مع تراجع سعر برميل النفط بنسبة وصلت إلى أكثر من 50% منذ يونيو/ حزيران 2014، سجلت الدول العربية المستهلكة فوائد كبيرة نتيجة انخفاض كلفة مستورداتها، وانعكس ذلك ايجاباً على مسيرة اقتصاداتها، إلا أن حكومات هذه الدول بدأت تدرس باهتمام بالغ احتمال تراجع قيمة التحويلات المالية لرعاياها العاملين في الدول المنتجة، خصوصاً مع التحضيرات الجارية لإقدام دول مجلس التعاون الخليجي على تنفيذ كيان موحد للعمالة الوافدة خلال فترة ثلاثة أشهر، في اطار استراتيجية جديدة تعتمد "الخلجنة" لجهة تفضيل مواطني الخليج في العمل ومنحهم الامتيازات ذاتها التي يتمتع بها المواطنون في الدولة المعنية، في مقابل التشدد في استخدام العمالة الوافدة بشروط موحدة. وعلى الرغم من أن التحرك الخليجي يستهدف توحيد شروط التعاقد مع بعض الدول المصدرة للعمالة، لا سيما بعد أن زادت الضغوطات على عدد من دول مجلس التعاون في مفاوضاتها مع الهند واندونيسيا والفيليبين في شأن خدمات عمالتها، فان مصادر عربية لا تستبعد أن تشمل الاستراتيجية الجديدة الرعايا العرب في مراحلها التنفيذية المتتالية. ويأتي ذلك في ظل تنامي السوق الاقتصادية والتجارية والاستثمارية، ومقومات البنى التحتية التي تتطلب مختلف المهارات من العمالة الوافدة في السوق الخليجية، وقد تم تشكيل فريق عمل يضم ممثلين عن المكتب التنفيذي لوزراء العمل بدول مجلس التعاون، والأمانة العامة لدول المجلس، واتحاد الغرف الخليجية، لوضع وثيقة عمل وتنظيم سوق الاستقدام تمهيداً لإطلاق استراتيجية موحدة لاستخدام العمالة الوافدة، خصوصاً وأن السوق الخليجية لا تزال تنمو بقوة وتتوسع كل يوم، الأمر الذي يتطلب تنظيم سوق العمالة للاستفادة منها في مختلف المجالات، لا سيما وأن غياب الرؤيا مع استمرار الفوضى وتعدد الشروط وتنوعها بين بلد وآخر من دول المجلس قد كبد أرباب العمل الخليجيين خسائر مادية ومعنوية كبيرة، فضلاً عن مساهمة حكومات هذه الدول في تغطية تكلفة العمالة الوافدة. ويمتد هذا النوع من التعاون بين دول المجلس الى السعي لتفعيل دور القطاع الخاص في مسيرة التكامل الاقتصادي الخليجي وصولا إلى الوحدة الاقتصادية الكاملة وتعزيز دوره لترسيخ المواطنة الكاملة. وتأتي استراتيجية "الخلجنة" تنفيذاً لنص المادة الثالثة من الاتفاقية الاقتصادية الموحدة، بأن يعامل مواطنو دول المجلس الطبيعيون والاعتباريون في أي دولة من الدول الأعضاء نفس معاملة مواطنيها دون تفريق أو تمييز في كافة المجالات الاقتصادية، بما فيها التنقل والإقامة والعمل في القطاعات الحكومية والأهلية، والتأمين الاجتماعي والتقاعد، وممارسة المهن والحرف، ومزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية والخدمية، وتملك العقار، وتنقل رؤوس الاموال، والمعاملة الضريبية، وتداول وشراء الأسهم وتأسيس الشركات، والاستفادة من الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية. إفرازات خطيرة انعكست ثورات " الربيع العربي" بشكل سلبي على سوق العمل، ما أدى إلى ارتفاع معدل البطالة في البلدان العربية من 14 إلى 17%، ووصل عدد العاطلين عن العمل الى 20 مليوناً، وفق احصاءات منظمة العمل العربية. وحصل ذلك على الرغم من ازدياد هجرة المواطنين من بلدان "الربيع العربي" وخصوصاً من مصر وسوريا وتونس واليمن إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي التي تشهد حركة استثمارات كبيرة في مشاريع صناعية وسياحية وعقارية ونفطية وزراعية، ساهمت بتوفير نحو سبعة ملايين وظيفة خلال السنوات الاخيرة، وقد ذهبت ستة ملايين منها للوافدين، مقابل فقط مليون وظيفة للمواطنين الخليجيين، وتتوقع الخطط الاستثمارية الجديدة في دول الخليج استحداث نحو ستة ملايين وظيفة خلال السنوات الخمس المقبلة، على أن تكون حصة الخليجيين منها نحو الثلث، أي ما لا يقل عن مليوني وظيفة، وذلك على أساس استمرار الحكومات بالتشدد في توفير فرص عمل للخليجيين، وتحسين استراتيجيات العمل، وتطوير مخرجات التعليم واعادة هيكلة الأجور. لا شك في أن "الاقتصاد الريعي الخليجي" ولد أجهزة إدارية حكومية متضخمة وصناعات متقدمة كبيرة تقوم على النفط والغاز، وقد لعبت دوراً كبيراً على مدار سنين، في استيعاب جزء كبير من الايدي العاملة الوطنية، ولكن مع تضخم ظاهرة البطالة المقنعة في الاجهزة الحكومية والتطور التقني للصناعات الكبيرة، باتت قدرة هذه القنوات على امتصاص المزيد من الأيدي العاملة الوطنية محدودة. وهكذا، ينظر إلى سوق العمل الخليجي على أنه أحد الافرازات الخطيرة لنمط النمو الاقتصادي الراهن، والتي لا يمكن التعامل معها وعلاجها من خلال الاجراءات التصحيحية التي اتخذتها دول المجلس حتى الآن للتأثير على جانب الطلب، مثل: رفع تكلفة العمالة الأجنبية، تحديد نسب التوطين في بعض القطاعات، تحرير سوق العمالة الأجنبية، دعم رواتب العمالة الوطنية، وهي جميعاً إجراءات خلقت المزيد من التشوهات في سوق العمل، وكذلك من جانب العرض، مثل: تطوير برامج التعليم والتوسع في المدارس والمعاهد الفنية والتقنية، لذلك لا بد من تغيير نمط النمو الاقتصادي الراهن بصورة جذرية. وقد تبين من الدراسات والوقائع، أن معظم الوظائف المتولدة عن نمط النمو الاقتصادي الراهن، تكون ضعيفة الرواتب وتتطلب مهارات محدودة، مما يخلق دينامية متنامية للطلب على الأيدي العاملة الأجنبية. وبما أن القطاع الخاص يفتقر إلى الحوافز الكافية لتشغيل الأيدي العاملة الوطنية، فإن المواطنين يفضلون العمل في القطاع العام حيث تدفع الدوائر الحكومية أجوراً ورواتب مرتفعة، وأحياناً تكون ضعف مستويات ما تدفعه المؤسسات والشركات الخاصة، وتشكل هذه المشكلة التحدي الكبير الذي تواجهه دول مجلس التعاون، خصوصاً لأنها تحمل مخاطر ديموغرافية لجهة طغيان عدد الوافدين على عدد المواطنين. وفي هذا المجال، حذر صندوق النقد الدولي حكومات دول مجلس التعاون الخليجي من ارتفاع البطالة بين مواطنيها، متوقعاً أن يزداد عدد العاطلين عن العمل بين مليونين إلى ثلاثة ملايين شخص في السنوات الخمس المقبلة، في حال لم تتخذ اجراءات تصحيحية في أسواق العمل، وبيّن تقرير الصندوق أن السبب في تردد القطاع الخاص في توظيف الخليجيين يعود الى تدني الأجور، إضافة إلى تدني مستوى انتاجية العامل الوطني مقارنة بالعامل الاجنبي، وارتفاع معدلات دوران العمل بين المواطنين. كلفة العمالة الوافدة تستحوذ دول مجلس التعاون الخليجي على 17 مليوناً من العمالة الوافدة، ويتجاوز حجم تحويلاتها إلى بلدانها ال 80 مليار دولار سنوياً، وتشكل أكثر من 17% من اجمالي التحويلات المالية لليد العاملة في العالم وفق تقرير صندوق النقد الدولي، وهي موزعة كالآتي: - في المملكة العربية السعودية تسعة ملايين وافد، يحولون سنوياً إلى بلدانهم نحو 35 مليار دولار. - الامارات أربعة ملايين وافد يحولون سنوياً نحو 16 مليار دولار. - الكويت 1.6 مليون وافد يحولون سنوياً 12 مليار دولار. - سلطنة عمان مليون وافد يحولون سنويا 7.5 مليار دولار. - قطر 900 ألف وافد، يحولون سنوياً 8 مليارات دولار. - البحرين 500 ألف وافد يحولون سنوياً 1.5 مليار دولار. ولكن الدراسات الخليجية تشير إلى أن الكلفة الحقيقية للعمالة الأجنبية تتجاوز حجم التحويلات، وهي ناتجة من ثلاثة أصناف رئيسية: - كلفة مصاريف التوظيف التي تدفعها الشركات إلى الجهات الحكومية. - الأجور والمرتبات والمزايا المدفوعة للعمالة الاجنبية. - الكلفة الاجتماعية، وهي تمثل نصيب العمالة الأجنبية من الانفاق على الأمن العام والطرق والبنية التحتية والكهرباء والوقود والتعليم والصحة. ومثال على ذلك فان التكلفة الاقتصادية للعمالة الأجنبية في دولة الامارات تبلغ 98 مليار دولار، وهي تعادل نحو ستة أضعاف التحويلات المالية لهذه العمالة. ويتبين من هذه الأرقام التكلفة الاقتصادية الباهظة التي تتحملها الاقتصادات الوطنية الخليجية جراء التضخم الكبير في الأيدي العاملة الأجنبية، وتكمن خطورتها في ازديادها المستمر، مما يستوجب تحليلها ودراستها بعناية مقابل المردود الاقتصادي لهذه العمالة، وهو مؤشر على انخفاض كفاءة تشغيل الموارد الاقتصادية.