حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    أخبار فاتتك وأنت نائم| حادث انقلاب أتوبيس.. حريق مصنع إطارات.. المرحلة الثانية لانتخابات النواب    أوكسفام: أرباح مليارديرات مجموعة العشرين في عام واحد تكفي لانتشال جميع فقراء العالم من براثن الفقر    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    زوار يعبثون والشارع يغضب.. المتحف الكبير يواجه فوضى «الترندات»    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    ترامب يعلن عن لقاء مع رئيس بلدية نيويورك المنتخب في البيت الأبيض    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    تضرب الوجه البحري حتى الصعيد، تحذير هام من ظاهرة تعكر 5 ساعات من صفو طقس اليوم    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    منى أبو النصر: رواية «شغف» تتميّز بثراء نصّها وانفتاحه على قراءات متعددة    ياسر ثابت: واشنطن تلوّح بضغط سريع ضد مادورو... وفنزويلا مرشّحة لساحة صراع بين أمريكا والصين وروسيا    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    تراجع في أسعار اللحوم بأنواعها في الأسواق المصرية اليوم    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    مهرجان القاهرة السينمائي.. المخرج مهدي هميلي: «اغتراب» حاول التعبير عن أزمة وجودية بين الإنسان والآلة    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    بالأسماء| إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص وملاكي بأسيوط    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    علي الغمراوي: نعمل لضمان وصول دواء آمن وفعال للمواطنين    قليوب والقناطر تنتفض وسط حشد غير مسبوق في المؤتمر الانتخابي للمهندس محمود مرسي.. فيديو    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على باب زويلة تساوى المصريون فى الشنق
نشر في المصري اليوم يوم 10 - 09 - 2009

«.. منذ عشرات السنين فقد باب زويلة أهم وظائفه، فلم يعد يمثل أحد مداخل القاهرة بعد أن اتسعت المدينة، وامتدت مبانى الأهالى خارجها فيما تلا العصر الفاطمى من حقب، ثم بطل تعليق رؤوس المتمردين عليه منذ أوائل القرن الماضى، حتى متولى حسبة القاهرة الذى كان يتخذ مكانا مجاوراً له لم يعد يجلس فى نفس المكان لأن الوظيفة نفسها بطلت منذ القرن الماضى، ولم تترك أثرا إلا على ألسنة بعض الناس الذين نسبوا الباب إلى المتولى، فصار اسمه باب المتولى،
ما بقى لباب زويلة حتى يومنا هذا قيمة مستمدة من عمره الضارب فى الزمن لمدة ألف سنة، وبقايا اعتقاد قديم لدى بعض نساء العامة بأن من لا تحبل، تستطيع أن تدق مسمارا وتعقد عليه بعض الخيوط، عندئذ قد تتحقق أمنيتها، وتنجب ولدا، غير أن باب زويلة مازال يحتفظ بعلامات من الوظيفة التى ظل يمارسها لأطول فترة من الزمن، إنه المكان الذى كانت تعلق عليه الرؤوس، وإذا دققت النظر فقد تلمح بقايا دماء جفت منذ قرون، فى هذا الموضع علقت رؤوس فلاحين فقراء، وأغراب، وأعداء، وسلاطين حكموا مصر.
مع الفتح الفاطمى لمصر جاءت قبائل مغربية عديدة، إحداها كانت تسمى «زويلة» عبدالله المهدى «297 ه - 322 ه - 909 - 933».
وعندما جاءت قبيلة زويلة احتلت جزءا كبيرا من القاهرة، مكان الآن حارة اليهود بشارع الموسكى، إليها ينسب هذا الباب الذى كان أحد ثمانية أبواب أنشأها جوهر الصقلى فى السور الذى أحاط به القاهرة، ويبدو أن باب زويلة كان فى البداية مكونا من جزأين متجاورين، وعندما جاء المعز لدين الله إلى القاهرة مر من أحد القسمين، فتفاءل الناس بذلك، وأهملوا المرور من القسم الثانى، الذى قيل عنه إن من مر منه لم تقض له حاجة، واستمر الأمر حتى سد،
وفى العصر الفاطمى كانت القاهرة مقصورة فقط على سكنى الخلفاء، وكبار رجال الدولة، وكان المواطن المصرى لا يستطيع اجتياز أبواب القاهرة الملكية إلا بتصريح خاص، عاشت أسوار القاهرة التى بناها جوهر الصقلى ثمانين عاما، كانت من الطوب اللبن، ولم تعد صالحة للأغراض الدفاعية، فما أن استوزر المستنصر أمير الجيوش بدر الجمالى حتى أنشأ سورا آخر من الحجر، بعد أن مد مساحة القاهرة بمقدار 150 مترا إلى شمال السور القديم، وحوالى ثلاثين مترا إلى الشرق، ومثلها إلى الجنوب،
ويقول المقريزى: إن بدر الجمالى استعان بثلاثة أشقاء أصلهم من مدينة الرها بشمال العراق فى بناء هذا السور وبواباته، وكان باب زويلة هو البوابة الرئيسية فى السور الجانبى، وهو المتبقى حتى الآن، إلى جانب ثلاث بوابات وصلت إلى عصرنا من البوابات الأصلية، باب الفتوح، بوابة النصر، بوابة البرقية،
ويقول المقريزى: «وقد أخبرنى من طاف البلاد ورأى مدن الشرق أنه لم يشاهد فى مدينة المدائن عظمة باب زويلة، ولا يرى مثل مئذنتيه اللتين عن جانبيه، ومن تأمل الأسطر التى كتبت على أعلاه، من خارجه فإنه يجد فيها اسم أمير الجيوش والخليفة المستنصر، وتاريخ بنائه، وقد كانت المئذنتان أكبر مما هما الآن بكثير، هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ المحمودى الذى بنى الجامع داخل باب زويلة، وعمل على البدنتين منارتين، والمئذنتان قائمتان حتى الآن، خلال العصر الفاطمى لم يستخدم باب زويلة مكانا لتعليق رؤوس المتمردين، لقد كان أحد أبواب المدينة المقدسة ولا تسجل المراجع التاريخية أى حادثة إعدام تمت عند الباب، ويبدو أن طبيعة العصر الفاطمى وما حفل به من استقرار كانت لا تتيح فرصا كثيرة لمظاهر الشنق العلنية،
صحيح أن ثمة اضطرابات عديدة وقعت، وكثير من القتلى راحوا خلال المعارك بين الأطراف المتنازعة، ولكن تعليق الرؤوس بشكل علنى لم يسجله لنا التاريخ كما سيحدث خلال العصور التالية، وإذا رحلنا مع المؤرخ ابن إياس فى كتابه «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» فسنجده يسجل أول حادثة صلب علنية فى النصف من شعبان سنة 665ه، عندما شن السلطان الظاهر بيبرس البندقدارى حملة لإبطال الحشيش، وإضراب الخمارات ومنع العاهرات،
فى تلك الأثناء ظفر والى الشرطة بشخص يسمى ابن الكازرونى، وكان سكران، فأشهره فى القاهرة، وعلق الجرة والقدح فى عنقه، وصلبوه على باب النصر، لم يصلب على باب زويلة، ويبدو أن الصلب كان يتم فى الأماكن الظاهرة للناس دون تخصيص مكان معين لذلك، وأحيانا كان يتم على باب القلعة نفسها كما حدث فى شهر ذى القعدة سنة 778 ه، عندما وقعت فتنة بين الأمراء والسلطان، وتم القبض على خمسة أمراء هم الأمير أرغون شاه، والأمير صرغتمشى، والأمير بيبغا الساقى، والأمير بشتاك الكريمى، والأمير أرغون العمرى الضرير، تم إعدامهم، وعلقت رؤوسهم على باب القلعة، ولكن يبدو أن مثل هذا الشرف لم يكن يحظى به إلا الأمراء، وذوو المراتب والقصد من تعليق رؤوسهم على باب القلعة هو إرهاب الأمراء الباقين، ولا علاقة للشعب بالأمر إذن.. لماذا تعلق الرؤوس على باب النصر أو باب زويلة؟
الخناقة
فى سنة 694ه، وفى يوم عاشر المحرم، ركب جماعة من المماليك تحت الليل، وفتحوا باب سعادة، وهجموا على اصطبلات الناس، وأخذوا خيولهم، فلما طلع النهار أرسل الأمير كتبغا للقبض على من فعل ذلك من المماليك، وقطع أيديهم، وطاف بهم القاهرة، ثم صلبهم على باب زويلة ووسط منهم جماعة «أى قسم أجسادهم بالسيف إلى نصفين، نصف علوى وآخر سفلى» تلك أول حادثة صلب يخبرنا بها ابن إياس فى كتابه، تتم على باب زويلة، ويبدو أننا لن نسمع منذ الآن فصاعدا إلا عن مكان واحدا تتم فيه هذه المهام، هو باب زويلة،
وهكذا أصبح من نصيب هذا الباب أن يكون مقرا للرؤوس المقطوعة، ليبث الذعر والخوف فى النفوس، بينما تجد الباب المقابل له، والذى يقع عند نهاية الطريق، باب الفتوح، يمثل الباب الرسمى للمدينة فعنده تبدأ مواكب السلطان أثناء عودته، أو تنتهى أثناء خروجه، وكان السفراء يقبلون الأرض أمامه ثلاث مرات قبل دخول المدينة متوجهين إلى القلعة، مقر حكم السلطان.
فى سنة 739 ه، ظهرت بالقاهرة امرأة تسمى الخناقة، اشتهر أمرها بين الناس، فكانت تحتال على الأطفال والنساء، وتخنقهم، وتأخذ ما عليهم من الثياب، فلما شاع أمرها، وبلغ السلطان، رسم لوالى القاهرة أن يقبض عليها، فمازالوا يتبعونها حتى قبضوا عليها، وشنقوها على باب زويلة، وفى مثل هذه المناسبة يتجمع الناس للفرجة، ويبلغ الزحام أشده عند باب زويلة الذى يبدو أن اختياره لهذه المهمة تم نتيجة لكثافة حركة الناس عنده، إنه الباب المؤدى إلى أشد مناطق القاهرة ازدحاما، ثم إنه يتوسط مجموعة من الأسواق المتتالية التى لا تخلو من الرواد ليلا أو نهارا ومنه يخرج الناس متوجهين إلى مناطق القاهرة الجنوبية التى كانت عامرة بالناس، كما أن أى متجه إلى القلعة لابد أن يمر به، سواء كان أميرا، أو سفيرا أجنبيا، كان الباب صرة القاهرة، وعنده لم تتوقف الدماء عن التدفق.
القتل ظلما
وكثيرا ما كانت تختفى المأساة وراء بعض الذين عرفت رؤوسهم الطريق إلى باب زويلة، فى رجب سنة 782 ه، أرسل الأتابكى برقوق مرسوما إلى خليل بن عرام نائب الإسكندرية ليقتل الأمير المملوكى بركة الذى كان مسجونا، وعندما انتشرت أخبار القتل ثار مماليك بركة على الأتابكى برقوق، فأنكر برقوق أنه أمر بقتله، وأرسل من أمر بالقبض على خليل بن عرام، نائب الإسكندرية الذى راح يصيح، والله ما قتلته إلا بمرسوم الأتابكى برقوق وقد سرق المرسوم منى، بينى وبينكم الله، لكن أمور السياسة لا تعرف الهزل، ولا مجال كما يبدو للأخلاقيات فيها، لقد أمر برقوق بقتله، فدقت المسامير فى كفيه، وأركبوه على جمل، ونزلوا به من القلعة، وهنا هجم عليه مماليك بركة وقطعوه، وشقوا بطنه، وأخرجوا قلبه، ثم علق ما بقى منه على باب زويلة، يقول ابن إياس: إن هذه الواقعة صارت مثلا عند المصريين، «نعوذ بالله من حمول ابن عرام»، ويورد ابن إياس شعرا مناسبا للواقعة:
مخالط السلطان فى محنة
يرتقب الأوقات فى عكسه
إن سره أسخط خلافه
أو ساءه خاف على نفسه
ومن الملاحظ أن معظم الأمراء الذين يتآمرون على السلطان كانوا يشنقون أو يعدمون بعيدا عن باب زويلة، إما فى بيوتهم أو القلعة، أو يرسلون إلى سجن الإسكندرية الذى كان بمثابة منفى أيضا للسلاطين المخلوعين، ولم يسجل التاريخ أن سلطانا قد قطعت رأسه وعلقت على باب زويلة من الذين خلعوا من السلطنة، باستثناء واحد فقط حدث فى إحدى اللحظات الحاسمة فى التاريخ، عندما علق رأس السلطان الشهيد طومان باى، بعد قطعه على مرأى من الأهالى، بواسطة الجنود العثمانيين الذين غزوا مصر، وحولوها من سلطنة مستقلة إلى ولاية تابعة،
وكان ذلك من عجائب الدهر، لقد قاومهم طومان باى حتى الرمق الأخير، ثم علقت رأسه فوق باب زويلة، وأعيد تمثيل المشهد فى المقياس أيام السلطان المنتصر سليم العثمانى، عندما صنع المخايل ديكورا يشبه باب زويلة، وصور إعدام السلطان طومان باى، وانقطاع الحبل به مرتين، فانشرح ابن عثمان لذلك وأنعم على المخايل بمائتى دينار، وألبسه قفطان مخمل مذهباً، ودعاه إلى استامبول ليتفرج ابنه على ذلك.
وكان باب زويلة يشهد تعليق رءوس بعض الأمراء أحيانا، كما حدث فى شوال عام 818 ه، عندما علقت رؤوس بعض الأمراء الصغار الذين تآمروا مع الأمير قايتباى ضد السلطان المؤيد، ويبدو أن باب زويلة كان قد صار ستارا للرعب، فعند تعيين شخص اسمه صدر الدين العجمى فى منصب الحسبة فى محرم سنة 823 ه، يذكر لنا المؤرخ ابن إياس أن الأمير ططر، أحد كبار رجال الدولة وقتئذ قال له:
«لا تظلم أحدا من السوقة وإلا شنقك على باب زويلة..»
وأحيانا كان الباب الدامى يشهد نهايات بعض الأحداث الغريبة.
ثورة العبيد
فى شهر ذى القعدة سنة 849 ه، قامت جماعة من العبيد السود بتعدية النيل إلى بر الجيزة، وأقاموا فى الخلاء، ونصبوا خيما، وعلقوا على إحدى الخيام الكبيرة سنجقا، وجعلوا لهم سلطانا، ووزيرا، ودوادارا، وجعل سلطانهم يجلس على دكة ويحكم بين العبيد، ويطلب من العبيد من هو معاد لهم، ويأمر بإعدامه بين يديه، ثم أصدر عدة قرارات بتعيين أمير كبير وصاحب حجاب، وأرباب وظائف ، باختصار بدأ ينشئ نظاما موازيا لنظام السلطنة بما فى ذلك نائب الشام، ونائب طلب، ونواب لجميع البلاد، يقول ابن إياس:
«فلما بلغ السلطان ذلك انحصر إلى الغاية، وصار العبيد يقطعون الطريق على الناس، وينهبون المغلوب، ويأخذون خراج المقطعين وضيافتهم، فعين السلطان لهم تجريدة، فتوجهوا إليهم فى المراكب، فتقاتلوا معهم وكسروا سلطانهم وشنقوهم، وسجنوا جماعة منهم وهرب الباقون، ثم إن السلطان نادى فى القاهرة بأن كل من عنده عبد كبير يطلع به إلى باب السلسلة ويقبض ثمنه».
أمر السلطان بإعدام قادة هذه الثورة، ونفى من بقى من العبيد إلى بلاد العثمانيين وأنهى وجود العبيد «الشناترة» من مصر، وكثيرا ما كانت تعلق رؤوس العربان فى صحارى مصر على البوابة، وكان بعض الذين يلقون حتفهم على تلك البوابة قد ارتكبوا حوادث طفيفة للغاية، ونلاحظ تكرر ذلك بعد الغزو العثمانى لمصر عام 922 ه، إذ يشنق ملك الأمراء خاير بك فلاحا فقيرا لأنه اقتلع عودين من خيار الشنبر «نبات طبى» وطوال الاحتلال العثمانى تتكرر حوادث الشنق، والإعدام، بجوار البوابة لأتفه الأسباب، حتى يذكر لنا الجبرتى معلقا، «مع أن الزيادة سارية فى المبيعات والمشتريات من غير إنكار»، لكنه الظلم الفادح، ولا معقولية لما جرى خلال هذا العصر، إلى جانب ذلك فإن بعض الذين سلكت حياتهم طرقا غير عادية، كانوا أحيانا يلقون مصيرهم فوق هذه البوابة الدموية.
الصعود والهبوط
فى يوم الاثنين الثالث والعشرين من محرم سنة 909 ه، أمر السلطان الغورى، بشنق على بن أبى الجود على باب زويلة، فشنق، وظل جثمانه معلقا لمدة ثلاثة أيام، كان على بن أبى الجود قد وصل إلى أعلى مناصب الدولة، تولى نظارة الأوقاف وعدة مناصب أخرى مهمة فى الدولة، منها ديوان الوزارة، والاستادارية، وأصبح متصرفا فى أمر المملكة، وأظهر الظلم الفاحش بالديار المصرية، فخاف الناس منه ودخل فى قلوبهم الرعب الشديد منه، وكان على هذا أصله من العامة، وكان أبوه نجارا اسمه المعلم حسن،
ثم بدأ يصنع الحلوى وسمى نفسه «أبوالجود»، واتخذ له مكانا أمام حمام شيخو، واستمر حتى مات، عندئذ حل مكانه ابنه على، الذى كان يقلى الشبك بيده، ثم بدأت رحلة صعوده عندما التزم بتوريد مال معين على إحدى المناطق الصغيرة، وهجر بيع الحلوى، ثم التحق بوظيفة صغيرة عند تغرى بردى الاستادار، ثم انتقل للعمل مع الأمير طومان باى ثم انتقل للعمل مع الأمير الغورى قبل أن يتولى السلطنة، فلما أصبح سلطانا أصبح مقربا منه، وجاء على الناس بالظلم،
ويبدو أن البعض صار يدس له عند السلطان حتى وقع المحظور فى رمضان سنة 918 ه، عندما تغير خاطر السلطان عليه، وتلك العبارة «تغير خاطر السلطان» يوردها ابن إياس، وسائر المؤرخين عندما ينقلب مزاج السلطان على أمير مقرب، أو صديق له، فيتبدل حال الأخير عندئذ، وينقلب، لقد قبضوا على حاشية على بن أبى الجود، وأحاطوا على موجوده «أى على ثروته»، وسلمه السلطان إلى موظف جديد صاعد هو الزينى بركات بن موسى، ليعاقبه، ويظهر ما خفى من أمواله، ثم قام السلطان بضربه بنفسه، ثم سلمه إلى الوالى ليواصل تعذيبه، ثم أمر بإعدامه، ثم.. استقر جثة هامدة فوق باب زويلة.
معتقدات
وأحاط الناس باب زويلة بالعديد من المعتقدات، فقد اعتقد الكثيرون أنه مركز لإقامة القطب المتولى، ويقول إدوارد لين فى كتابه «المصريون المحدثون» إن بعض المشايخ أخبروه بوجود القطب المتولى الذى يراقب الأولياء جميعهم، مثل النقباء والأنجاب، وكثيرا ما يظهر القطب، لكنه لا يعرف، وهو يظهر دائما متواضعا، رث الثياب، ولا يشتد فى مؤاخذة من يخالف الدين أو يناصره بالتقوى، ومع أنه يختفى دائماً، فإن أماكن وجوده معروفة، لكنه قليلا ما يظهر فيها، والمعتقد أن القطب يكون فوق الكعبة، وهو يصيح مرتين فى الليل قائلاً: «يا أرحم الراحمين».
ويسمع المؤمنون حينئذ ذلك الدعاء من مآذن الكعبة، إن سطح الكعبة هو المركز الرئيسى الذى ينطلق منه القطب، لكن بوابة زويلة هى مكانه المفضل فى القاهرة، ومن هنا أصبح الناس يسمونها «بوابة المتولى» وحتى الآن يطلق عليها ذلك الاسم، ويقرأ المارة الفاتحة عند مرورهم بها، ويتصدق البعض على الشحاذين الجالسين هناك، ويذكر الجبرتى فى حوادث شهر رمضان سنة 1123ه، أن واعظا روميا جاء وجلس فى أحد المساجد، وراح يهاجم ما يفعله المصريون عند ضرائح الأولياء من إيقاد شموع وقناديل، وتقبيل أعتابهم، وقال: إن ذلك كفر، وهاجم وقوف الفقراء عند باب زويلة فى ليالى رمضان، وتسبب فى فتنة كبيرة بالقاهرة، ويصف إدوارد لين أحد الشحاذين الذين كانوا يجلسون عند الباب،
ويقول: إن الناس كانت تعتقد أنه من خدام القطب، ويدق المصابون بالصداع مسمارا فى الباب لفك السحر، أما المصابون بوجع الأسنان فيخلعون سنا ويولجونها فى أحد الشقوق، أو يلصقونها به بأى حال آخر، وكثيرا ما يحاول بعض الفضوليين الاختباء وراء الباب، آملين عبثا اختلاس النظر إلى القطب، فى لحظة من لحظات ظهوره النادرة، ويصف ستانلى لين بول معتقدات الناس فى القطب المختفى عند الباب،
ويقول: إن له قدرة عجيبة فى التنقل من مكان إلى آخر مختفيا عن الأنظار، والمؤمنون يسبحون أثناء مرورهم بالباب، بينما يدفع الفضول غيرهم إلى النظر خلف الباب لعلهم يرونه، ويستنكر ستانلى لين بول ما يقوم به القاهريون من دق للمسامير، والتماس العلاج عند البوابة، ويبدو أن من كان يرتبط بالبوابة يصبح مقدسا، فى أحداث سنة 1115 ه، يذكر الجبرتى موت الشيخ المجذوب أحمد أبوشوشة خفير باب زويلة وكانت كراماته ظاهرة، وكان يضع فى فمه مائة إبرة، ولا تعوقه عن الأكل، والشرب، والكلام.
وتذكر مراجع تاريخية أخرى أن سبب تسمية البوابة بالمتولى كان لوجود متولى حسبة القاهرة على مقربة من المكان، ولكنى أرجح السبب الأول الخاص بإقامة القطب المتولى، خاصة أننى سمعت الكثير من رويات أهالى المنطقة ومعتقداتهم فى البوابة حتى يومنا هذا.
لقد احتلت هذه البوابة موقعا فى الأدب المصرى، فثمة رواية كاملة تدور حولها، كتبها محمد سعيد العريان، وتجرى أحداثها خلال السنوات الأخيرة للسلطنة المملوكية المصرية، قبل زوالها على أيدى العثمانيين، وفى ألف ليلة وليلة نجد باب زويلة مسرحا لإحدى حوادث النشل، وتدور «السكرية» أحد أجزاء ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة فى حارة تقع ملاصقة لبوابة زويلة.
وحتى الآن لاتزال البوابة العتيدة، تقوم فى وسط البيوت التى تزاحمت حولها، وكادت تخفى معالمها، رمادية بأحجارها، قانية بتاريخها، يلفها غموض وإبهام لكثرة ما نسج حولها من أساطير، لكن أبرز ما يتعلق بها، أن الآلاف لاقوا حتفهم هنا فوقها، بعضهم من أفراد الشعب المصرى المغلوب على أمره، وآخرون ارتكبوا جرائم قد تكون صغيرة أو كبيرة، وأمراء متمردون، وأسرى انتهت حياتهم فى ذلك المكان، وسلطان واحد، شنق وهو يدافع عن آخر ما تبقى فى سلطنة مصر المستقلة.
.. نحن الآن فى القرن العاشر الهجرى.. السادس عشر الميلادى.
على مهل ينزل الليل فوق القاهرة أبواب الحارات أغلقت وتجمع خلفها السكان يتسامرون، بعض المقاهى لاتزال ساهرة مضاءة بنور القناديل أما شارع الصليبة وهو الشارع الرئيسى فى قاهرة ذلك الزمان.. فالدكاكين لاتزال مفتوحة، لم تغلق أبوابها بعد، دكاكين المشبك والحلوى والأطعمة المختلفة، والحرفيون الذين يستكملون أعمالهم التى لم يتسع لها النهار.
بين الحين والحين يعبر الطريق مملوك يركب جوادا، أو كوكبة من حرس السلطان الخاص، لا يتوقفون إنما يتجهون إلى ميدان الرميلة، حيث يصعدون إلى القلعة بينما يعلو صوت طبل وأبواق نحاسية، أحد الأمراء يدق الطبل أمام داره، ويجب أن نعرف أنه كلما علا صوت الطبل وكثر، دل هذا على مكانة ومقدار الأمير.
عموما.. واضح أن الجو وديع، مستقر، لم تحدث اليوم فتن بين الأمراء، لم تقع مشاجرات، فى الأسواق، القاهرة آمنة، إنها إحدى الليالى الهادئة التى تخللت حكم السلطان الغورى، إذن، لنمض عبر الطرقات إلى ميدان الرميلة «القلعة حالياً»، نصعد إلى البلاط السلطانى، فى الطريق إلى القلعة نلمح القاهرة فى الغروب، إن القاهرة تبدو فاتنة من فوق هذا المرتفع، ومصدر الفتنة كثرة المآذن الرشيقة، كل منها يتكون من ثلاثة أدوار أو أربعة من الشرفات، وتبدو المآذن وكأنها مضفورة بالخضرة الجميلة التى تتحلى بها أشجار النخيل الكبيرة التى تنمو فى حدائق المدينة، وهذا جميعه يخلق جوا من التناسق الرائع
إننا الآن نتجه إلى قلب قلعة السلطان التى تبلغ فى اتساعها مساحة مدينة «أورليان» نمر بساحة بها نحو خمسمائة مملوك فى تشكيل عسكرى، ثيابهم طويلة بيضاء، قبعاتهم مستديرة خضراء وسوداء، ثم نمر بساحة أخرى بها نحو خمسين موسيقيا بالآت مختلفة، ونسير فى عدد من الممرات ذات القباب بين صفين من المماليك، يواجه كل منها الآخر حاملين فى أيديهم الرماح.
إن مشهد المآذن يحتاج وقفة وإطلالة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.