جاءت الزيارة التي يختتمها غداً الجمعة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في أربعة من دول أمريكا اللاتينية، فنزويلا وإكوادور ونيكاراجوا وكوبا، في ظل ظروف سياسية إقليمية ودولية بالغة الإثارة، بعد إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران بدأت بالفعل في تخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو المحصنة تحت الأرض قرب مدينة قم.
إثارة المجتمع الدولي
ولا شك أن التزامن بين الزيارة وإعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية هو أمر ربما يكون متعمداً ومقصوداً من أجل إثارة المجتمع الدولي والتنديد بإيران حتى تفقد زيارة نجاد لدول أمريكا اللاتينية زخمها ومردودها السياسي، خاصة أن الدول التي شملتها الزيارة هي دول ذات طابع يساري تقاوم " الاستكبار والاستبداد الأمريكي". وتقيم هذه الدول الاربع علاقات تتسم بالفتور مع الولاياتالمتحدة، وقد قام قادتها في السنوات الاربع الماضية بعدة زيارات الى طهران لاقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية معها فيما ساءت علاقاتهم مع واشنطن. ففي الوقت الذي يسعى فيه نجاد خلال زيارته إلى تعزيز علاقات بلاده مع دول أمريكا اللاتينية، تتزايد الضغوط والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها واشنطن والغرب، بسبب الإصرارالإيراني على تطوير برنامجها نووى،وفي إطار هذه الضغوط تم تقديم موعد اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أسبوعا واحدا لينعقد في23 يناير الجاري بدلا من30 من الشهر نفسه، لاتخاذ قرار بشأن حظر استيراد البترول الإيراني.
تحول استراتيجي مهم فى الشرق الأوسط
وتخشى واشنطن من أن يسبب دخول إيران النادى النووى العسكرى تحولا استراتيجيا مهما فى الشرق الأوسط، يخل بالتوازنات والترتيبات التى نجحت فى بنائها لضمان تدفق النفط وحماية منابعه من جهة، ولحماية إسرائيل من جهة أخرى، مما جعلها تسعى إلى اتخاذ إجراءات وقائية تمنع مثل هذا التحول. لذا، تعتبر واشنطن أن كل الخيارات مفتوحة فى التعامل مع إيران، بما فى ذلك الخيار العسكرى.
أهمية كبيرة
وقد اكتسبت زيارة نجاد أهمية كبيرة على خلفية الأهداف المتوخاه منها على عدة مستويات، أولا :على الصعيد السياسى، تهدف إيران إلى ممارسة المزيد من الضغوط النفسية والسياسية على واشنطن من خلال تكثيف تواجدها السياسي والاقتصادي بل والمعنوي في الحديقة الخلفية لواشنطن وهي دول أمريكا اللاتينية. وتريد إيران أن تقول لواشنطن، من خلال تحركاتها فى أمريكا اللاتينية، إنها قادرة على تحدى الهيمنة الأمريكية، والوصول إلى العمق الأمريكى، وأنها تقف على قدم المساواة والندية مع واشنطن، مما يعكس نظرة إيران المعتزة بذاتها وقيمتها الحضارية.
كما تهدف إيران إلى كسب تأييد دول أمريكا اللاتينية للمواقف الإيرانية فى المحافل الدولية، وبخاصة أحقيتها فى امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية. فكوبا وفنزويلا كانتا من أولى الدول التى صوتت بالرفض على قرار مجلس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بتحويل الملف النووى الإيرانى إلى مجلس الأمن الدولى.
وتريد طهران أن تغتنم هذا الموقف الكوبي والفنزويلي خلال المرحلة المقبلة خاصة بعد العقوبات الغربية الأخيرة التي طالت البنك المركزي الإيراني، بالإضافة إلى رغبة إيران في خلق بنى تحتية من شأنها تقليص كثافة العلاقات القائمة بين إسرائيل وواشنطن مع دول أمريكا اللاتينية. فالتطورات الجديدة فى العلاقات بين طهران ودول أمريكا اللاتينية، جعل واشنطن وتل أبيب تدقان ناقوس الخطر، ولا تترددان فى التحذير العلنى مما يعتبره الجانبان "الغزو الإيرانى لأمريكا اللاتينية". لذا، قررت إسرائيل زيادة حملتها الدبلوماسية للتصدى لتنامى نفوذ إيران، من خلال حرب دبلوماسية ضد طهران تشعلها فى أمريكا اللاتينية، لتنضم إلى الجهود الأمريكية والأوروبية، وخوفا من تزايد النشاطات "الإرهابية" لحزب الله، واستغلال هذا الأخير البيئة الفقيرة التى تقبع فيها الدول اللاتينية فى تجنيد عناصر تعمل لحسابه. ومما يدعم الرؤية الإيرانية بشأن مستقبل العلاقات بين تل أبيب ودول منطقة أمريكا اللاتينية، ما كشف عنه تقرير لصحيفة التايمز البريطانيه بشأن طلب الحكومة الإسرائيلية من معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي إعداد سيناريوهات لما بعد إمتلاك إيران للسلاح النووي. وكان من بين هذه السيناريوهات التي وضعها المعهد، أنه في حالة إجراء إيران اختبارا لقنبلة نووية فإنه من الممكن أن تعرض الولاياتالمتحدة علي إسرائيل إقامة تحالف دفاعي مقابل عدم قيام الأخيرة بمهاجمة إيران عسكريا.وتشمل البدائل أيضا ضم إسرائيل لحلف شمال الأطلنطي. وفى ضوء ذلك، توجهت إيران إلى توطيد علاقاتها مع الدول اللاتينية للخروج من طوق الهيمنة الأمريكية على النسق الدولى، وتمهيدا لتشكيل تحالف استراتيجى موازن يتصدى للهيمنة الأمريكية. أما على المستوى الاقتصادي، تهدف إيران إلى الحفاظ على علاقاتها بدول لاتينية فاعلة فى منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) كفنزويلا التى تكاد تكون مواقفها متطابقة مع مواقف طهران فى كثير من الأمور، وتكريس التعاون بصدد سياسات أسعار النفط وتوزيع الحصص ورفع الإنتاج أو تخفيضه، فضلا عن تفعيل منظمة أوبك لتعبر قراراتها عن الدول المنتجة وليس المستهلكة للنفط.
كما ترغب طهران فى الانفتاح الاقتصادى، وجذب الاستثمارات اللاتينية إليها، وتعزيز التبادل التجارى، والاتفاق على التنسيق فى استكشاف الموارد الاقتصادية.
فضلا عن ذلك، فإن دول أمريكا اللاتينية تعتبر سوقا مواتية لتسويق المنتجات الإيرانية، وبالتالى تقويض نظام العقوبات المفروض على إيران عن طريق الانفتاح إلى أسواق جديدة، خاصة بعد توقيع إيران وفنزويلا على مشاريع مشتركة بقيمة 17 مليار دولار في الصناعات مثل الطاقة والإنشاءات والصيد، وكذلك إقامة مصنع لتجميع السيارات. كما أن إيران لديها صفقات مشتركة إضافية بقيمة مليار دولار مع بوليفيا لتطوير المشاريع الصحية والتنموية.
وعسكريا، رفعت إيران أعداد بعثاتها الدبلوماسية بأمريكا اللاتينية إلى 11 بعثة في السنوات الأخيرة، عندما فتحت سفاراتها في بوليفيا وتشيلي وكولومبيا ونيكاراجوا وأوروجواي.
وحذر تقرير وزارة الدفاع الأمريكية للعام الماضي من اتساع نطاق وجود قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، بأميركا اللاتينية. مشيراً إلى أن قوات القدس غدت راسخة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وشهدت السنوات الأخيرة اتساعا في نطاق وجودها بأمريكا اللاتينية وخاصة فنزويلا. وقد اشترت فنزويلا عام 2007 عشر طائرات بدون طيار (طراز مهاجر2) بقيمة 29 مليون دولار ضمن صفقة أبرمتها مع شركة يملكها الحرس الثوري الإيراني.
كما تحاول طهران جذب مهندسي أمريكا اللاتينية للعمل بمشاريعها النووية عن طريق برامج المنح الدراسية التي تقدم إلى التلاميذ ذوي الكفاءات العالية في بوليفيا وكوبا وفنزويلا، وفق المشاركين بهذه البرامج. وبالرغم من أهمية الزيارة وتوقيتها، إلا أن ثمة جملة من العراقيل تقف فى وجه نمو العلاقات الإيرانية - اللاتينية لتحقيق كامل إمكاناتها، من أبرزها أن المساعى الإيرانية للتغلغل وتفعيل الوجود فى مناطق العالم باتت أكثر حساسية ليس فقط بالنسبة لأعداء إيران التقليديين (إسرائيل والولاياتالمتحدة)، ولكن أيضا بالنسبة للعديد من القوى الدولية والإقليمية التى باتت تخشى على مصالحها، جراء تمدد النفوذ الإيرانى، مثل الصين والهند والعديد من الدول العربية والأوروبية. يذكر أن العلاقات الإيرانية - اللاتينية قد شهدت تقدما ملحوظا، خلال فترة حكم نجاد، والذي تزامن مع بروز اليسار الجديد المناهض للعولمة، وسياسات الليبرالية الجديدة بين دول أمريكا اللاتينية، حيث تعمل إيران على تعزيز التعاون المشترك مع دول هذه المنطقة، وأصبح هذا التعاون من أولويات سياستها الخارجية.