبير في عالم السياسة، وأصبحت مؤسسات كبيرة معقدة يتشابك فيها الديني والدنيوي وبخاصة بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، فسعى الأزهر للبحث عن دور جديد في سياق مخالف يحقق له الاستقلالية بعيداً عن السلطة السياسية، في حين سعت الكنيسة إلى توسيع دورها، وكان ذلك واضحاً في الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية. ففي بداية الأمر لم يكن للكنيسة دور في تأجيج الثورة المصرية؛ بل كانت أحد الأطراف التي تدعو إلى وقف التظاهرات بعد تصريحات البابا شنودة، ولم يكن الأزهر (أيضاً) ضمن عوامل قيام الثورة، بل التزم الصمت ولم يوضح موقفه سواء بدعم الثورة أو رفضها (وإن ظهرت بعض التصريحات التي تدعو إلى وقف العنف بين المتظاهرين) وفسر البعض عدم مشاركة المؤسسات الدينية في قيام الثورة إلى بُعدها عن المشاركة في الحياة السياسية بصورة كبيرة خلال السنوات الماضية.
وفي هذا الصدد، تأتى أهمية دراسة مستقبل المؤسسات الدينية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومعرفة أسباب تدخله في الحياة السياسية في ظل التوترات التي يشهدها المجتمع الحالي.
عوامل التدخل: ويرجع تدخل المؤسسات الدينية وعلى رأسها مؤسسة الأزهر لعوامل تتعلق بها ذاتياً وعوامل حتمت وفرضت عليها التدخل في الحياة السياسية نتيجة التخبط في إدارة المرحلة الانتقالية.
فمن أبرز العوامل الذاتية، رغبة تلك المؤسسات في الدفاع عن حقوقها، وجاءت رغبة الأزهر في الاستقلال عن السلطة السياسية، بمطالبة المجلس العسكري بتعديل قانون الأزهر من أجل استقلاليته .
في حين طالبت الكنيسة بحقوقها في قانون موحد لدور العبادة وأحقيتها في المشاركة في إعداد الدستور فكانت المادة الخاصة بالشرائع السماوية من ضمن مطالب الكنيسة في لجنة صياغة الدستور الجديد، كما رغبت الكنيسة في المشاركة نتيجة ظهور أدوار لبعض التيارات الدينية الأخرى والحركات الإسلامية التي تهدد كيانها، فكان لزاماً أن تشارك لمجابهة هذا الدور، ولاسيما في ظل وصف البعض للعلاقة بين الحركات الدينية والمؤسسات الرسمية بالمعقدة نظراً لثنائية التنافس والتداخل بينهما، مما أدى إلى تزايد دور الأزهر ليكون خصماً للقوى الدينية الموجودة على الساحة كالتيار السلفي وجماعة الإخوان المسلمين.
وسعت الكنيسة إلى تعظيم دورها بعد الانتقادات التي وجهت إليها بتراجع دورها في التعبير عن الأقباط، خاصة في ظل ظهور عدد من الأحزاب السياسية المسيحية التي تدافع عن هوية الدين المسيحي.
أما العوامل الأخرى التي فرضت على المؤسسات الدينية التدخل في عالم السياسة، هي حالة السيولة الفكرية والخلافات المستمرة بين القوى السياسية المختلفة حول القضايا المهمة خلال الفترة الانتقالية، فكان على سبيل المثال الصراع الدائر بين الليبراليين والإسلاميين حول "المبادئ فوق الدستورية" مؤشراً لبداية تدخل الأزهر لإنهاء الأزمة، وبالفعل صدرت "وثيقة الأزهر" والتي ضمت عدداً من المواد اتفق عليها كافة القوى السياسية (أحد خطوات التدخل) .
كما كانت الأحداث المتلاحقة لتفجيرات كنائس مختلفة في أنحاء مصر من الأمور التي تسببت في تدخل الكنيسة في عالم السياسة، حيث طالبت السلطات بضرورة التدخل لوقف العنف ومنع هذه الأحداث مرة أخرى.
وكان سقوط الشهداء والضحايا نتيجة التظاهرات المتتالية في ميادين مصر من الأمور التي اقتضت تدخل تلك المؤسسات من أجل حقن الدماء، فحاول الأزهر أكثر من مرة عمل مبادرات عرفت باسم "لم الشمل" بهدف توحيد الصفوف والاتفاق على النقاط المشتركة بين الأطراف الفاعلة إلى جانب الكنيسة.
كما مثلت مطالب بعض القوى لهم بالتدخل، أحد الدوافع لانخراطهم في الحياة السياسية، وخير دليل على هذا مطالب القوى الشبابية والثورية للأزهر بالتدخل عقب الأحداث المؤسفة بعد الاستفتاء على الدستور، كما كانت مطالبات بعض القوى المسيحية له بالانسحاب من الجمعية التأسيسية من الأمور التي تدل على تلبية مطالبهم في التحدث عن الكنيسة وكافة الأطياف المسيحية.
الدين والسياسة: وحول جدلية العلاقة حول الخلط بين الدين والسياسة، تعددت الآراء حول تدخل الأزهر في السياسة، فهناك من يرى أنه سيلعب دوراً كبيراً، خاصة في ظل انتماء عدد كبير من القوى الإسلامية إلى مؤسسة الأزهر بصورة أو بأخرى، ومن ثم، فإن انفتاح الأزهر على ساحة العمل العام وإفساح المجال أمامه يعنى المزيد من الوجود لقوى دينية كحركة الإخوان المسلمين والتيار السلفي داخله، مما يعنى احتمالية تدخل الأزهر بصورة كبيرة في الأمور السياسية.
في حين يرى البعض الآخر (يمثل هذا الاتجاه القوى الليبرالية) صعوبة في تدخله في عالم السياسة نظراً لوسطيته وطبيعة القيادات التي تمتلك زمام الأمور في هذه المؤسسة، وترى أنه من الأفضل أن يكون حائط صد في مواجهة التيارات الدينية الأخرى التي تصفها القوى الليبرالية بأنها تيارات متشددة تميل للتفسيرات الدينية الجامدة.
وبالرغم من ذلك ترفض القوى الليبرالية أي دور رقابي من جانب الأزهر على عالم السياسة.
وبالنسبة للكنيسة، يرى البعض أنه من الضروري أن تدخل الكنيسة في السياسة نظراً لانتشار التيارات الإسلامية وبعض الفئات المحسوبة على التيار الإسلامي التي تصف المسيحيين بالكفار وعدم أحقيتهم في المشاركة في كافة الحقوق، وخير دليل على ذلك بعض التصريحات نُسبت تصريحات للبابا بإحدى الصحف الدولية بأن العصيان المدني مرفوض في قاموس الكنيسة المصرية.
وهناك بُعد دولي يتعلق بمدى الدعم الغربي للكنيسة من أجل حدوث عدم الاستقرار الداخلي بين المسلمين والمسيحيين لعمل غطاء سياسي للتدخل الأجنبي المحتمل وقوعه في مصر، ورغم ذلك يتصور الكثيرون أن الكنيسة ستلعب دوراً كبيراً في المرحلة القادمة، خاصة في ظل تولى الحكم القيادات الإسلامية.
واستنتج العديد من رجال السياسة أن الأزهر سيحتل مكانة مميزة كمؤسسة يتقاطع داخلها الديني والسياسي، في حين سيصبح للكنيسة دور محدود بعض الشيء يختصر في الدفاع عن حقوقها وحقوق الأقباط دون أن تصبح في صدارة المشهد السياسي.
توقعات وتحديات: ويتحدد مستقبل دور كل من الكنيسة والأزهر بمدى مواجهتهما للتحديات القائمة، حيث يتعرض الأزهر للاهتزاز بعد احتلاله مساحة إجلال وتقدير في العقل المصري.
فهناك من وصفه رمزاً للسلطة السياسية القائمة آنذاك، فضلاً عن الأحاديث المتواترة عن الاختراق الأمني لجامعة الأزهر، كغيرها من مؤسسات الدولة، ونتيجة لصعود التيار السلفي واكتسابه شعبية واضحة، ظهرت أقاويل بعدم اعتبار الأزهر المرجعية الرئيسية، ولذلك اختلت المعادلة بين الجماهير والأزهر.
ولذا؛ فإن نجاح مؤسسة الأزهر في استعادة دورها يتطلب قبول العقل المصري لها كمؤسسة رئيسية تعبر عن الدين، بعيداً عن السلطة السياسية القائمة.
كما تمثل الصراعات والتوترات بين الأزهر والتيارات الدينية أحد التحديات الخطيرة التي تهدد كيانه، فبالنظر إلى مواقع القيادة بتلك المؤسسات خلال السنوات الأخيرة، نجد أن أتباعها من الصوفية، فشيخ الأزهر من أتباع المذهب الصوفي.
وفي المقابل نجد أن التيار السلفي له مواقف متعارضة من مبادئ الصوفية، وبانتقال هذا الصراع والانشقاق داخل مؤسسة الأزهر نفسها التي تضم أتباع كلا التيارين سيتدهور وضع الأزهر، ومن هذا المنطلق، فإن شكل العلاقة بين التيارات الدينية ومؤسسة الأزهر سينعكس بالسلب أو بالإيجاب على دور الأزهر في المرحلة المقبلة.
أما على مستوى الكنيسة فإنها تواجه عدداً من التحديات الداخلية التي تهدد تماسكها واستقرارها خاصة بعد رحيل البابا شنودة نتيجة الاختلاف حول الرؤى بين العلمانيين ورجال الكنيسة في عدد من القضايا، كقضايا الزواج الثاني، فضلاً عن صعوبة تكرار الشخصية الكاريزمية لخليفة البابا شنودة، ما قد يتسبب في إحداث صراعات داخل الكنيسة، خاصة في ظل صعوبة تحكم البابا تواضروس في مجموع الأقباط على غرار البابا السابق نتيجة زيادة الحراك السياسي؛ وهو ما يؤثر على دور الكنيسة في المستقبل.
ويعد أيضاً الصعود المتنامي لتيارات الإسلام السياسي أحد التحديات التي تواجه الكنيسة، فازدادت مخاوف كل من الأقباط والكنيسة من الدور المنوط القيام به تحت قيادة البابا تواضروس، خاصة أن الأقباط شعروا بالخوف والقلق، في ضوء تواتر الأحداث الطائفية والتصريحات المقلقة والبيانات الغامضة الصادرة عن حركات الإسلام السياسي.
وكلما كان التعامل مع هذه التيارات الإسلامية بصورة متوافقة (الإخوان والسلفيين)، كلما اتسمت العلاقة بينهما في المستقبل بالإيجاب إلى حد كبير، بل ويتوقف على أساسها دور الكنيسة من حيث التدخل في الأمور السياسية من عدمه.
وتعد الانتخابات البرلمانية القادمة أحد المؤثرات على أوضاع المؤسسات الدينية وحجم مشاركتها في الحياة السياسية، ففي حالة عدم نجاح الإسلاميين في البرلمان القادم، يتوقع البعض بأن يتزايد الدور السياسي في المستقبل للكنيسة، أما في حالة نجاح القوى الدينية الإسلامية في الانتخابات البرلمانية القادمة وحصدها لغالبية المقاعد، يدفع ذلك بتزايد مساحة التقاطع بين الديني والسياسي لمؤسسة الأزهر.