دكتور كمال حبيب حتي لا يقول جمهور القراء أننا ننشئ مقولات فكرية لا أساس لها من حيث قولنا إن العلمانية سيئة الذكر والصيت ، ولم يعد أحد يقول علمانية وإنما يقول مدنية ، ذلك أن مفهوم مدني أكثر إنسانية وقبولا ، فهو ليس ضد الدين ولا المتدينين ، وليس ضد أن يكون حتي للإسلاميين أحزابهم المدنية بمرجعية إسلامية .
كما هو الحال في الأحزاب الغربية التي يحكم بعضها في أوروبا وهي كثيرة مثل الحزب الديموقراطي المسيحي في ألمانيا مثلا ، فهو ديموقراطي ولكنه مسيحي في نفس الوقت وهو ما يعني أن للمسيحية وجها ديموقراطيا لدي من ينتمون إليه .
وهناك أحزاب مثل أحزاب الخضر وحركات البيئة وغيرها تعتبر أن العلمانية دمرت موارد الكون وأن التصنيع ومنطق الحداثة يفترض أن العلمانية تتمدد دائما مع التصنيع ، حركات الخضر تقول إنه لا بد من التصالح مع الكون واحترام موارده والهبات الكونية التي منحها الله للبشرية باعتبارها ميراثا إنسانيا عاما لا بد منه لتحقيق العمران ، وهو قريب من المفهوم الإسلامي للكون والحياة .
وبينما كنت أطالع الأخبار إذ بي أجد خبرا يقول إن حزب العدالة والتنمية في تركيا يستعد لخوض معركة لتعديل الدستور التركي ، وكما يعلم الجميع فإن الدستور التركي الحالي يعرف بأنه دستور 1982 وهو دستور وضعه العسكر الذين قاموا بانقلاب 1980 وهو دستور علي مقاس علماني ملتحف بقوة العسكر .
وهو موضع انتقاد هائل في تركيا من جميع القوي السياسية ، وعلي سبيل المثال فتركيا عرفت أكبر عدد لإغلاق أحزاب سياسية أغلبها إسلامية أو كردية لأنها ليست علي المقاس العلماني التركي الذي وضعه العسكر ، ومن ثم يمكن في أية لحظة أن يقوم المدعي العام التركي بتقديم دعوي حل لأي حزب حتي لو كان في السلطة ويتم حله .
وقد حدث هذا مع حزب العدالة والتنمية نفسه وهو في السلطة ولكنه أفلت من الحل بتغريمه ماليا ، وكل الحجج التي يقدمها القضاة ويناقشونها من أجل حل الأحزاب هي أنها معادية للعلمانية .
هنا العلمانية أصبحت شكلا فاشيا بل أصبحت دينا لا يمكن لأحد أن يجاوز قواعده مهما كان ، ولمحاولة التعرف علي تلك العلمانية التي نص الدستور التركي علي أنها مادة فيه لا يمكن تغييرها أو الاقتراب منها تجد نصوصا عامة مطاطة تدين من يستخدم رموز دينية أو تعبيرات ذات طابع إسلامي حتي لو كانت بحذر أو بطريق الكناية .
وهو ما كان يحدث فعلا مع الأحزاب التي اسسها د. نجم الدين آربكان " حزب النظام ثم السلامة ثم الرفاه" ، جميعا تم حلها بقرار من قضاة المحكمة الدستورية بناء علي دعوي من النائب العام لأنها أي تلك الأحزاب استخدمت رموزا دينية أو دافعت عن الأقصي والقدس ومن ثم فهي هنا انتهكت العلمانية والدستور العلماني .
نعود مرة أخري للخبر الذي يقول إن العلمانيين في تركيا يعارضون معركة العدالة والتنمية في محاولته تعديل الدستور كشرط لدخول تركيا الاتحاد الأوروبي ، وأبرز ما يطالب به الأوربيون هو تعديل المواد من الدستور التركي التي تتصل بطريقة عمل القضاة وخاصة المحكمة الدستورية العليا وقدرتها علي حل أي حزب سياسي.
وبينما يصرح جميل جيتشيك نائب رئيس الوزراء التركي وهو من العدالة والتنمية بأن دستور 1982 لم يعد يصلح وأنه لا بد من تعديله ويسعي لإقناع المعارضة العلمانية بذلك فإن أكبر حزب علماني معارض في تركيا وهو حزب الشعب وزعيمه " دينيز بيكال " يرفض تعديل الدستور ويصر علي بقائه رغم أن هذا الدستور ضد حرية تشكيل الأحزاب واستمرارها .
ويقول : إن حزب العدالة والتنمية يسعي لتعديل الدستور خشية أن يتعرض للملاحقة والحل ، ورفض حزب العمل القومي اليميني وهو حزب علماني أيضا تعديل الدستور التركي العلماني المتخلف الذي جاوزه الزمن ، كما يرفض القضاة التعديلات لأنهم يرونها مساسا باستقلال القضاء .
كل الدساتير العلمانية في تركيا وضعها العسكر بعد انقلابات متعددة ومعروفة عام 1960 وعام 1970 وعام 1980 ، وهي دساتير يقول مثقفو تركيا عنها بأنها أصبحت بالية ، هناك وفق تقسيمي في كتابي "الدين والدولة في تركيا .. صراع الإسلام والعلمانية" ثلاث جمهوريات عرفتها تركيا الأولي أسسها أتاتورك والثانية أسسها طورجوت أوزال والثالثة يؤسسها اليوم الإسلاميون الأتراك " أردوغان والذين معه ".
يا الله ، إسلاميو تركيا كانوا أوفياء للإنسان والتعددية والحرية وتحطيم الأصنام والأوهام ، وهم أكبر دليل علي دحض دعاوي العلمانيين أن الإسلاميين سيحكمون مرة واحدة ثم ينقلبون علي الديموقراطية ، العلمانيون في تركيا وفي العالم العربي مسيرة واحدة وموقف واحد مع العسكر وضد الإنسان والديمقراطية حين يكون اختيار الشعوب هو الإسلام .
*صحفي وخبير في شئون الحركات الإسلامية جريدة المصريون 28/3/2010