على مقربة من جامعي السلطان حسن والرفاعي يقبع على ربوة مسجد صغير ، ورغم ضآلة الحجم والمساحة ( 178 مترا ) مقارنة بهرم مصر المملوكية (جامع السلطان حسن ) ونسخته المقلدة في بداية القرن العشرين (جامع الرفاعي) إلا أن المسجد الصغير يتباهي بجماله ودقة تفاصيله وتبادل الألوان على حجارة الواجهة ما بين اللونين الأحمر والأبيض ، وعبقرية المهندس المصري الذي استطاع أن يستفيد من كل سنتيمتر لينشئ مسجدا بديعا وسبيل ومدرسة في تناسق بديع يتفق مع الدقة التي اشتهرت عن صاحب البناء.. جوهر اللالا. واللالا كلمة فارسية تعني المربي ، ونال جوهر هذا اللقب بعدما حظي بثقة السلطان المملوكي برسباي . وجوهر حبشي الأصل ، ولا تخبرنا المراجع التاريخية عن تفاصيل حياته وهو صغير ، وكيف وقع في ربق العبودية ، إنما يقول عنه عمدة مؤرخي العصر المملوكي المقريزي تلك الجملة القصيرة "وأصله من خدام الأمير بهادر المشرف ، قدم به من مكة صغيرا ، وأعطاه لأخته زوجة الأمير جلباب الحاجب (الحاجب هو الذي يتولي إدخال الناس على السلطان) ، فربي عندها ، وأعتقته ، ثم خدم الأمير برسباي الدقماقي في أيام المؤيد شيخ ".
ارتبط جوهر في صعوده وهبوطه بالأمير برسباي ، وشهد معه تقلب الأيام والليالي في دولة المماليك البرجية ، التي كانت أيام أمرائها كموج البحر ، يرتفع كالجبال ويهبط كالوديان ، فالأمير الذي يحظي بثقة السلطان يرتقي عاليا ، فهو أمير عشرة (أي أميرا على عشرة من المماليك يقوم على أمرهم ) ، ثم أمير مائة ، وأمير ألف ، وأمير أخور (أي المشرف على الخيول ) ، ورأس نوبة الأمراء (المشرف على أمور كل أمراء السلطنة ) .. أما لو تغير عليه خاطر السلطان ، وتلك الجملة القصيرة " وفي يوم كذا تغير عليه خاطر السلطان.. " استخدمها المؤرخ ابن إياس – صاحب كتاب بدائع الزهور – ليدل على انقلاب حياة الأمير رأسا على عقب ، وتغير خاطر السلطان قد يتم لأسباب هينة أو استنادا على حقائق عن مؤامرة يحيكها .. المهم أن خاطر السلطان تغير ، فينال المغضوب عليه النقمة ، ويوضع في الأغلال ، وتصادر ثروته ، ويُقتل أو يرسل إلى سجن الإسكندرية الرهيب.
ولمعرفة جوهر عن قرب لابد أن نمر أولا على مسيرة صعود الأمير برسباي. تحكي صفحات التاريخ أن والد برسباي كان من أقل أهل بلاده قدرا وأشدهم فقرا ، حتى لقد دفع ابنه ليعمل عند حداد ينفخ الكير ، ثم مات والده ، فتزوجت أمه ، فباع زوجها الصغير ، وتنقل بين الأيدي حتى جاء إلى مصر ، فابتاعه الأمير دقماق ، فعرف منذ ذلك الحين ببرسباي بالدقماقي. وأنزله حاكم مصر آنذاك السلطان الملك الظاهر برقوق (حاكم مصر في الفترة من 1382 وحتى 1399 ) في جملة مماليك الطباق بالقلعة ، ثم أخرج له قبل موته خيلا ، وأنزله من الطباق وقد أعتقه. وارتقي برسباي في مسيرة الصعود إلى كرسي السلطنة في عهد السلطان المؤيد شيخ (1412- 1421) ، فلما مات المؤيد قام الأمير جقمق نائب الشام بالقبض عليه ، ثم أفرج عنه الأمير ططر ، وأنعم عليه بإمرة ألف.. لكن برسباي لم يحفظ الجميل لططر.
كان المماليك لا يؤمنون بمبدأ وراثة العرش ، وإنما كان قانونهم "الحكم لمن غلب ". ولهذا حينما ثقل المرض على ططر ، بعدما تسلطن على العرش لمدة 94 يوما ، أوصي برسباي بأن يحفظ ابنه محمد الذي يبلغ عشر سنوات ، ويعاونه في إدارة شئون البلاد ، وبالطبع وافق برسباي مضمرا أمرا في نفسه. وارتقي محمد العرش ولقب السلطان الطفل بلقب لم يقدم شيئا ليستحقه ، فكان يسبق اسمه السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد ، واستمرت هذه المسرحية أربعة أشهر وثلاثة أيام كان فيها برسباي يمهد طريقه للوصول إلى العرش.
يقول المقريزي في كتابه "السلوك": وكان في هذا موعظة وذكري لأولي الألباب ، فإن الملك المؤيد شيخ هو الذي أنشأ ططر وآواه بعدما كان مطاردا في زمن السلطان فرج ، وما زال يرقيه حتى صار من أكبر أمراء مصر ، وائتمنه على ملكه ، ومساعدة ابنه أحمد الذي حكم مصر بعد وفاة والده عام 1421 ، فتنكر ططر لأستاذه وعزل ابنه. ودارت الأيام دورتها وها هو برسباي يعزل ابن ططر.. "مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ".
حقق برسباي حلمه ، وحكم مصر مدة سبعة عشر عاما ، قضي فيها على الفتن ، وأشاع الأمن ، وضم قبرص إلى أملاك مصر.. وإلى جانب ذلك رواده حلم توريث عرش مصر لأبنه من بعده ، ولإعداده اعتمد على جوهر الحبشي ، الذي ارتبط به منذ كان أميرا صغيرا ولم يتخل عنه في محنته حينما دخل السجن ، لذلك لم يجد برسباي أفضل من جوهر ليعهد له بتربيه ابنه العزيز يوسف. كان جوهر يتمتع بصفات "الجنتلمان" في زمنه. يصفه المؤرخ بن تغري بردي بأنه كان نظيفا يبالغ في التأنق والجمال في ملبسه ، محبا للنظام وضبط الأمور بدقة بالغة ، وفوق هذا النظام الصارم كان محبوبا من العامة ، إذ كان صاحب مروة وشهامة ، لا يمانع في قضاء حوائج الناس عند السلطان وكبار رجال الدولة. كما رفض جوهر أن يستغل صلته بالسلطان في تحقيق ثروة طائلة وامتلاك ضياع واسعة ، بل كان نظيف اليد ، متحرجا من المال الحرام ، فصار يذكره الجميع بالسيرة الحسنة الحميدة.
ولحبه الخير والعلم أنشأ مكتبا لتعليم أيتام المسلمين القراءة والكتابة ، على أن الدقة المعروفة عنه لم تفارقه ، فقد وضع شروطا للانضمام إلى الكتًاب والمدرسة ، ومنها أن لا يكون الأيتام قد بلغوا الحلم ، ومن بلغ منهم يستبدل بيتيم غيره ، أما إذا ختم اليتيم القرآن قبل البلوغ وأراد الاشتغال بالعلم أجيب إلى طلبه على أن يصرف له المبلغ المقرر حتى يبلغ الحلم.
وحينما أراد جوهر أن يبني الكتًاب والمدرسة بحث عن أرضا قريبة من القلعة ، فاستقر على ربوة عالية من الكتلة المنفصلة عن جبل المقطم ، ورغم عدم انتظام شكل الأرض إلا أن المهندس المصري العبقري استطاع أن يحصل منها على مسجد يضم أربعة ايوانات ، إلى جانب كتًاب ومدرسة ، وقبة يرقد تحتها جوهر اللالا.
المسجد يبعد عن جامع الرفاعي بأمتار قليلة ،" وتتميز واجهته بذلك التنوع ما بين اللون الأحمر والأبيض ، والذي تعرفه العمارة الإسلامية بنظام "الأبلق". والباب الرئيسي للمسجد مغلق حاليا ، واستبدل به باب صغير في جانب المسجد. ويغطي الصحن سقف خشبي تتوسطه شخشيخة. وإيوان القبلة مستطيل ، وكسيت جدرانه بوزرات من الرخام ، وفوق المحراب توجد طاقية من الجص تحمل نجمة داود ، كما يعلو المنبر شباك جصي معشق بالزجاج الملون ، وحينما أطفئت أنوار المسجد بعد الفراغ من الصلاة بدا في غاية الروعة والجمال.
وجاءت نهاية جوهر اللالا مؤلمة ، إذ تسلطن بعد وفاة برسباي ابنه العزيز يوسف ،" لكن الأمير جقمق عزله مثلما عزل برسباي ابن ططر ، فكما تدين تدان. ونكل السلطان الجديد بكل المقربين من السلطان المعزول ، وكان منهم جوهر اللالا الذي صودرت أمواله وألزمه بدفع مبلغ 30 ألف دينار ، فباع جوهر ما يملك حتى يستطيع أن يفتدي نفسه. وعاش بقية أيامه حزينا يكابد تعسف جقمق حتى توفي سريعا في الثالث والعشرين من جمادي الأولي عام 842 هجريا.