لقد اتاحت لي فرصة البحث في قضايا الإسلام السياسي العربي أن أجري بعض المقاربات المنهجية مع الآخر من الإسلام السياسي في العالم الإسلامي. وخلاصة ذلك هي أنه، ورغم بعض التغيرات التي جاءت على أطروحات بعض الجماعات الاسلامية العربية، وتحديدا حركة الإخوان المسلمين وحزب الدعوة خاصة من حيث تخليهما، لربما العلني، عن توظيف العنف في الوصول إلى السلطة، إلا أنهما قد بقيا كما الأحزاب الاسلامية العربية الأخرى يمثلان حالة من حالات الدعوية السياسية أو بالأحرى الوعظية السياسية.
وإذا ما بتنا متماثلين ومتقاربين في الحالة الفكرية وفي ممارسة العنف على الأرض مع الإسلام السياسي الآسيوي، وتحديدا الإسلام السياسي الباكستاني والأفغاني اللذين لا يقلان دموية ودغماتية عن بعض، إن لم يكن الكثير من فصائل الإسلام السياسي العربي، فإن هذه المقاربة لا تبدو قائمة مع الإسلام السياسي التركي الذي استطاع خلال السنوات العشرين الماضية.
وتحديدا منذ انقلاب العسكر على حكومة أربكان الأب الروحي للإسلام السياسي التركي في التسعينات، أن يحدث تغيرات جوهرية أساسية في مضامين خطابه السياسي وفي الممارسة، بحيث جاء حجم المضامين الدعوية والوعظية قليلا إن لم يكن منتفيا، وكذا قدرته على تحقيق نمو اقتصادي أكبر وتسامح أوسع مع الخارج والداخل، وفي تبنيه لقدر كبير من البراغماتية السياسية وتحديدا في ما يخص العلاقة مع الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل، وهو ما يتناقض بالكامل مع مواقف كل الأحزاب السياسية العربية اليسارية والاسلامية.
بل بدا الحزب أكثر رغبة وبالتالي عملا، من الأحزاب العلمانية والليبرالية، في انضمام تركيا للسوق الأوروبية المشتركة وإن تأخر ذلك حتى عام 2023، لقناعته بأن نموا اقتصاديا حقيقيا لا يمكن أن يحدث دون علاقة فيها قدر أكبر من الشراكة مع الدول الغربيةوالولاياتالمتحدة الأميركية ومنظومة الدول الآسيوية الجديدة..
وبخلاف كل الأحزاب الاسلامية العربية لم يرفع حزب العدالة والتنمية التركي رايات دينية، كما لم يحمل مرشحوه برنامجا لإقامة الدولة الدينية أو يرفعوا اللافتة الإخوانية المعروفة «الإسلام هو الحل» والتي ترفعها كل الأحزاب الإسلامية العربية. بل جاء برنامجه اقتصاديا أكثر من أن يكون أي شيء آخر. وليس بجديد القول هنا ان حزب العدالة التركي قد حقق خلال فترة حكمه السابقه قدرا أكبر من النمو الاقتصادي عجز عن تحقيقه الكثير من الأحزاب العلمانية المختلفة التي جاءت على حكم تركيا في الفترة السابقة.
وتشير استطلاعات الرأي في تركيا قبيل إجراء الانتخابات الأخيرة الى أن اتجاهات التصويت لدى قطاعات مختلفة من المجتمع التركي، قد حددتها معطيات وأسس لا دعوية أو دينية وإنما اقتصادية بحتة. فتصويت الجماعات الاثنية التركية، كالأقليات الأرمنية والكردية ولربما الدينية الأخرى كالمسيحيين والعلويين الأتراك والقطاع الأكبر من المجتمع التركي المسلم، قد بني على أساس أداء الحزب الاقتصادي وليس على أساس راياته الوعظية أو الدعوية التي لم تكن مرفوعة من الأساس. ويعكس هذا قدرة حزب العدالة على إحراز نحو 50% من مقاعد البرلمان التركي.
وقدرته كذلك على تجاوز حالة حزب الرفاه الإسلامي الذي كان يقوده زعيمهم الروحي أربكان والذي لم يحرز في الانتخابات الأخيرة إلا القليل من المقاعد البرلمانية غير المؤثرة.. كما تعكس اتجاهات التصويت هذه، نزوع الحزب نحو تمثيل فئات وجماعات المجتمع التركي المختلفة، في الوقت الذي انشغلت فيه الأحزاب الاسلامية العربية وبشكل غير عادي في تعزيز الفئوية والمذهبية وإقامة المجتمع الطائفي في المجتمع العربي.
وفي الوقت الذي انشغلت فيه الأوساط الدينية العربية وأحزابها الاسلامية بالدعوة لسقوط العلمانية والليبرالية ولربما تكفيرها عند البعض، جاء تصريح رجب طيب أردوغان زعيم الحزب الإسلامي عشية فوزه الكاسح في الانتخابات الأخيرة ليؤكد أن الحزب لن يعمل على تغيير أسس النظام السياسي العلماني القائم في تركيا، بل سيبذل جهدا مضاعفا للمحافظة عليه!! وتعكس هذه الحالة حجم الهوة الثقافية التي تفصل بين الحالتين:
بين حالة ترى في العلمانية سياقا ليس معاديا للدين، وإنما في كونه نظاما دافعا نحو تحقيق مجتمع المواطنة الذي تتساوى فيه الحقوق والواجبات بين كل منتسبي الوطن باختلافاتهم الإثنية والدينية وفي كونه نظاماً قادراً على أن يحقق قدرا أكبر من النمو الاقتصادي وأن يرفع بالتالي من معدلات المعيشة بين الناس كل الناس وأن يقضي على الفقر والجهل بأسبابه المختلفة وأن يقيم مجتمع القانون. وبين حالة لم تر في السابق إلا علامة من علامات السقوط في الهاوية ولربما اقتراب الساعة.
إنها دون شك حالة عقلية - ثقافية باتت مشكلة للحالة السياسية التركية، وإن كان العسكر حارسين لها، إلا أنهم دون شكل ليسوا بقادرين على استمراريتها إلا في إطار استمرار حالة الإصلاح والتحديث السياسي والاقتصادي الجديدة والتي تأخرت تركيا عن اللحاق بها كثيرا وبتنا نحن لأسباب هيكلية لسنا فحسب غير قادرين على اللحاق بركبها وإنما متمنعون عنها بقصد وبرغبة. إلا أن رجب وبخلاف كل ذلك يفوز في رجب ويرينا العجب مرة أخرى. عن صحيفة البيان الاماراتية 31/7/2007