لقد ابتُليت مجتمعاتنا بفصائل وتيارات وجماعات اعتنقت أفكارًا وآراء بعيدة عن روح الدين وسماحته، بل والأدهى من هذا أخذوا يلزمون الناس بها، مما يكشف عن صدامهم مع المجتمع وذلك من خلال ما نراه من سفك للدماء البريئة والذكية، في محاولة منهم لإرهابنا، وبث الرعب والفزع في نفوسنا، وهيهات هيهات أن يتحقق لهم ما يتوهمون تحقيقه.لكننا في الوقت ذاته مطالبون بالتصدي لتلك الأفكار ومواجهتها بالحجج الواضحة والبراهين القاطعة، إذ أن الأمر ليس قاصرًا على المواجهات الأمنية، بل لا بد أن تتم بالحجة والأفكاروالصدام مع المجتمع ما هو إلا انحراف فكري في الأساس يسبب حالة من التنافر ورفض التعايش السلمي مع فئات المجتمع الأخرى، وعزوف الفرد عن الاندماج والتعاون بناءً على نقاط الاتفاق المشتركة، مع تركيزه على إظهار نقاط الاختلاف وتضخيمها، مما يؤدي للصراع والتناحر، والتسبب في تعطل مصالح البلاد والعباد، ويؤدي إلى القتل والعدوان، وإلى عزلة الأشخاص عن المجتمع، بدعوى أن هذا المجتمع مجتمع جاهلي لا يستحق أن نعيش فيه.وهذا النوع من الصدام محرم شرعًا؛ لأنه يؤدي إلى التنافر والشقاق المؤدي إلى مخالفة تعاليم الإسلام من التراحم والحب، ونبذ الفرقة، والتعاون على البر والخير، وإعمار الأرض التي هي من المهام الرئيسة للإنسان علي الأرض، فالتعاون ضروري للبشرية من أجل البقاء وحفظ النوع، يقول تعالي: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان». ونحن عندما نريد أن نواجه هذا التطرف والإرهاب الفكري علينا أولاً اتخاذ الوسطية منهجًا لنا، تلك الوَسَطِيَّة التي تُعد مرجعيةً فكريةً قيميةً، ومعيارًا حاكمًا يتعين الاحتكام إليه في تحديد الأنسب أو الأصلح قولاً وفكرًا وفقهًا، وموقفًا ووضعًا، وخُلقًا وسلوكًا عمليًّا، ونقصد بالوَسَطية: الاعتدال في التصورات والمناهج والمواقف، وفي نفس الوقت الوَسَطية لا تعني عندنا أنصاف الحلول، بل هي تحرٍّ متواصل للصواب في التوجّهات والاختيارات، فالوَسَطِيَّة ليست مجرد موقف بين اليمين واليسار، بل هي منهجٌ فكريٌّ وموقفٌ أخلاقيٌّ وسلوكي، وهي تدعو إلى اجتناب كل مظاهر الغلو والتطرف، والنظرة السوداوية التي تجعل صاحبها يقسّم العالم والمجتمع بالنسبة إليه إلى مسلم وكافر، وإلى خيرٍ وشرٍّ فقط. وهناك ثمة أمور يجب أن نبينها للرد والتصدي للفكر المتطرف، يأتي في مقدمتها بيان أن تلك الظاهرة أصبحت واقعًا لا يمكن تجاهله، يحتم علينا مواجهته ولا يجب أن ننزعج من معالجة الأخطاء التي أدت إلى وقوعها، فالغلو والتطرف آفة قديمة حديثة، وقعت في جميع الأمم السابقة، وكانت سببًا لهلاك الكثير منها، قال صلى الله عليه وسلم: زفإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدينس، وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق}؛ وعليه جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تحذر من هذه الآفة. وتتعدد صور ومظاهر الغلو في الدين والتي هي بالحقيقة بوابة الولوج إلى الإرهاب والمغالاة، منها تكفير المجتمع على العموم، للدرجة التي وصلت بالبعض إلى تكفير كل من لا يوفقهم الرأي، والتعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، مما يؤدي إلى إلزام الناس بما لم يلزمهم الله به وقد يؤدي ذلك إلى الغلظة وإيذاء الآخرين ومنهم كذلك فصيل يدعو إلى العنف والخروج على المسلمين بالسلاح وقتل الأبرياء وإثارة الفتن والقلاقل وعدم مراعاة حرمة دماء المسلمين، ويزعم بعضهم أنهم هم الجماعة المسلمة الوحيدة في العالم! ومنهم من يرفض إجماع الأمة، ولا يكتفي بذلك بل يطعن في أئمة الدين وينتقص من حقهم. ولهذا التشدد والغلو أسبابه التي أدت بالضرورة إليه منها تجرؤ البعض على إصدار الفتاوى والأحكام المتعلقة بالأمور الشرعية دون تعمق في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ودون علم باتصال هذه النصوص بمناط الاستشهاد، أو أخذهم بالمتشابهات وترك المحكمات، أو أخذهم بالجزئيات وترك الكليات، ناسين أن المتصدر للفتوى لا بد أن يكون على علم بالتأويل وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والأساليب اللغوية وغيرها من القواعد العلمية حتى لا تكون فتواه فتنة للأمة الإسلامية وسببًا لوقوع الشقاق بينها. كما أن الاستعلاء على الآخرين وعلى علماء الدين يُعد من أسباب تفشي ظاهرة الغلو والتطرف في المجتمع، وهذا المستعلي على الآخرين لا يعلم أنه يقدم لأعداء الدين صيدًا ثمينًا بإحداثه الفرقة بين المسلمين؛ لأن في فعله هذا إفسادًا لقلوب العامة والخاصة، وترويجًا للأكاذيب والشائعات، وفتحًا لأبواب الشر على الأمة. ولعلَّ من أسباب الغلو أيضًا هو فقدان الثقة في العلماء والتقليل من شأن أهل العلم، مما جعل الكثير من الشباب يعتمد على أنفسهم في استقاء الأحكام مباشرة من القرآن والسنة بجانب افتقادهم في الوقت نفسه للمؤهلات التي تؤهلهم للاجتهاد، مما أوقعهم في أخطاء قادتهم بالضرورة إلى الغلو في الدين، ومن أجل القضاء على تلك الظاهرة لا بد من مد الجسور بيننا وبين هؤلاء الشباب وسد الفجوة التي بينهم وبين علمائهم لبيان صحيح الدين لهم، وحمايتهم من أن ينزلقوا إلى هذا الفكر المتطرف. نقلا عن " الاهرام" المصرية