الرئيس السيسي: محطة الضبعة النووية حلم يتحقق اليوم    جامعة المنصورة تحصد المركز الثاني بين الجامعات المصرية في تصنيف QS العالمي    وزير الري يلتقي عددا من المسؤولين الفرنسيين وممثلي الشركات على هامش مؤتمر "طموح إفريقيا"    عاجل- تحركات جديدة في أسعار الذهب اليوم.. عيار 21 يسجل 5445 جنيهًا    وزير الإنتاج الحربي يشهد مراسم توقيع مذكرة تفاهم لتصنيع المحركات الكهربائية    نقابة الفلاحين تنعي وفاة عاملة بإحدى المزارع، وتطالب بتوفير حماية اجتماعية للعمالة الزراعية    سرايا القدس تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي بعبوة ناسفة في جنين    مصر وروسيا.. شراكة استراتيجية مزدهرة ب6.6 مليار دولار تجارة و467 شركة روسية في مصر    رونالدو ينافس بنزيما على جائزة جلوب سوكر 2025    الأهلي يحصل على الموافقات الأمنية لحضور 30 ألف مشجع في مواجهة شبيبة القبائل    إنقلاب شاحنة محملة بمواد محجرية بطريق السويس    الإعدام والمؤبد ل 4 عاطلين.. قتلوا شابا لخلافهم على قيمة المخدرات    ارتفاع درجات الحرارة.. الأرصاد الجوية تحذر من تغير حالة الطقس    600 ألف جنيه، إيرادات السادة الأفاضل أمس    تامر حسني يكشف تفاصيل أزمته الصحية بعد خضوعه لجراحة دقيقة في ألمانيا    نورا ناجي عن تحويل روايتها بنات الباشا إلى فيلم: من أجمل أيام حياتي    الصحة: 5 مستشفيات تحصل على الاعتماد الدولي في مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    ما هو فيروس ماربورج وكيف يمكن الوقاية منه؟    الصحة: 5 مستشفيات مصرية تحصل على الاعتماد الدولي في مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات.. و3 منها مراكز تميز عالمية    بسبب تراجع الانتاج المحلى…ارتفاع جديد فى أسعار اللحوم بالأسواق والكيلو يتجاوز ال 500 جنيه    القادسية الكويتي: كهربا مستمر مع الفريق حتى نهاية الموسم    الزمالك يستقر على موعد سفر فريق الكرة لجنوب أفريقيا    هشام يكن: أطالب حسام حسن بضم عبد الله السعيد.. وغير مقتنع بمحمد هاني ظهير أيمن    السياحة العالمية تستعد لانتعاشة تاريخية: 2.1 تريليون دولار إيرادات متوقعة في 2025    وزير الإسكان يستقبل محافظ بورسعيد لبحث استعدادت التعامل مع الأمطار    وزارة التضامن تقر حل جمعيتين في محافظة الغربية    مقتل 6 عناصر شديدى الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه فى ضربة أمنية    ضبط 3 متهمين بقتل شاب لخلافات بين عائلتين بقنا    مصرع 3 شباب في تصادم مروع بالشرقية    وزارة الصحة تغلق 11 مركزًا غير مرخص لعلاج الإدمان بحدائق الأهرام    حزب الجبهة: متابعة الرئيس للانتخابات تعكس حرص الدولة على الشفافية    الدفاع الروسية: قواتنا استهدفت منشآت البنية التحتية للطاقة والسكك الحديدية التي تستخدمها القوات الأوكرانية    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته فى فعاليات معرض "دبى الدولى للطيران 2025"    نجاح كبير لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة فى طوكيو وتزايد مطالب المد    تعرف على أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مجددا.. ترامب مهاجما مراسلة بسبب جيفري ابستين: أنت سيئة .. فيديو    جلوب سوكر 2025.. إنريكي ينافس سلوت على جائزة أفضل مدرب    محافظ المنوفية: إزالة 296 حالة مخالفة ضمن المشروع القومى لضبط النيل    إقبال واسع على قافلة جامعة قنا الطبية بالوحدة الصحية بسفاجا    بريطانيا تطلق استراتيجية جديدة لصحة الرجال ومواجهة الانتحار والإدمان    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    منال عوض تترأس الاجتماع ال23 لصندوق حماية البيئة وتستعرض موازنة 2026 وخطط دعم المشروعات البيئية    المايسترو هاني فرحات أول الداعمين لإحتفالية مصر مفتاح الحياة    مهرجان مراكش السينمائى يكشف عن أعضاء لجنة تحكيم الدورة ال 22    حريق هائل يلتهم أكثر من 170 مبنى جنوب غرب اليابان وإجلاء 180 شخصا    اليوم.. أنظار إفريقيا تتجه إلى الرباط لمتابعة حفل جوائز "كاف 2025"    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    «اليعسوب» يعرض لأول مرة في الشرق الأوسط ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.. اليوم    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محطة فى عذابات مصر والمصريين .. السجن الذى أصبح مسجداً
نشر في المصري اليوم يوم 09 - 09 - 2009

إذا ذهبت إلى شارع الغورية، مشيت فيه، وقبل أن تقترب من نهايته، ستطالعك مئذنتان رشيقتان، تقومان فى الفراغ، لا تعلوان فوق مسجد، إنما فوق باب زويلة أحد أبواب القاهرة القديمة، ومحافظة القاهرة كانت تتخذ من الباب والمئذنتين شعاراً.
تبدو المئذنتان رشيقتين، كأنهما حارسان غامضان على الماضى البعيد، وكنوزه.. كأنهما ترقبان المارة من تحت البوابة، والرجال والنساء، والأطفال، ترصدان ما جرى وما حدث خلال ما يقرب من خمسمائة وستين سنة.. عمر تواجدهما هنا.
هاتان المئذنتان تنتميان إلى مسجد المؤيد شيخ المحمودى، الذى يقع بجوار باب زويلة، وربما تبدو المئذنتان والمسجد، وما رآه من أحداث عندئذ ستدب الحياة فى الحجارة، ستنطلق ذرات التراب، وتقطر دما.. إذن لنبدأ الرحيل، مع تاريخ واحد من أجمل المساجد.
«حدث فى أوائل القرن الثالث عشر الميلادى، أن وقعت فتنة كبيرة فى القاهرة بين المماليك، وكانت الفتن كثيرة الحدوث وقتئذ، تعودها الناس، فلا يخلو شهر من تمرد بعض المماليك فى القلعة، ونزولهم إلى الأسواق يخطفون ما بها من أطعمة وبضائع وثياب، وعمائم للناس، وأحياناً كانوا يخطفون النساء والغلمان، ليفعلوا بهم الفاحشة، كل هذا لإثارة الاضطراب والذعر.
ولكن فتنة الأمير منطاش كانت من الفتن الكبيرة فى عصر السلطان الناصر برقوق، وقد ذكرها مؤرخو العصر كعلامة بارزة أمثال المقريزى، وابن إياس، وابن تغرى بردى، وابن حجر.
المهم أن الأمير منطاش قبض خلال هذه الفتنة على العديد من المماليك التابعين للسلطان الظاهر برقوق وكان بين هؤلاء المماليك واحد يقال له شيخ المحمودى.
كان شيخ المحمودى وقتئذ رجلاً ناضجاً، جاء إلى مصر وعمره اثنا عشر عاماً، وعرضه تاجر الرقيق على الأمراء فلم يشتروه لأن التاجر طلب ثمنا غاليا فيه، ولأنه جميل الصورة، هادئ الطباع، اشتراه الخواجه محمود شاه البزددارى تاجر المماليك، ولأن التاجر تعامل مع تاجر، فكان الثمن الذى دفعه الخواجه محمود يسيراً، ثم قدمه هدية إلى الأمير برقوق قبل أن يتسلطن، وبرغم هذا استمر ينسب المحمودى إلى الخواجه، إذ إن المماليك كانوا ينسبون لأسيادهم.
نتابع المملوك شيخ المحمودى، فنراه يتدرج فى التعليم، القراءة والفقه والفروسية، واللعب بالرمح، ورمى النشاب، والضرب بالسيف والمصارعة، وأتقن هذا كله، حتى أصبح أميراً على عشرة مماليك، وعندما وقعت فتنة منطاش أمسكه وقيده فى الحديد، وأرسله إلى واحد من أبشع سجون مصر وقتئذ.
سجن شمائل
لنقف قليلاً تحت بوابة زويلة، يمتد سور الجامع المرتفع بحذاء البوابة، فى اتجاه باب الخلق، حتى ليبدو وكأنه جزء من سور القاهرة القديم، بينما يمتد ضلعه الشرقى مطلاً على شارع الغورية، حيث بوابة المسجد هنا، فوق هذه الأرض التى يقوم فيها المسجد، كانت توجد بعض مبان عتيقة، أهمها سجن قديم، اسمه «خزانة شمائل».
إلى هذا السجن الفظيع دفع بالأمير شيخ المحمودى، وضعوه فى إحدى الحفر القذرة، قيدوا يديه وساقيه وعنقه بسلاسل حديدية مثبتة فى الحائط، وكان الظلام كثيفاً، والروائح كريهة، وربما تأمل شيخ فى حالة المماليك وقتئذ، لا يأمن واحد منهم على نفسه، مهما علا قدره، مهما تولى من المناصب، فى لحظة فى إغماضة عين، ربما تقطع رقبته، أو يلقى فى السجون.
ربما فكر فى أمور من هذه، لكن تفكيره لم يستمر طويلاً، والسبب يذكره لنا المقريزى:
«فى السجن قاسى الأمير شيخ المحمودى من البق والبراغيث شدائد، فنذر لله تعالى إن تيسر له ملك مصر أن يجعل مكان هذه البقعة مسجداً لله عز وجل، ومدرسة لأهل العلم».
ولم يمض الكثير، حتى فشلت فتنة الأمير منطاش (أو مؤامرة بلغة عصرنا) وخرج الأمير شيخ المحمودى، تقلب فى مناصب عديدة، كما قاسى محنا وشدائد استغرقت من عمره وقتاً، ولكنه بالتأكيد لم ينس نذره الذى تعهد به، وهو أن يجعل مكان السجن الرهيب مسجداً.
السلطنة
محدثنا الآن، هو المؤرخ المصرى الفنان العظيم، الشيخ أبوالبركات محمد أحمد ابن إياس الحنفى المصرى، لنستمع إليه راويا ما يجرى فى عام 815 هجرية (1412 ميلادية).
«فى يوم الاثنين، أول شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة، تولى الأمير شيخ المحمودى الملك بالمقعد الذى بباب السلسلة، فكان أول من بايعه من العلماء جلال الدين البلقينى ثم قدمت إليه خلعة السلطنة، وهى جبة سوداء مطرزة، وعمامة سوداء وتلقب بالملك المؤيد».
وفى بداية عهده، وقعت عدة اضطرابات، إذ إن مصر شهدت وقتئذ طاعوناً جارفاً، من أشد الطواعين التى رأتها مصر، حتى هذا التاريخ كان الناس يتساقطون فى الطرقات، حتى إن الواحد قبل خروجه من بيته كان يكتب اسمه على ذراعه، ليعرفه الناس إذا مات فى الطريق، حتى الطيور فى السماء، والحيوانات أدركها الطاعون، ولم يكن الطاعون غريباً عن الناس فى هذا العصر، كان أجدادنا يقاسون منه كل عام تقريباً، حتى صارت له مواعيد فى الظهور، ووقت معين يبلغ فيه حدة لا حدة بعدها.
وعندما اشتد أمر هذا الطاعون، خرج السلطان المؤيد شيخ إلى الصحراء خارج القاهرة، وصلى عارى الرأس فوق الرمال، وانحنى باكيا، متضرعاً إلى الله كى يزيل الغمة والوباء عن الناس، وقدم قرباناً.
مشهد رهيب، وصفه لنا ابن إياس، يرسم لنا صورة مؤثرة للعجز الإنسانى فى مواجهة الكوارث التى يحار فى فهم أسبابها وعلاجها أيضاً صورة لسلوك الراعى المسؤول عن رعيته، هذا السلطان المملوكى الذى يخرج إلى الصحراء، ويمرغ نفسه فى التراب، ليزيل الله الآلام عن شعبه.. وتسجل كتب التاريخ العديد من الأعمال التى تتسم بالرحمة والتى قام بها المؤيد شيخ.
المسجد
بعد ثلاث سنوات من تولى المؤيد سلطنة مصر، شرع فى بناء مسجده الكبير، فبدأ بهدم سجن شمائل، وبعض المبانى المجاورة له، وهنا يجب رصد ملحوظة مهمة، وهى إقدام كل حاكم مصرى على تشييد بناء معمارى ضخم ينسب إليه، لا يقتصر الأمر على سلاطين المماليك الذين شيد كل منهم مسجداً، يتراوح فى حجمه وفخامته تبعاً لطبيعة حكم السلطان، من حيث استقراره فى الحكم مدة طويلة، وحالة البلاد وشخصيته، ألا يذكرنا هذا بفراعنة مصر العظام، عندما كان الفرعون يقدم على تشييد بناء معمارى ضخم، يقهر به الفناء ويضمن الخلود، سواء كان البناء هرماً مدرجاً، أو هرماً أكبر، أو معبداً ضخماً، أو بهو أعمدة فى معبد أو لوحات فنية دقيقة تنقش فى الصخر أو مسلات تقتطع من بطن الجبل، خاصة إذا لاحظنا أن الأهرامات فى حقيقتها مقابر ضخمة، أبنية حجرية شيدها الإنسان المصرى ليقهر الفناء بالمادة.
والمساجد التى أقامها
والمساجد التى أقامها سلاطين المماليك وأمراؤهم تضم مقابرهم أيضاً، وعندما ندخل من الباب الرئيسى لمسجد المؤيد، تطالعنا تربته الرخامية قبل وصولنا إلى الإيوان الرئيسى للجامع، وبجواره تربة ابنه إبراهيم وفى الجهة القبلية غرفة أخرى للدفن، بها زوجة السلطان وابنته، وكأن الداخل إلى المسجد إنما يجسد الموت، وبدخوله الإيوان تبدو له الحياة رحبة، فسيحة، مشبعة بالضوء والخضرة، وكأنه الفرج بعد الضيق، أو الحياة بعد الموت.
وفوق مدفن السلطان المؤيد تقوم قبة حجرية شاهقة العلو، تنتصب الجدران فى شموخ رهيب، غامض، كأن السلطان المؤيد يغالب الفناء، يوجد لنفسه موقعاً فى عصور تلت عصره، تلاشى قبل أن يلحق بها.
هنا، تحت هذه القبة الشاهقة، حيث المادة، حيث الروح والجسد، كل ما ينطق به الإعجاز المعمارى، هنا تبدو قدرة مصر على فرض مضامينها الروحية، حتى على الأجانب الذين يحكمونها، انضموا إلى جانب المصرى فى صراعه الأبدى القديم ضد الفناء، ومحاولته أن يضمن الخلود.
ولأن الحاكم قدراته أكبر، وإمكانياته أوسع، فقد لجأ إلى جميع ما يمكنه لتحقيق ما يهدف إليه، وهذا ما فعله السلطان المؤيد شيخ.
المسجد الحرام
يقول ابن إياس:
«فلما بنى السلطان هذا الجامع حصل للناس بسببه غاية الضرر..».
صورة غريبة يقدمها لنا ابن إياس، إذ كان المؤيد يقصد بناء بيت من بيوت الله، تشييد مسجد فلماذا يحدث الضرر بالنسبة للناس؟ لقد كان الأسلوب المملوكى فى الحكم المتسم بالتعسف والظلم، يتسرب إلى أعمال الخير أيضاً.
كان بناء المسجد يحتاج كمية كبيرة من الرخام، لهذا صار والى القاهرة يهاجم بيوت الناس ويخلع منها الرخام غصباً، وهنا لندع ابن إياس مرة أخرى يتحدث:
«وصار المؤيد يكبس الحارات التى بها بيوت المباشرين، وأعيان الناس بسبب الرخام وكان التاج والى القاهرة يهجم على الناس فى بيوتهم، ومعه المرخمون (عمال الرخام) فيقلع رخام الناس طوعاً أو كرهاً، وأخرب دوراً كثيرة، وباب السلطان حسن الذى خلعه، جعله على باب جامعه، وأخذ التنور الكبير النحاس «النجفة» منها أيضاً، ودفع فى الباب والتنور خمسمائة دينار.
فكان ما قيل فى المعنى:
بنى جامعاً لله من غير جله
فجاء بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها
فليتك لا تزنى ولا تتصدق
سيدى إبراهيم
فى ربيع الآخر، عام 823 هجرية..
طلع أحد الموظفين الكبار إلى السلطان، وأخبره أن الأمراء يرغبون فى إقامة ابنه إبراهيم سلطاناً بدلاً منه، بعد أن حقق انتصارات كبيرة على بعض المتمردين فى بلاد الشام واقترح على مؤيد شيخ أن يتخلص من ابنه، وفعلاً قام السلطان بدس السم له فى الحلوى، وكان السم من النوع البطىء، فبدأ المرض يحل بابن السلطان وعندما اشتد به ندم مؤيد شيخ على ما فعله، ولكن السهم نفذ، إذ اشتد النزع بإبراهيم، ومات فى ليلته الخامسة عشرة من جمادى الآخرة، فى نفس السنة.
يقول ابن إياس:
«أخرجت جنازته من القلعة، ومشت قدامه الأمراء، وأرباب الدولة، من القلعة إلى الجامع الذى أنشأه والده، ودفن داخل القبة التى به، وقام الخطيب فوق المنبر، وخطب خطبة بليغة، ثم روى الحديث الشريف عن النبى صلى الله عليه وسلم، لما مات ولده إبراهيم عليه السلام فقال:
إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإننا لفراقك يا إيراهيم لمحزونون»، فلما سمع السلطان ذلك، وضع منديله على وجهه وبكى.
بكى السلطان مؤيد شيخ..
وبكى الناس على إبراهيم ابنه..
رقد إبراهيم فى تربته، تحت القبة التى لابد أن تجتازها قبل دخول الجامع، وفى نفس السنة مات السلطان، ودفن إلى جوار ابنه.. والآن نقف أمام مدفنيهما، مدفن السلطان المحاط بسور خشبى، ومدفن إبراهيم الأصغر منه حجماً، قتل الأب ابنه حتى لا يلى الحكم بعده، وجمعتهما هذه الرقدة الأبدية.
جرت العادة فى الدولة المملوكية أن يتم تنصيب ابن السلطان المتوفى، ولو ترك السلطان طفلاً صغيراً فلا بأس من توليه الحكم حتى يجرى حسم الصراع الخفى على السلطة لصالح أمير قوى إما أنه يمت إلى مماليك السلطان الراحل، أو يكون من جماعة أخرى أكثر قوة ونفوذاً.
بعد وفاة المؤيد شيخ حزنا على ابنه الذى قتله بالسم، لم يكن له إلا طفل رضيع، قرر مماليك المؤيد تنصيب الرضيع سلطاناً على مصر، يقول ابن إياس معلقاً:
«وقد ظهر قلة عقل الملك المؤيد حين قتل ولده سيدى إبراهيم، الذى كان كفوا للسلطنة وعهد إلى ولد رضيع».
هذا حدث هو الأول من نوعه، صحيح أن هناك صغار السن تولوا السلطنة ومنهم السلطان حسن بن الناصر محمد صاحب المسجد العظيم، ولكن أن يكون السلطان رضيعاً فهذا لم يحدث من قبل، لنحاول استعادة مشهد تنصيب الرضيع سلطاناً على مصر والشام والحجاز.
وصل الخليفة العباسى الذى أصبح أشبه بموظف عند المماليك وبصحبته القضاة الأربعة، وطلبوا الطفل من الحريم وكان اسمه أحمد، وكان الأمير ططر هو الأقوى، جاء الطفل محمولاً على كتف مرضعته، ورغم صغره إلا أن مراسم التنصيب لابد أن تكون كاملة، فصلوا له عباءة السلطنة على قدر جسده الصغير وألبسوها له، كذلك العمامة السلطانية، واركبوه الفرس السلطانية ومشى الأمراء أمامه، كل هذا وهو فى حجر المرضعة يزعق بالبكاء،
وبين الحين والحين تخرج ثديها وترضعه حتى يسكت، جلس أخيراً على كرسى السلطنة فى حجر المرضعة، وتقدم الأمراء وباسوا الأرض له بينما هو يبكى ويرفس بقدميه ويرضع أحياناً، وطبقاً للتقاليد كان لابد أن تدق فرق الموسيقى العسكرية، بعد تمام التنصيب عزفت التحية فجأة، فاضطرب الطفل اضطراباً شديداً وأغمى عليه وحصلت له رجفة سببت له حولاً فى عينيه،
ويبدو أنه أصيب بصرع لأن هذه الرجفة لازمته حتى موته، طبعاً صار الأمير ططر هو صاحب الحل والعقد، لم تمض إلا أسابيع وفى اليوم المعلوم أرسل الأمير ططر مستدعياً الخليفة والقضاة وأجريت مراسم الخلع والتنصيب، أصبح سلطاناً، وحتى لا يتعصب مماليك السلطان السابق لابن المؤيد، قرر القبض على السلطان الرضيع وأرسله إلى سجن الإسكندرية الرهيب مع مرضعته، وأمضى فيه تسع سنوات ثم مات فيه بالطاعون وهذا من أغرب ما قرأته فى تاريخ مصر التى شهد أهلها العجب والعجوبة، فلندخل إذن إلى المسجد الآن.
الإيوان الكبير
يفاجئنا الاتساع الرحيب، والفضاء الوديع الذى يملأ فراغ المسجد من الداخل، نحن الآن تحت الإيوان الشرقى، تقوم حولنا أعمدة الرخام الجميلة التى تحمل سقفاً مزدحماً بأبدع النقوش الإسلامية.. كان للجامع أربعة إيوانات تحيط بالصحن كلها تخربت، امتدت إليها يد الفناء، ولم يبق إلا هذا الإيوان الشرقى، الإيوان تغمره الزخارف من الأرض حتى السقف، الجدران محلاة بالخزف، والكتابة تغطى السقف.
نقف أمام المحراب، الرخام تكسوه تماماً قطع صغيرة متعددة الألوان وبجوار المحراب منبر خشبى طعم بالعاج والصدف، الإيوان لا يبهر لمجرد عظمة العمارة فيه، العمارة هنا لا تحدث أثراً فى النفس، إنها الرهبة، الخشوع، العمارة هنا تجبرك على قبول دعوة للتأمل، من خارج الشبابيك تأتى أصوات الغورية، كأنها تمر بعدة مرشحات عازلة قبل أن تصل إلى أذنيك، عندما تسمعها هنا، عندئذ تنتمى هذه الأصوات إلى العصر الذى شيد فيه المسجد، يساعد على هذا أن هذه الأصوات بالتأكيد لم تتغير كثيراً عما كان الأمر عليه وقت بناء المسجد، فالعربات والمركبات الآلية لا تمر من شارع الغورية إلا نادراً.
نخرج من الإيوان الشرقى، ليس إلى الخارج، ولكن إلى وسط المسجد، حيث تطالعنا حديقة، خضرتها غريبة، وتلقى الحديقة هنا ظلالاً مهيبة على طبيعة المكان، تجعل للرهبة بعداً آخر.
السكر
وفى صحن المسجد، نرى فسقية، من الرخام بنيت لتكون ميضأة نقترب منها ونحن نذكر حديث مؤرخناً العظيم ابن إياس بعد انتهاء عمارة مسجد المؤيد:
«ثم إن السلطان نزل إلى هناك وأقام إلى بعد العصر وأمر السلطان أن تملأ الفسقية التى فى صحن الجامع سكراً، فملئت، ووقف الأمراء يفرقون السكر على الناس بالطاسات».
مر المسجد بسنوات إهمال، ولكن ظلت مئذنتاه فوق باب زويلة شاهدتين على الجرأة الإبداعية للمهندس العبقرى الذى أقدم على وضعهما فوق باب زويلة، هذا الباب العجيب الذى كان فى مكانه مشنقة مصر، لقد تم ترميم المسجد ضمن مشروع القاهرة التاريخية، ولكن هذا الترميم أفقده شيئاً من روحه التى كنت أشعر بها فى أرجائه رغم الإهمال. والملاحظ أن أعمال الترميم التى تمت بواسطة المجلس الأعلى للآثار جاءت فى غاية الكمال، وأخص منها بالذكر قبة ومسجد المنصور قلاوون، ووكالة بازرعة، أما أعمال الترميم التى تمت بواسطة شركات مقاولات غير متخصصة فتحتاج إلى مناقشة وتقييم ومن أشرف عليها يقضى عقوبته فى السجن الآن، فلنرجئ الحديث حول هذه النقطة ولنتأمل باب زويلة الذى مازال قائماً محتوياً تاريخه الغريب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.