انطلاقًا من قاعدة أن الفكر السقيم لا يعالج إلا بالفكر السليم يأتي دور الأزهر الشريف في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف، فالأزهر لم يكن يومًا بمعزل عن قضايا الأمة الإسلامية، بل لم يقف مكتوف الأيدي أمام أى ظاهرة واردة من شأنها النيل من وحدة صف الأمة الإسلامية، وها هو اليوم يعقد مؤتمره الذي يواجه فيه الإرهاب والتطرف ليذود عن حياض الدين ويدفع خطر هؤلاء الذين يريدون أن يلصقوا التشدد والتطرف والغلو بالمسلمين. يحاول الأزهر ومعه كوكبة من علماء الأمة من جميع الأقطار الإسلامية بحث السبل التي من خلالها نستطيع مواجهة الموجة الشرسة من الإرهاب والتطرف وتقديم العلاج الناجع لتلك الظاهرة وكيفية علاج منتسبيها لكي تبرأ الأمة من هذا الداء العضال الوافد إليها، والذي لم يكن يومًا من مفرداتها أو من أدبياتها أو أصولها أو حتى فروعها، لأن هذا يتنافى تمامًا مع الوصف الذي اتصفت به الأمة الإسلامية في القرآن الكريم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، حيث نهت الشريعةُ الإسلاميةُ عن الغلو في الدين، وحذرت المسلمين منه حتى لا ينجرفوا وينحرفوا، فجعل الله هذه الأمة وسطًا؛ لأن دينهم كذلك، ومثل هذا التوجيه جاء صريحًا لأهل الكتاب؛ قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). فالغلو والتطرف خلاف الوسطية، فإذا كانت الوسطية تعني الاعتدال والتوازن في الأمور كلها، فإن الغلو يعني المشقة والتضييق على النفس بإتباع طريق واحد بعيدًا عن الوسط. والأزهر هو منبر الوسطية التي استمدها من وسطية الإسلام التي توازن بين الأحكام، فلا غلو ولا تشدد، ولا تفلت ولا تسيب، فلا إفراط ولا تفريط في الإسلام، وهذه هي روح الإسلام ومبادئه التي بُنيت على التيسير وعدم التنفير، لأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه العقلية المسلمة لا أن يكون التشدد والتطرف منهجًا ومشربًا لها. فالفكر المتطرف في الحقيقة ما هو إلا منهج يتشبه بالمنهج العلمي في ظاهره، دون إلمام بالتفاصيل والآليات والإجراءات الدقيقة التي يتركب منها المنهج العلمي، مما يفضي إلى نتيجة خطيرة وحالة غريبة، وهي أنه تنعكس فيه المقاصد الشرعية، فتتحول من حفظ النفس وإحيائها إلى ضد ذلك، وهو إزهاقها والتسبب في قتلها، وتتحول من حفظ المال وتنميته وتوفيره وتسخيره في رخاء الإنسان ورفاهيته إلى ضد ذلك، وهو تبديده، والعجز عن إيجاده أصلاً، فيبرز لنا الفقر بكل نتائجه السلبية على التعليم والصحة والبيئة، وتتحول من حفظ العقل وحفظ منظومة تفكيره ومناهج عمله وتأمله إلى ضد ذلك، وهو تشويش العقل بضباب كثيف من المفاهيم الملتبسة، والأطروحات المغلوطة، وتتحول من نشر العمران، وصناعة الحضارة، إلى ضد ذلك، وهى حالة مزمنة من الفقر والمرض والأمية والتخلف والاستهلاكية، والتخلف عن ركب الحضارة، حتى نصير عالة على الدول المتقدمة من حولنا، وهكذا. وظاهرة الإرهاب والتطرف التي نحن بصدد بحث السبل لعلاجها تستحق منا جميعًا التأمل والتوقف؛ حيث إن المنهج العلمي المنضبط الصحيح يحقق مقاصد الشريعة، والمناهج الفكرية المتطرفة والمتشددة تنعكس عندها مقاصد الشريعة، فالأمر ليس ترفًا علميًّا، يستمتع به الباحث والدارس، ويحرم منه الفكر المتطرف فقط، بل إن المآل والنتيجة خطيرة، يتحول فيها الإنسان إلى نفسية غريبة، تنظر إلى الكون والحياة والإنسان بمنظور مضطرب، ينتج منه الشقاء، والكلام هنا ليس عن الأزهر فقط، بل نحن نتكلم عن الأزهر وما يشبهه من المدارس العلمية العريقة، التي قامت بنفس دوره، وتأسست على نفس تكوينه المعرفي، في الشرق والغرب، كجامع القرويين في المغرب، وجامع الزيتونة في تونس، فالقضية إذن هي الكلام عن منهج أصيل، قامت بخدمته مدارس أصيلة، أكبرها وأشهرها الأزهر، وهو منهج يحقق مقاصد الشريعة، ويرى الناس من خلاله رحمة الله للعالمين، وفي مقابله فكر متطرف، يتشبه بالمنهج في ظواهره، وتغيب عنه مسالكه العلمية الرصينة، فتنعكس فيه مقاصد الشريعة، ويتحول إلى حجاب بين البشرية وبين منابع هذا الدين ومحاسنه، إن لكل بذرة ثمرة تناسبها، ولكل مقدمة نتيجة متسقة معها، ولكل منهج نتائجه التي تنبع منه، وتعبر عنه، والمنهج الأصيل يثمر رحمة وهداية وعمرانا، والمنهج المتطرف يسبب لصاحبه وللمجتمع الشقاء الكبير. كما أن من سبل العلاج لهذه الظاهرة تحصين المجتمع من الإفرازات التي يمكن أن توجد بسبب المتطرفين الذين يعتمدون على نظرة ضيقة للكون وللحياة، وينطلقون منها إلى تخطئة كل رأي مخالف لهم باسم الدين، ويدينون كل فكر مخالف لفكرهم باسم الدين، الأمر الذي ينتهي بهم إلى تكفير الناس، بل والنيل من أعراض العلماء، ووصمهم بصفات غير لائقة، فالغلو في الدين باب إلى التطرف الذي يقود إلى العنف والسعي إلى إلزام المخالف رأيه بالقوة، وتبني الأزهر مبدأ الاعتدال ووسطية الإسلام هو سر بقائه إلى الآن شامخًا لم تؤثر فيه حوادث الدهر، وهو سر التفاف الناس حوله، فهو الملاذ للجميع وهو الحصن والمدافع عن الدين. نقلا عن " الاهرام " المصرية