رأينا في المقالة الخامسة كيف عانى أهل السنة في مصر وشيوخهم ومفتوهم من الاضطهاد الفاطمي الشيعي، وكيف صمد أهل السنة أمام هذا الاضطهاد، وكيف أجبروا الفاطميين على التراجع عن مواقفهم وتخفيف الضغوط عليهم تدريجيًا إلى أن انتهى الأمر بسقوط الدولة الفاطمية وقيام صلاح الدين الأيوبي بإسقاط رسومهم ومذهبهم الشيعي من مصر إلى الأبد. واهتم صلاح الدين بإنشاء المدارس السنية في مصر لتدريس الفقه الشافعي أو المالكي، ونتج عن ذلك حدثت حركة إحياء لمذاهب أهل السنة، وتفريخ أعداد كبيرة من الفقهاء والمفتين الذين سيظهرون على الساحة خلال العصرين الأيوبي والمملوكي، إلى أن تشهد مصر لأول مرة في تاريخها ظهور وظيفة إفتاء رسمية ودائمة في العصر المملوكي. لقد سبق أن تحدثنا عن المفتين الرسميين الذين عيَّنهم ولاةُ مصر وسمحوا لهم بالفتوى في فترات متقطعة، ولكننا هنا نشير إلى ظهور منصب "مفتي دار العدل" الذي استمر عنصرًا أساسيًّا في النظام القضائي المصري لأكثر من قرن من الزمان خلال العصر المملوكي. والحقيقة إن موضوعنا اليوم ليس هو "مفتي دار العدل" بل حديثنا عن الفترة التي سبقت ومهدت لظهور هذا المنصب المهم، وأهم ملامحها عملية الإحياء للمذاهب السنية، وإنشاء المدارس في أواخر العصر الفاطمي وطوال العصر الأيوبي، والتي كان من أهمها مدرسة الطرطوشي المالكية بالإسكندرية، ثم المدرسة الحافظية بالإسكندرية التي أنشأها أول وزير سني في الدولة الفاطمية رضوان بن ولخشي، والتي كان يدرس بها الفقيه المالكي أبو الطاهر إسماعيل بن عوف، ثم تلتهما أول مدرسة شافعية والتي أنشأها بالإسكندرية أيضًا الوزير السني العادل بن السلار، والتي كان يدرس فيها الحفظ السلفي، ثم تحدث الانطلاقة الكبرى في العصر الأيوبي، حيث انتقل مركز الثقل السني إلى القاهرة، فتظهر المدرسة الناصرية التي أنشأها صلاح الدين للشافعية، ثم المدرسة القمحية التي أنشأها صلاح الدين للمالكية، ثم المدرسة المعروفة باسم "منازل العز" التي بناها الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب للفقيه شهاب الدين الطوسي. وكثرت المدارس في عهد خلفاء صلاح الدين حتى بلغ عدد المدارس التي أنشئت في العصر الأيوبي أربعًا وعشرية مدرسة. وقد خرَّجت تلك المدارس أجيالًا من المفتين منهم من برز على الساحة في أواخر العصر الفاطمي واستمر في العصر الأيوبي، ومنهم من ظهر في العصر الأيوبي واستمر في العصر المملوكي، فمن هؤلاء الفقيه أبو الطاهر بن عوف المالكي المتوفى سنة 581ه/ 1185م، الذي تصدر في الإسكندرية منذ أواخر العصر الفاطمي، حتى قال عنه ابن تغري بردي هو "شيخ المالكية بثغر الإسكندرية" ، ولكنه حقق من الشهرة والعلم ما جعله يتصدر فقهاء مصر جميعهم إلى درجة أن وزراء الدولة الفاطمية كانوا يتقربون إليه، وأنشأ له رضوان الولخشي مدرسة يدرس فيها، وقال عنه ابن فرحون: "كان إمام عصره في المذهب، وعليه مدار الفتوى مع الزهد والورع"، وقال عنه لسان الدين بن الخطيب: "مفتي الديار المصرية ورئيسها". وعاصر أبا الطاهر المالكي فقيهان شافعيان مهمان، كلاهما توفي سنة 596ه/ 1200م، أولهما: أبو إسحاق العراقي، الذي وُلد ونشأ في مصر، ولكنه هاجر للعراق لتلقي العلم، وعاد في أواخر العصر الفاطمي لما خفت قبضة الشيعة، ولقبه المصريون بالعراقي، ولما عاد إلى مصر تولى الخطابة بجامع عمرو بن العاص، وتصدر وأفتى وصنف الكتب العظيمة أهمها شرحه لكتاب المهذب لأبي إسحاق الشيرازي، وهو من أهم كتب الشافعية. والفقيه الشافعي الآخر هو شهاب الدين الطوسي الذي ولد ونشأ بالشام، ولما سقطت الدولة الفاطمية جاء إلى مصر لمهمةٍ محددة هي إحياء مذاهب أهل السنة، حتى عُدَّ مجيئه إلى مصر علامة على ارتفاع شأن الشافعية بها، فيقول عنه النووي: "كان شيخ الفقهاء وصدر العلماء في عصره، إمامًا في فنون... وقدم مصر فنشر بها العلم، ووعظ وذكر وانتفع به الناس، وكان معظَّمًا عند الخاصة والعامة، وعليه مدار الفتوى في مذهب الشافعي". وبعد هؤلاء تصدر للفتوى من أئمة المالكية: جلال الدين بن شاس المتوفى سنة 610ه/ 1219م، وجمال الدين بن رشيق المتوفى سنة 632ه/ 1234م، وفي المقابل ارتفع شأن الشافعية حتى دانت لهم مصر، فظهر أئمة كبار، منهم: أبو الطاهر المحلي المتوفى سنة 633ه/ 1238م، تولى الخطابة في جامع عمرو بن العاص وتصدر للفتوى، وطلب للقضاء فامتنع، فقيل له استخر، فقال: إنما يُسْتخار في أمرٍ خفيت مصلحتُه وجهلت عاقبته". وتلاه الإمام الكبير بهاء الدين أبو الحسن علي بن الجُميزي المتوفى سنة 649ه/ 1251م، الذي انتهت إليه مشيخة العلم بالديار المصرية، فدرس وأفتى زمنًا طويلًا، ومن أشهر فتاواه: فتواه بهدم بكل بناء بسفح المقطم، وقال إنه وقف من عمر بن الخطاب على موتى المسلمين. ثم تلاه سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660ه/ الذي تصدر في الشام ومصر، وتولى قضاء مصر زمن الصالح نجم الدين أيوب، وخضع له سلاطين الأيوبيين والمماليك، فبنى له الملك الصالح المدرسة الصلاحية ليدرس فيها، واستشاره قطز عندما خرج لقتال التتار، وقال له: "اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر"، فقال قطز: "إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار"، فقال له العز: "إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحُلي الحرام، وضربته سكة ونقدًا وفرقته في الجيش، ولم يقم بكفايتهم ذلك الوقت؛ اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا". وكثر علماء الشافعية في العصر المملوكي وسادوا فمنهم: صدر الدين موهوب الجزري المتوفى سنة 665ه/ 1267م صاحب الفتاوى المشهورة باسمه (فتاوى موهوب)، ومنهم تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز المتوفى سنة 665ه، وتقي الدين بن رزين العامري المتوفى سنة 680ه/ 1281م، وبهاء الدين بن سيد الكل المتوفى سنة 697ه/ 1297م، وتقي الدين بن دقيق العيد المتوفى سنة 702ه/ 1302م، ونجم الدين بن الرفعة المتوفى سنة 710ه/ 1310م، وعلاء الدين الباجي المتوفى سنة 714ه/ 1315م، وبدر الدين بن جماعة المتوفى سنة 733ه/ 1342م، وتقي الدين السبكي المتوفى سنة 756ه/ 1355م، وكل منهم علم كبير، وإمام جدير بأن تؤلف له الكتب وتنشر عنه المقالات والأبحاث، وكانت فتاواهم قواعد اتبعها القضاة وسار على نهجها المفتون في العصور التالية، وكان لسيادتهم وتصدرهم أثر في التطور الكبير الذي حدث في العصر المملوكي بإنشاء وظيفة "مفتي دار العدل" التي سنتحدث عن ظروف نشأتها وأهم من شغلها في المقالة التالية بمشيئة الله.