الأقباط لهم البابا هو زعيمهم السياسي ورمزهم الديني، فلماذا لايكون للمسلمين بابا أيضا؟ سؤال قد يستنكر البعض مجرد طرحه، لكن تعلق الأقباط بالبابا والتزام قطاع عريض بآرائه السياسية والدينية وكاريزمته التي يفرضها علي غالبيتهم، ومن ثم قدرته علي حشدهم في مواقف محددة، تدفعنا لطرح ذلك السؤال فعلا، خاصة أن منصب شيخ الأزهر - علي وجاهته وأهميته الكبري في العالم الإسلامي بأسره- فقد جزءا من بريقه وتأثيره علي قطاع من المسلمين. المفكر القبطي الدكتور رفيق حبيب يؤكد أن سبب عدم وجود زعيم ديني للمسلمين في مصر يرجع إلي أن معظم علماء الدين الإسلامي واقعون تحت هيمنة ووصاية الدولة بعكس قساوسة الكنيسة القبطية علي حد قوله، كما أن علماء الإسلام يفتقدون إلي الحرية ومحاصرون حصارا شديدا في حركتهم وأحاديثهم وخطبهم بعكس ما يتمتع به البابا شنودة والقساوسة والكهنة في الكنيسة، كما أن المؤسسات الإسلامية وعلي رأسها الأزهر الشريف واقعة تحت سيطرة الدولة التي تعين شيخ الأزهر ولا تتمتع بالاستقلال المالي والإداري حيث يعتمد الأزهر علي ما تخصصه الحكومة من مخصصات من الميزانية العامة للدولة في ظل مماطلة الدولة في إعادة الأوقاف المملوكة للأزهر، وهو عكس ما يحدث في الكنيسة تماما التي تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، بالإضافة إلي أن معظم الآراء التي تصدر عن علماء الإسلام هي آراء فردية وليست صادرة عن مؤسسة كالكنيسة، وقال حبيب أن الكنيسة مؤسسة أقرب إلي التنظيم الحركي مثل الجماعات الإسلامية وتجمع في عضويتها جميع المسيحيين وتستطيع تحريك الجماهير، أما الأزهر فرغم أنه قادر علي تحريك الجماهير فإنه يختلف عن الكنيسة في أنه يقع تحت السيطرة الشديدة للدولة التي تستطيع فرض قرارات عليه بعكس الكنيسة، وأكد حبيب أن علماء الإسلام يمكنهم الدفاع عن مصالح المسلمين وتحريك الرأي العام إلا أن القمع الذي تمارسه الحكومة يحد من قدراتهم علي القيام بهذا الدور لافتا إلي أن قانون تطوير الأزهر الذي أقره الرئيس عبد الناصر كان السبب في تراجع وانهيار دور المؤسسة الدينية الرسمية بعد أن جعل شيخ الأزهر موظفا في الحكومة بعكس الوضع الذي يتمتع به البابا شنودة والكنيسة القبطية، رغم أن الأزهر كان دائما يقود الجماهير للدفاع عن مصالح الأمة، وقام بدور وطني هام في التصدي للاحتلال. لكن ذلك لم يمنع المفكر القبطي من أن يرصد العديد من القيادات الإسلامية التي ظهرت في المائة سنة الأخيرة والتي تتسم بالجرأة وأن تصدع بالحق وتتبني مطالب الجماهير، مشيرا إلي أن ما يقوم به البابا شنودة حاليا كقائد للأقباط ليس سببه ما يتمتع به من شخصية قوية فقط ولكن يرجع أيضا إلي قوة المؤسسة التي يرأسها، وهو الأمر الذي أعطي البابا القوة ليواجه الدولة ويرفض أحكاماً للقضاء بشأن قضية الطلاق، وهي كلها أمور لو فعلها شيخ الأزهر أو أي شخصية دينية إسلامية لكان مصيره أسود ولتعرض لأعنف بطش من السلطة، أما الكنيسة فقد أصبحت هي المسئولة عن كل ما يخص الأقباط سواء في حياتهم اليومية أو ما يخص شئونهم الدينية حيث تقوم بالدفاع عن مصالح أتباعها بعد أن أصبح دورها ليس مقصورا علي الشئون الدينية وأصبحت تقوم بدور سياسي ويتولي رأس الكنيسة إلي جانب منصبه الديني منصب رئيس الطائفة القبطية الذي يهتم بمصالح أبناء طائفته بغض النظر عن الوضع السياسي العام في البلاد وهو الأمر الذي لا يصب في النهاية في صالح الأقباط، وتحول إلي كارثة بعد أن تحولت الكنيسة إلي كيان سياسي وتحولت الجماعة القبطية إلي طائفة سياسية. أما الدكتور محمد عبد المنعم البري رئيس جبهة علماء الأزهر والأستاذ في الجامعة الأزهرية فقد أرجع سبب عدم وجود شخصية إسلامية تقوم بالدفاع عن مصالح المسلمين وقضاياهم علي غرار الدور الذي يقوم به البابا شنودة تجاه الأقباط إلي أن علماء المسلمين يطبقون نظرية «التقية» المشهورة عند الشيعة إتقاء لشر السلطة وبطشها وتفاديا للسجون والمعتقلات التي هي مصير أي عالم مسلم يفكر فقط في أن يقوم بالدور الذي يقوم به بابا الأقباط، أو يحاول أن يتبني القضايا التي تهم الرأي العام أو يصدع بكلمة الحق في وجه الظلم والطغيان، أما المسيحيون صغيرهم وكبيرهم سواء كان مواطنا عاديا أو قسيسا أو كاهنا فإنه يتمتع بحصانة لا يحلم بها أي عالم من علماء المسلمين، ودلل البري علي ما يقوله بالقول إننا لم نسمع أبدا عن إلقاء أي قسيس في غياهب السجون بسبب مواقفه الدينية أو السياسية، وهو الأمر الذي يعطي للبابا شنودة وغيره من قيادات الكنيسة الجرأة في اتخاذ المواقف القوية للدفاع عن مصالح أتباع الكنيسة والتمسك بمطالبهم حتي لو أدي ذلك إلي الاصطدام بالدولة. أما الدكتور أيمن نور زعيم حزب الغد فقال إنه لو كنا نطبق مبادئ الدولة المدنية والمواطنة لما رأينا ما يحدث اليوم، خاصة أن الدولة المدنية كفيلة بحسم كل المشاكل التي نواجهها اليوم بشكل قاطع وتجعلنا لا نحتاج إلي وجود الأبوة الدينية سواء علي الجانب المسيحي أو الجانب الإسلامي خارج حدود الدين والشعائر لأن الأبوية خارج النطاق الديني تتنافي تماما مع الدولة المدنية التي يمكنها حل كل المشاكل التي تواجه مصر. في حين يذهب الشيخ السيد عسكر الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية الأسبق للقول بأن الحكومة تمنع وتضطهد وتتآمر ضد أي رجل دين مسلم قوي، وضرب عسكر المثال بنفسه قائلا: «أنا شيخ أزهري وتعرضت للاعتقال والسحل من جانب الأمن في شوارع طنطا وقدمتني الحكومة إلي المحاكم العسكرية، في الوقت الذي لا تستطيع الحكومة أن تفكر حتي في اعتقال أي قسيس ولا أقول تقديمه للمحاكمة العسكرية مهما بلغ به الشطط». وطالب الشيخ عسكر الحكومة بأن تعيد للأزهر أوقافه أسوة بالكنيسة وأن يتم انتخاب شيخ الأزهر من هيئة كبار العلماء والتوقف عن قيام الدولة باختيار أحد الشيوخ الموالين لها وتعيينه شيخ لهذه المؤسسة الدينية المهمة، وشدد علي ضرورة أن تتوقف الدولة عن محاربة الأزهر وشيوخه وقمع أصوات علماء الإسلام، وإخراج القانون الخاص باستقلال الأزهر من الأدراج. أما المفكر اليساري والقيادي في حزب التجمع عبد الغفار شكر فقال إن هناك العديد من الشيوخ والعلماء المسلمين من هم لديهم القدرة علي قيادة المسلمين والدفاع عن قضاياهم وتبني مشاكلهم مثل الدكتور يوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري والدكتور سليم العوا، مشيرا إلي أن شخصية مثل القرضاوي تملك من المؤهلات والقدرات التي تجعلها قادرة علي قيادة الأمة وكان من الأحق بتولي مشيخة الأزهر إلا أن ذلك لم يحدث ولن يحدث في المرحلة الحالية علي الأقل لأن الحكومة لن تسمح بأن يكون علي رأس المؤسسة الأزهرية شخصية بوزن القرضاوي أو غيره من العلماء الذين يتمتعون بثقة الجماهير، أما علي مستوي المؤسسة الدينية الرسمية فلن تستطيع أن تقوم بهذا الدور بسبب تبعيتها للدولة التي لن تسمح بخروج المؤسسة الأزهرية عن الخط العام الذي تتبناه الدولة، وقال شكر إن الظروف السياسية والاجتماعية والإقتصادية ساهمت في وجود الوضع الطائفي الحالي للكنيسة وبابا الأقباط، بالإضافة إلي غياب الديمقراطية وتزوير الانتخابات وعدم وجود حريات وهو ما ادي إلي عزلة الأقباط وانكماشهم علي أنفسهم وأصبحت الكنيسة والبابا الملاذ الأول والأخير لهم وهو ما تتحمل مسئوليته الدولة خاصة وأن هذه الظروف أدت إلي ظهور التيار المتشدد والتعصب الديني والطائفي بين الجانبين المسلم والمسيحي. ويتفق الدكتور محمد المختار المهدي رئيس الجمعية الشرعية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف مع الكثير مما ورد في الآراء السابقة وقال إن البابا شنودة يقوم بهذا الدور باعتباره مدافعا عن أقلية وسط أغلبية مسلمة، وقال مختار المهدي: إن المسلمين أصبحوا بدون بابا منذ انهيار الخلافة الإسلامية في عشرينيات القرن الماضي حيث كان خليفة المسلمين هو البابا لكل المسلمين وهو ما ظهر جليا وبوضوح حين أرسل الخليفة المعتصم جيوشه بعد أن استغاثت إمرأة مسلمة وصاحت قائلة «واامعتصماه». في نفس السياق أكد الدكتور عمار علي حسن رئيس وحدة الأبحاث بوكالة أنباء الشرق الأوسط أن ثقافة الأقليات هي السبب في التصرفات التي يقوم بها البابا شنودة، مؤكدا أن الأقليات الإسلامية في تايلاند والفلبين وحتي فرنسا وألمانيا وغيرها من البلدان غير الإسلامية يتصرفون بهذه الطريقة وإن كان بصورة أقل كثيرا مما يقوم بها البابا شنودة حيث يلتف المنتمون للأقليات الإسلامية حول من يختارونه زعيما لهم لينوب عنهم في توصيل مطالبهم للسلطة، ليس هذا فقط بل إن المسلمين في تركيا بعد أتاتورك كانوا يتصرفون بمنطق الأقلية وكانوا دائما يبحثون عن زعامات علي غرار البابا شنودة، وقال عمار إن الأغلبية دائما لديها ثقة في وجودها وفي قدرتها في آخر المطاف علي انتزاع القرار السياسي في حين أن الأقلية تبحث دائما عن الزعيم الذي يقودها، والمسألة ليس لها علاقة علي الإطلاق بالبحث عن الزعامة في الجانب المسيحي الذي يأمره دينه بالزهد في الزعامة وترك ما لقيصر لقيصر بعكس الدين الإسلامي الذي يسعي للزعامة السياسية، ويؤكد عمار أن قضية زعامة البابا شنودة للأقباط ليس لها علاقة بشخصيته أو كونه يتمتع بكاريزما ولكن المسألة تتعلق بالسلطة السياسية في مصر التي لا تنزعج أو تقلق من ظهور أي زعامة سياسية بين الأقلية المسيحية، خاصة أن السلطة واثقة من قدرتها وقدرة أجهزة الدولة في النهاية علي التعامل مع الأقلية بعكس الأغلبية التي لو افترضنا أنها أنتجت زعامة كبيرة فإن السلطة لن تسكت علي هذا وستصاب بالقلق الشديد لأن وجود زعامة قوية تقود الأغلبية هو أمر من شأنه أن يهدد سلطة الدولة، كما أن هذا الوضع الذي يعيشه الأقباط هو وضع استثنائي في تاريخ الكنيسة نتيجة ظهور موجات متشددة من التطرف الإسلامي والذي تسبب في تشدد آخر علي الجانب المسيحي بالإضافة إلي غياب المشروع السياسي لنظام الرئيس مبارك بعكس ثورة 1919 التي تبنت مشروع الاستقلال والدستور، وكان نظام الرئيس عبد الناصر متبنيا للمشروع العروبي. وتوقع عمار علي حسن بأن مرحلة ما بعد البابا شنودة ستشهد تراجعا لهذه الظاهرة وسيتراجع التشدد خاصة إذا تبنت الدولة المصرية مبادئ الدولة المدنية، وعن سبب عدم وجود شخصية إسلامية تستطيع قيادة الجماهير والدفاع عن مصالحها أرجع عمار السبب إلي وجود أكثر من مؤسسة إسلامية تتنازع وتتنافس مع الأخري علي قيادة المسلمين بعكس الأقباط الذين تمثلهم جميعهم الكنيسة، في حين نجد علي الجانب الإسلامي الإخوان والصوفية والسلفيين ينازعون الأزهر علي زعامة المسلمين وهو الأمر الذي أضعف المسلمين وجعلهم منقسمين، إلا أن عمار عاد وأكد أن الشيخ الشعراوي كان يمتلك المؤهلات القوية التي تجعله قائدا وزعيما سياسيا للمسلمين إلا أن الشعرواي كان زاهدا في هذا الأمر، كما كانت السلطة تهاب الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق وتعمل له حساباً، وأن الشيخ يوسف القرضاوي أفضل شخص يصلح ليس فقط لقيادة المسلمين في مصر بل لقيادة جميع المسلمين في العالم وهو الوحيد الذي يمكن ان يكون الزعيم السياسي والروحي للمسلمين خاصة وأن آراءه وفتاويه لها تأثير خطير وتحدث دويا بين الناس ويحظي بثقة عالية من المسلمين، إلا أن القرضاوي لا يحظي بالقبول أو الترحيب من السلطات المصرية ويعاني من القيود في الحركة سواء في قطر أو في مصر. أما الدكتور ناجح إبراهيم منظر الجماعة الإسلامية وعضو مجلس الشوري بها فأكد أن افتقاد الشعب المصري الشخصية الإسلامية السنية الجامعة التي يلتف حولها الناس يرجع إلي عدة أسباب حددها في النقاط التالية: وفاة عدد كبير من العلماء العظام مثل الشيخ الشعراوي والغزالي في السنوات الماضية.. وسبق موتهم عملية تحجيم لدورهم.. وتقليص كبير لنشاطهم في الجامعات والمساجد والمحافظات بالإضافة إلي وفاة الأزهر إكلينيكيا ً طوال فترة تولي الشيخ سيد طنطاوي للمشيخة، وأشار ناجح إبراهيم إلي نقطة مهمة أخري وقال إن تعصب كل فريق من الإسلاميين لشيوخهم وقادتهم.. وعدم قبول قيادته من غيره تمثل مشكلة كبيرة، فالأزهريون يتعصبون للأزهر.. والإخوان لقادتهم.. والجماعة الإسلامية لشيوخهم.. والسلفيون لشيوخهم.. والصوفية لشيوخهم.. ولن يكون لنا قائد عظيم بيننا إلا إذا ترك كل منا تعصبه لشيوخه وعلمائه.