الفن التشكيلى مجموعة متنوعة من الإبداعات البصرية التى تعكس ثقافات وحضارات الشعوب، ولكل مبدع تجربة تحمل بصمته الخاصة التى تترجمها أعماله..يُعدّ الفنان صلاح عبد الكريم (1925- 1988) واحدًا من أكثر الفنانين المصريين تميّزًا وتفرّدًا في تاريخ الفن الحديث، إذ جمع فى شخصه بين مهارات متعددة جعلته بحق «الفنان الشامل»،فقد كان نحاتًا، ومصممًا، ورسامًا، ومخرجًا للمناظر المسرحية والسينوغرافيا، وصاحب رؤية تشكيلية خاصة أثرت فى الفن المصرى والعربى. كان من أوائل الفنانين الذين استخدموا خامات الحديد والخردة المعدنية فى النحت، محولًا المواد البسيطة إلى أعمال إبداعية ذات طاقة تعبيرية قوية، وقد اشتهر بقدرة استثنائية على تطويع المعدن وصياغته بمرونة تُدهش المتلقى. اقرأ أيضًا | إبداعات الفن التشكيلي في الأكاديمية المصرية ب«روما» مائة عام يمر هذا الشهر قرن كامل على ميلاد الفنان صلاح عبد الكريم، الذى وُلد في 5 نوفمبر 1925، تاركًا أثرًا لا يُمحى في مسار الفن المصري الحديث، وفى إطار هذا الاحتفاء، تستضيف قاعة سفرخان بالزمالك حاليًا معرضًا يضم نخبة من أعماله، ليكون فرصة للجمهور للتعرف على مسيرة فنية غنية، تجمع بين الإبداع فى النحت والتصميم والمسرح، وتعكس عمق رؤية فنان استثنائى جمع بين الحداثة والجذور الشعبية فى أعماله. شارك صلاح فى المعارض القومية والدولية منذ الخمسينيات، وارتبط اسمه بجيل الرواد الذين أسسوا لنهضة الفن التشكيلى بعد ثورة يوليو، كما قدّم إسهامًا كبيرًا فى تطوير السينوغرافيا المصرية، وعمل مع كبار المخرجين، فكان قادرًا على خلق عالم بصرى يثرى العمل الدرامى ويضفى عليه بعدًا تشكيليًا، فضلًا عن مزجه بين الحس الشعبى والخيال، وبين الصرامة الهندسية للمعدن والانسيابية العضوية للأشكال. رؤية متفردة تتلمذ عبد الكريم على يد الفنان الكبير حسين بيكار، الذىاكتشف موهبته مبكرًا أثناء دراسته فى مدرسة قنا الثانوية، فاحتضن بداياته وشجّعه على أن ينظر إلى الرسم بوصفه شغفه الأول ومعشوقه الدائم، وقد أسهم بيكار في صقل مهاراته الأولى وتعليمه أسس الرسم والتعامل مع الألوان، قبل أن ينتقل عبد الكريم مع أسرته إلى القاهرة، حيث التحق ب المدرسة العليا للفنون الجميلة - كلية الفنون الجميلة حاليًا - وتخرج في قسم الزخرفة (الديكور) عام 1947 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، ليُعيَّن معيدًا. واصل شغفه بالتعلم، فسافر إلى فرنسا لدراسة فن الإعلان والديكور المسرحى، ثم كانت روما محطته الثانية، حيث درس الديكور السينمائى، وخاض تجربة التصوير على يد الخزاف الإيطالى سالفاتورى ميلى، وتُوّج مساره الأكاديمى بالحصول على الدكتوراه من المعهد التجريبى للديكور السينمائى، ليعود مسلحًا بخبرة دولية واسعة أسهمت فى تشكيل رؤيته المتفردة. أسس متحف الفنون الجميلة بالقاهرة، وعين عميدًا للكلية عام 1982، ثم نائبًا لرئيس جامعة حلوان عام 1984، وانتخب نقيبًا للتشكيليين عام 1984. الهوس الجميل كان عبد الكريم يعشق القطط عشقًا يصل إلى حد الهوس الجميل، حتى أصبح مشهد عشرات القطط الضالة عند بوابة كلية الفنون الجميلة بالزمالك من العلامات المألوفة لسكان الحى؛ إذ كانت تلك القطط تقف كأنها فى حالة ترقّب، تنتظر وصول حبيبها اليومى وما إن تطأ قدماه أرض الكلية حتى تتبعه فى موكب صغير، ترافقه حتى مكتبه، حيث تستقر أمامه فى هدوء يكشف عن علاقة خاصة ومتفردة. فقد كان صلاح يبادلها هذا الولاء بقدر أكبر من الحنان، فينظر إليها بعين الأب والصديق، ويعاملها بلطف نادر. كان يجلب لها الطعام من منزله خصيصًا، يضعه أمامها ويبتعد قليلًا ليراقبها وهى تأكل، كأنه يتأمل مشهدًا إنسانيًا عميقًا لا مجرد طقس يومى، وكان هذا الفعل يمنحه راحة داخلية وسعادة خفية، كأنه يطعم - عبر هذه الكائنات الوديعة - فقراء العالم جميعًا. الدقة والخيال البصرى تجلّى إبداعه فى الرسوم الصحفية؛ إذ نشر العديد من الرسوم التوضيحية فى الأهرام، وقد اتسمت أعماله هناك بالاختلاف الجذرى عن الشكل المعتاد فى الصحافة المصرية آنذاك. بدأ حضوره في هذا المجال عام 1963 برسمه رباعية لصلاح جاهين، تلتها رسوم متعددة لرواية «الطريق» لنجيب محفوظ، جاءت كلها بروح ابتكارية تجمع بين الدقة والخيال البصرى. ولم يقتصر عطاؤه على النحت والرسم الصحفى، بل امتد إلى فن التصوير، حيث قدم مجموعة من لوحات البورتريه البارزة، إضافة إلى أعمال تناولت موضوعات الحرب والاستعمار والقسوة، مكشفًا عن حساسية فنية عالية وقدرة على تحويل التجربة الإنسانية المؤلمة إلى رؤى تشكيلية نابضة، فضلًا عن تميّزه فى تصميم عدد من الشعارات البارزة، التى أصبحت جزءًا من الذاكرة البصرية المصرية، مثل شعار جامعة حلوان، وشعار اتحاد الإذاعة والتليفزيون، وشعار نقابة الفنانين التشكيليين، وقد عكست هذه الشعارات قدرته الفريدة على المزج بين البساطة والدلالة، وعلى ابتكار بناء بصرى مكثّف يحمل روح المؤسسة ويجسّد هويتها.. وللحديث بقية.