الإبادة الثقافية ليست نتاجا ثانويا للحرب على العراق
* هيفاء زنكنة
هيفاء زنكنة لم يعد هناك في أجهزة الإعلام، الا فيما ندر، ذكر لثروة العراق الحقيقية الدائمة. وأنا لا اعني النفط، اذ انه سيستنفد بعد بضعة عقود، كما هو حال النفط في دول أخرى. دول قد يغلق بعضها لأنها لا تزيد عن كونها مجرد محطات بنزين إن لم تستثمر جديا في سكانها وثقافتهم.
ان ما أصفه بالثروة الحقيقية هي الآثار والمواقع الباقية من أسلافنا، وهي التي احتضنها العراق على مدى قرون، وهي أحدى مكونات الحضارة التي تتجاوز حدود الأراضي العراقية لتتسع للعالم كله.
وهي ثروة تغني البلد وسكانه اقتصاديا فضلا عن قيمتها التي تعتز بها الإنسانية جمعاء ويعتبر العراق حاميا لها بالتعاون مع بقية دول العالم، أو هذا هو المفترض نظريا.
الى ان نرى، بأن نهب هذه الثروة الذي بدأ منذ سنوات الحصار الذي مهد لغزو مغول العصر الحديث، بصحبة مستخدميهم من عراقيي الظلام، لا يزال يمارس على نطاق مستمر يوميا، بدون ان ينبس أحد ببنت شفة.
فالساسة المتقاتلون على المناصب الطائفية والعرقية و' مثقفو العراق الجديد'، اختاروا عصب عيونهم مثل الثيران الدائرة حول الناعورة لكي لا يروا مايجري حولهم من جرائم، ولكي ينفضوا عن انفسهم المسؤولية بنوعيها: مسؤولية المشاركة في الجريمة ومسؤولية العلم بها.
ومن بين الجرائم التي تمر مرور الكرام بلا محاسبة او عقاب الجريمة الأكبر اي تحطيم ثروتنا الحقيقية اما عن طريق النهب والتخريب المباشر او الاهمال وعدم الصيانة والرعاية. وكلا الفعلين يشكلان انتهاكا للمسؤولية التي يفترض على الحكومة 'المنتخبة' تحملها.
وهكذا نرى تراث آلاف السنين ينهب، أو يهدم ويخرب، عمدا، الى أبد الآبدين .
وبينما تغطي أجهزة الإعلام العراقية والعربية تصريحات كل من هب ودب من ' ساسة' العراق أو زيارة المسؤولين الامريكيين على مدار ساعات البث، يحدث بين الحين والآخر ان يمرر خبر صغير ( من باب التسلية والتنويع في آخر نشرات الاخبار عادة) عن الخراب الحقيقي الذي يلم بالبلد وأهله .
من بين هذه الأخبار، ما تمت الإشارة اليه منذ ايام، عن استمرار نبش وسرقة تل جوخا الأثري، مقر دولة اوما التاريخية، شمال الناصرية بمحافظة ذي قار، جنوبي العراق .
اذ تفضلت اللجنة الأمنية بمجلس محافظة ذي قار ب ' التنويه' باستمرار اعمال النبش والسرقة للموقع ' من قبل مجموعات مجهولة نتيجة لضعف الإجراءات الحكومية المتخذة'.
وكأن مجلس المحافظة ولجنته الامنية ليسا من صلب الحكومة. واعلن مجلس المحافظة بانه كان قد شكل لجنة تحقيقية بحادث النهب ولم تعلن النتائج بعد.
وقال نائب رئيس اللجنة جميل يوسف شبيب، لراديو دجلة، ان اعمال النبش والسرقة مازالت مستمرة مبينا انه كان هناك اقتراح بمرابطة قوة امنية في المنطقة الا ان ذلك لم ينفذ بالصورة المطلوبة لحد الآن.
وكما نعلم من سابقات تشكيل اللجان انه لا يعني إجراء تحقيق يؤدي الى نتيجة ما، بل مجرد إعلان يتماشى مع الموضة واسعة الانتشار في 'العراق الجديد'، وهي موضة تشكيل لجان التحقيق بلا تحقيق ولا نتائج.
والكل من رئاسة الوزراء الى مجلس النواب الى قوات الأمن ومجالس المحافظات إلى الدوائر والمؤسسات (ومعظمها كيانات افتراضية) منغمرة بمهمة تشكيل اللجان التي تتلاشى بعد ايام من تشكيلها. ومجلس محافظة ذي قار لا يريد ان يكون نشازا ويخرج على الموضة.
وقد يتبادر الى أذهان البعض ان لجنة التحقيق لابد وان تبدأ بإلقاء بعض الأسئلة على حراس الموقع الأثري الذي يصفه الخبير الاثاري عبد الأمير الحمداني بأنه ' يمثل عاصمة دولة اوما التاريخية التي كونت اكبر إمبراطورية سومرية في عصر الملك لوكال ساركيزي وأسست عام 2550 قبل الميلاد...
وكانت قد ظهرت في هذه الإمبراطورية مكتبات من الرقم الطينية في مجالات الاقتصاد والسياسة والقضاء وفيها معبد مقدس للاله شارا وهو اله المحاصيل والغلة'.
غير إننا سرعان ما نكتشف عبثية حتى إلقاء الأسئلة.
اذ ان هناك حارسا واحدا لهذا الموقع، الذي لو حدث ووجد في اي مكان آخر في العالم، لعومل معاملة الكنوز، وان هذا الحارس المسكين يتولى الاهتمام بمساحة محيطها 9 كيلومترات، وان عدد حراس الاثار في المحافظة يبلغ 98 حارسا فقط يتوزعون على اكثر من 1200 موقع اثري وسط إمكانيات معدمة.
وقد عزت مديرية الآثار عمليات النهب والسرقة إلى عدم وجود اسوار حامية للمناطق الاثرية حيث لم يتم بناء اي سور باستثناء السور المنشأ حول منطقة اور الاثرية جنوب الناصرية.
هناك اذن سببان واضحان لاستمرار عمليات النهب من هذا الموقع وغيره، اتفقت كل الجهات المعنية على تشخيصهما، وهما قلة الحراس وعدم وجود اسوار حامية للمناطق الأثرية.
واذا ما علمنا بان العراق زاخر بالعاطلين عن العمل وان تدريبهم على مهنة الحراسة ليس مهمة شاقة، حيث بالإمكان، في حالة انعدام الميزانية الكافية، تحويل بعض ورشات التنوير بأهمية 'الانتخابات' (بشكل مؤقت لئلا يقال بأننا لا نهتم بها)، الى ورشات تدريب لحماية ثروة البلد الوطنية.
واذا ماعلمنا بان بناء الأسوار لا يحتاج غير توفر اليد العاملة، وهي موجودة بوفرة وبرخص التراب، والى بعض المواد الأولية كالطابوق والاسمنت، لوجدنا بان حماية آثارنا ليست مهمة مستحيلة، خاصة، وان العراق بلد غني، لم يتوقف عن انتاج وتصدير النفط منذ الغزو وحتى اليوم، وقد بلغت موارده من التصدير منذ الإحتلال 350 ملياردولار تقريبا .
فلماذا لم يتم تدريب وتعيين عدد كاف من الحراس وبناء أسوار لحماية المواقع الأثرية، ومليارات الدولارات متوفرة بكميات لم يشهدها العراق من قبل؟
ولماذا تضخمت دوائر الدولة الى ضعف حجمها قبل الاحتلال، وأصبحت أجهزة الأمن بأربع أضعافها، ولم يهتم أحد بتوفير حمايات الآثار؟
القدرة والإمكانيات موجودة اذن فما هو السبب الذي يدفع الى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحق ماضي وحاضر ومستقبل العراق وشعبه ؟
يأتي جواب المراقبين صارخا:
أنه التدمير المتعمد الذي يشارك في تنفيذه مغول الاحتلال ومستخدموه. انهم ينفذون هدفا استراتيجيا متعمدا في تخريب تاريخ شعب وحضارته وذاكرته. انه تخريب لم يحدث بشكل اعتباطي او كناتج ثانوي بسبب شن أمريكا 'الحرب على الإرهاب" او تغيير نظام صدام حسين كما يدعي مستخدمو المستعمر.
انه كما يقول المفكر ليفن دي كاوتر، رئيس محكمة بروكسل عن جرائم الحرب ضد العراق، في حفل توقيع كتاب ' التطهير الثقافي في العراق. لماذا تم نهب المتاحف وحرق المكتبات وقتل الأكاديميين' : ' وفقا لمحرري الكتاب كان هدف الحرب هو 'إنهاء دولة' بدلا من 'بناء أمة'.
وقد تم اتخاذ هذا القرار عندما تحالفت ثلاث جهات: المحافظون الجدد الذين أرادوا إقامة أسس دائمة في إستراتيجية جغرافية للهيمنة العسكرية، وإسرائيل التي لم ترد دولة قوية في 'حديقتها الخلفية'، وصناعة النفط التي أرادت وضع يدها على واحد من أكبر احتياطيات النفط في العالم'.
والا كيف يبرر استمرار أكثر الأفعال همجية في سلب المواطن العراقي هويته وذاته، وتحطيم كل ما يعتز به من ثقافة وحضارة، ونحن في العام الثامن من العيش في ظل 'المحررين' حماة حقوق الإنسان؟
ألسنا نعيش، فضلا عن الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي، حرب إبادة ثقافية مماثلة لما تصفه وزيرة الثقافة الجزائرية السيدة خليدة تومين، قائلة: ' عندما احتل الفرنسيون الجزائر عملوا على تقتيل الشعب و الاستيلاء على خيرة أراضيه ليستوطنوا بها. و أداروا أبشع المجازر و كان الأسوأ بينها حرب الإبادة الثقافية'.
وأكد اربعة من علماء الآثار العراقيين وهم الدكتورة زينب البحراني، أستاذة تأريخ الفنون والآثار في جامعة كولومبيا الامريكية، والدكتورة لمياء الكيلاني باحثة آثارية في معهد الآثار بكلية لندن الجامعة والدكتورة سلمى الراضي الاثارية المتخصصة في صيانة المواقع التأريخية والدكتورة ندى الشبوط أستاذة تأريخ الفنون في جامعة شمال تكساس .
والدكتور دوني جورج أستاذ الآثار في جامعة الدولة في نيويورك ورئيس هيئة الآثار والتراث العراقية سابقاً، في رسالة منشورة لهم على أن المتاحف والمواقع الأثرية العراقية: 'يجب أن لا تقع ضحية لنزوة سياسية آنية وأن يتم التضحية بها من أجل حملات الإعلام والعلاقات العامة نيابة عن الحكومة لان هذه الأماكن لا تعود الى الحكومة بل الى الشعب العراقي وأنه من واجب الحكومة حماية التراث الثقافي نيابة عن الشعب'.
لقد اعتبر العراق المحتل، في السنوات السبع الاخيرة، واحدا من اكثر الدول فسادا في العالم، ويحتل الموقع 145 من بين 175 دولة في مجال حرية الصحافة (حسب مراسلون بلا حدود 2009)، وهو الأسوأ في العالم في مجال التحقيق في جرائم اغتيال الصحافيين، حسب تقرير لجنة حماية الصحافيين الدولية، الصادر في شهر نيسان 2010.
وباستثناء ثلاثة مواقع محمية من قبل اليونسكو باعتبارها من التراث العالمي الذي يجب الحفاظ عليه، وهي الحضر وآشور ( قلعة شرقاط) وسامراء، تبقى بقية آثار العراق ومواقعه التي يبلغ عددها العشرة آلاف معرضة للنهب والتخريب والتآكل، كما هو حال المواطن المقيم تحت ' حماية' الحكومة الأكثر فسادا في العالم.
كان اغلب المواقع الأثرية في الماضي في عهدة الأهالي المحيطين بها، أما بتقاليدهم التي تحرم نبش القبور وسرقتها، أو بشكل منظم من قبل الدولة التي تمول حراستها وتكافئ مراقبيها.
وليس صعبا أن يفرض المجتمع على السلطات الجاهلة في المحافظات وفي بغداد العودة الى تلك الحماية، ولتكن الخطوة الاولى لإسترجاع ما نفقده من هذه الثروة الوطنية عن طريق توثيق تورطهم في النهب.