كوسوفو واستقلالها: نقطة خلافية جديدة في الفضاء الدولي ماجد الشيخ في الوقت الذي اعتبرت فيه الولاياتالمتحدة أن استقلال كوسوفو سيجلب الاستقرار إلى منطقة البلقان، ذهبت روسيا إلى مناقضة ذلك، حين اعتبرت أنه سيزعزع استقرار المنطقة ويشرعها أمام صراعات عرقية. فيما ترك لدول الإتحاد الأوروبي «أن تقرر بحسب ممارساتها الوطنية وقواعدها القانونية» ما إذا كانت ستعترف أم لا باستقلال الإقليم، وذلك إفساحا في المجال للدول التي تعتبر انها «صنعت استقلال كوسوفو» كفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا؛ لتكريس جهودها بالاعتراف رسميا بالدولة الجديدة. وللدول التي تتخوف من «سابقة قانونية» قد تنعكس عليها مباشرة؛ كاليونان وقبرص وإسبانيا ورومانيا، من اتخاذ موقف يحرم انفصاليّيها من تنفيذ مآربهم. فيما أكد البرلمان الروسي أن الاعتراف باستقلال كوسوفو سيخلق الأجواء الضرورية لإنشاء إطار جديد في العلاقات بين روسيا والدول التي تعلن استقلالها من جانب واحد في منطقة مصالحها، وقبل كل شيء في فضاء الدول السوفياتية سابقا. ومع عدم استبعاد برلمانيين روس أن تعيد موسكو النظر بمواقفها حيال المطالب الانفصالية لاقاليم في جمهوريات تميل إلى الغرب مثل جورجيا، يتوقع البعض أن تغدو سياسة موسكو أكثر تشددا حيال المطالب الانفصالية الداخلية، تحسبا لمحاولة من تبقى من قادة الحركات الانفصالية في شمال القوقاز إلى استغلال الموقف الدولي الحالي، ومحاولة حشد تأييد جديد لمطالب الانفصال، وظهرت بوادر هذا مع إعلان قادة شيشان عن ترحيبهم باستقلال كوسوفو. كما لم يخف البعض في موسكو النية باتخاذ سلسلة إجراءات وتدابير قوية، نظرا إلى خطورة التطوّر البلقاني على الأمن الاستراتيجي الروسي، خصوصا بعد إعلان قادة كوسوفو عزمهم على فتح بلادهم أمام الوجود العسكري لحلف شمال الأطلسي. في هذه الأجواء الآخذة بالتلبد في أوروبا بفعل هذه «الحركة الاستقلالية» وما يمكن أن تستجره من تداعيات، وعلى خلفية إقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب زيارته العاصمة الأوكرانية وتوجيهه منها تهديدات لكل من بولندا وتشيكيا وأوكرانيا ذاتها، جراء موافقة هذه الدول على نشر الدرع الصاروخية الأميركية، جاء إقرار الرئيس بوتين بأن سباقا جديدا للتسلح يبدأ في العالم، ومعه تبدأ حرب باردة جديدة، وفي ظلها تتزايد المخاطر بسبب اتجاه السياسات العالمية نحو العسكرة، وصولا إلى استنتاج أنه من الضروري إعداد استراتيجية جديدة لبناء القوات المسلحة حتى العام 2020 من أجل تعزيز الأمن الوطني. فيما كان بوتين وفي خطاب له (8/2) قد انتقد ما أسماه «استعراض العضلات» من جانب حلف شمال الأطلسي على حدود روسيا والدرع الصاروخية الأميركية المزمعة إقامتها في أوروبا الشرقية، قائلا: «ليس خطأنا، لم نبدأ بضخ مليارات الدولارات لتطوير أنظمة تسلح، حلف شمال الأطلسي نفسه يتوسع، إنه يقترب من حدودنا، قلصنا قواعدنا في كوبا وفيتنام، وما الذي حصلنا عليه؟: قواعد أميركية في رومانيا وبلغاريا، منطقة دفاع صاروخية جديدة يجري تشييدها في بولندا». كل هذا دون أن يقال إن الحرب الباردة الجديدة تبدأ الآن، مع يقيننا أن تردّداتها وتوتّراتها المتنّقلة، لم تتوقف منذ أن بدأت في سنوات القرن الماضي، وهي تتواصل اليوم بعناوين جديدة مختلفة، أقل مراوغة عما شهدناه في السابق، نظرا إلى أن العديد من الملفات الدولية العالقة أو الناشئة، لم تجد لها تسوية مقبولة من جانب قوى النظام الدولي. لذا كان لا بد من إثارة حرب باردة جديدة تأخذ اليوم عنوان التسلح والتهديد بالمزيد من استعراض القوة العسكرية، حيث يبدو التنافس جديا بين مصالح قومية متضاربة. وبالإمكان ملاحظة تكوّن جبهات الحرب الباردة الجديدة راهنا، انطلاقا من هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية على الأقل وما تلاها من حروب الولاياتالمتحدة واحتلالها لأفغانستان ومن ثم العراق، ومتابعة حروبها العدوانية المتواصلة بذريعة مواجهة الإرهاب والدول المارقة ومحاربة الانتشار النووي... إلخ. من ذرائع عسكرة السياسات وتسخينها، بدلا من تبريدها والاتجاه إلى إيجاد حلول ناجعة لها عبر الحوار ومنطق التسويات غير المجحفة، قابل ذلك في سنوات الألفية الجديدة تلك المناورات الدورية بين روسيا والصين، ما أفضى إلى بداية تحالف جديد في مواجهة حلف الناتو والسياسات الأطلسية التي تقودها واشنطن، والتي توّجتها قطبا أحاديا لم ينجح في معالجة الأزمات الدولية المختلفة، الأمر الذي يدفع روسيا بعد استعادة عافية نهوضها الاقتصادي. نحو اللجوء للدفاع عن النفس في مواجهة استبعادها من نادي الدول العظمى، والعودة إلى التهديد بقوتها العسكرية وفتح المجال أمام استعادة زخم تحدياتها في مجال تطوير الأسلحة. فيما تعيد الصين توظيف نهوضها الاقتصادي وانتشارها السلعي عبر العالم لإقامة علاقات براغماتية، جدّدت عبرها تحالفاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في محيطها الإقليمي أولا، ومع دول تمتلك مصادر الطاقة التي تحتاج اليها في العقود القادمة. ونظرا لتماهي الأدوار الإقليمية الدولية التي يمكن أن تلعبها روسيا والصين، إضافة إلى الهند، فإن إمكانية إقامة تكتل أو تحالف ثلاثي أضحى أقرب إلى المنال، اعتمادا على التعاون الاقتصادي المشترك، الآخذ بازدياد معدلاته في ظل الحاجة الصينية الهندية إلى مصادر الطاقة الروسية، رغم أن الرهان الإستراتيجي للهند يتجه نحو واشنطن وليس نحو موسكو أو بكين ، بدليل رفض نيودلهي الدخول إلى منظمة شانغهاي والاكتفاء بموقع المراقب. كما أن دعم إيران من جانب روسيا ومدّها بشحنات الوقود النووي وامتناعها عن تأييد عقوبات دولية ضدها، على خلفية تأكيد روسيا أن طهران ليست في صدد تطوير تكنولوجيا نووية عسكرية، كل هذا يؤكد أن أي أزمة في المنطقة يمكن أن تنتج جراء توجيه ضربة عسكرية أميركية إسرائيلية إلى إيران لن تكون في صالح الولاياتالمتحدة، أو لصالح خروجها من مأزقها الراهن بالعراق، وهذا بالتالي لن يثني الإيرانيين عن إعادة تكرار تطوير تكنولوجيا نووية سلمية مرة أخرى، وربما ذهبت إلى تطوير تكنولوجيا نووية عسكرية عنادا وتحديا، رغم ما يمكن أن تكون قد تعرضت له من هجمات أميركية و/ أو إسرائيلية مدمرة. وفي الوقت الذي أكد بوتين (14/2) أن روسيا لن تنزلق إلى مواجهات مع أي طرف، فقد أطلق تهديدا صريحا بتصويب صواريخ في اتجاه بولندا وتشيكيا وأوكرانيا،إذا تحققت مشاريع توسيع الحلف الأطلسي، محذرا من مواصلة التعامل مع روسيا ب «أساليب استعمارية»، مؤكدا أن بلاده لن تخضع لإملاءات، ومهاجما بعنف سياسات غربية وصفها بأنها حمقاء. وحمل خطاب بوتين الذي كان الأخير قبل الانتخابات الرئاسية؛ مواقف لافتة حيال الشرق الأوسط، تضمنت تحديا مباشرا لواشنطن، إذ قال إن إسرائيل لا يمكن أن تكون دولة يهودية، متسائلا عما يمكن فعله بالسكان الأصليين، وهم يشكلون نسبة لا يستهان بها من المواطنين. وفي ما اعتبر جردة حساب نهائية في نهاية فترة حكمه، أشار بوتين إلى الوضع المتردي عندما تسلم مهمات منصبه، واعتبر أن روسيا كانت على حافة التفتيت كدولة موحدة وثرواتها منهوبة والأطماع العدوانية تتزايد من حولها، محمّلا النخبة الحاكمة في عهد الرئيس السابق بوريس ييلتسين المسؤولية عن الوضع المأساوي الذي وصلت إليه الأمور، كما أشار إلى أياد أجنبية سعت إلى إدخال روسيا في دوامة من الصراعات، معتبرا أن الحرب الشيشانية جزء منها. ولا شك في أن إعلان استقلال كوسوفو، من جانب واحد، يشكل سابقة جديدة تضاف إلى سوابق الخلافات القائمة بين الولاياتالمتحدة كدولة قطبية، وروسيا كدولة عظمى وريثة الاتحاد السوفياتي السابق، وهي ترى إلى دورها الحالي كقوة ناهضة؛ حققت أو هي في سبيلها لأن تحقق كامل أسباب نهوضها الراهن. وفي هذا السياق تسجل المسألة الكوسوفية نقطة خلافية استراتيجية قد تقود إلى مواجهات دبلوماسية متعددة داخل المؤسسات الدولية ومن خارجها كذلك، علاوة على ما يمكن أن يحدث على الأرض من مصادمات عرقية عنيفة. كذلك بات يخشى أن يفتح إعلان الاستقلال الباب واسعا أمام حركة استقلالية واسعة في أوروبا، تضاف إلى توترات الحرب الباردة المتجددة في فضاء العلاقات الدولية، وهو ما كان عبّر عن خشيته من تداعياته الرئيس التشيكي بعد قليل من إعلان البرلمان الكوسوفي إعلان الاستقلال، الذي شجع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية على المطالبة باستقلالهما عن جورجيا، حتى أن الرئيس بوتين كان قبل أشهر قد رفع الصوت عاليا تعبيرا عن معارضته استقلال كوسوفو، جاهرا بالتخوف من أن يدفع مثل هذا الإعلان بجمهوريات استقلالية وجمهوريات حكم ذاتي داخل الاتحاد الروسي لإعلان استقلالها عن روسيا. عن صحيفة السفير اللبنانية 3/3/2008