في لقائه مع الإعلامية منى الشاذلي يوم 12 سبتمبر الجاري أكد رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان الذي يزور مصر الآن أن سر نجاح النموذج التركي هو أن العلمانية في تركيا "تقف على مسافة واحدة من كل المواطنين" لا تنحاز لفئة ضد فئة ولا تجامل فئة على حساب أخرى، وهو ما نفتقده في عالمنا العربي والإسلامي، فالمواطن التركي المسلم يعرف أنه سينال كل حقوقه مثله تماماً مثل المواطن التركي المسيحي أو اليهودي أو العلماني، وللأسف الشديد هذا هو جوهر الإسلام الحنيف، فهو لا يعرف التمييز بين إنسان وإنسان بناءً على عرق أو لون أو دين . هذا هو رجب طيب أردوغان الشخصية التي تحولت إلى زعيم ملهم من وجهة نظر العديد من الشعوب العربية، والذي استطاع أن يحقّق لهم بعض الطموح الذي طالما انتظروا من زعمائهم القيام به لسنوات. أصول إسلامية يحلو لكثير من الإسلاميين خاصة المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين وحزبها المقارنة بينهم وبين أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية"، ويسعى الإخوان - ولو نظرياً - إلى تطبيق النموذج التركي - أو هم يحاولون ذلك - معتمدين على أن حزب العدالة والتنمية له جذور إسلامية، وهو ما يفسر الحفاوة الكبيرة التي لاقى بها الإخوان أردوغان في مطار القاهرة، ولكن هذا الأمر فيه خلط وسوء فهم كبيرين. فأردوغان جاء إلى الحياة السياسية من خلفية إسلامية يشاركه في ذلك الرئيس التركي عبد الله جول حيث كان كلاهما من تلامذة نجم الدين أربكان أحد أقطاب التيار الإسلامي في تركيا والذي أسس العديد من الأحزاب الإسلامية وتم حلها بداية من حزب "النظام" إلى حزب الفضيلة، مروراً بأحزاب السلامة ، والرفاة، وقد شاركاه العمل السياسي والحزبي لسنوات، ولكن بعد حل حزب الرفاة الإسلامي اتجه أربكان إلى تأسيس حزب الفضيلة ثم السعادة لكن أردوغان وصحبه أدركوا أن في الأمر خطباً ما فقرروا التفكير بشكل براجماتي وتم الانفصال الفكري والعقائدي بينهم وبين معلمهم أربكان - الإسلامي النزعة والتوجه - وأسسوا حزبهم الجديد "حزب العدالة والتنمية"عام 2001 م والذي يعد أقرب إلى الأحزاب التركية القومية لا إلى الأحزاب الإسلامية العربية وإن كانت قياداته معظمها لهم جذور إسلامية. علمانية بنكهة إسلامية هذه هي قصة الخلط الشائع لدى الكثير من العامة بل وبعض المثقفين في مصر والدول العربية فأردوغان زعيم مسلم لكنه يحكم دولة علمانية طبقاً للدستور وهذه هي النقطة الأهم التي يجب علينا أن نتوقف عندها، فعلى عكس ما نراه في الدول العربية والإسلامية من تخوين واتهامات بين العلمانيين والإسلاميين أو البعض من الفريقين إن شئنا الدقة، فلم نسمع في تركيا عن اتهام الإسلاميين للعلمانيين بالكفر والزندقة والخروج من الملة، ولم نسمع من العلمانيين اتهامهم للإسلاميين بأنهم محدودو الفكر وأن الإسلام لا يصلح كنظام حكم، وهذا من وجهة نظري هو سر نجاح النموذج التركي فيما فشلنا فيه نحن العرب والمسلمين، فلم نسمع يوماً أن أردوغان وهو الزعيم ذو الجذور الإسلامية أنه نادى بتطبيق الشريعة الإسلامية أو فرض الجزية على غير المسلمين، ولم يطالب يوماً بتطبيق حد الحرابة أو يطالب بتفريق بين رجل وزوجته، ومع ذلك هو يسعى إلى توسيع ونشر قيم إسلامية يراها مثالية وناجحة في علاج مشاكل بلده، وهو يدافع عن الحرية والحقوق الأساسية ويرى أن الإسلام مليء بالقيم والأخلاقيات التي يمكن أن تصلح حال المجتمع التركي فنراه يدافع عن حق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب واعتبر ذلك من أبسط الحقوق الشخصية لأي مواطن. الأرقام تتكلم لا يجب أن نعتقد أن المواطن التركي يذهب إلى صندوق الاقتراع ويختار مرشحي حزب العدالة والتنمية لكونهم مسلمين أو يطالبون بتطبيق شرع الله؛ بل إن المحرك الأساسي يكمن في الإنجازات السياسية والاقتصادية التي حققها هذا الحزب وقياداته الأمر الذي أهّله بالفوز بالأغلبية البرلمانية في ثلاث انتخابات متتالية، فقد استطاعت حكومة أردوغان أن تنهض بالاقتصاد التركي وتحوّل حالة الركود والتضخم الاقتصادي إلى حالة نمو غير مسبوقة ولا يجاريها في الوقت الراهن إلا تجربة البرازيل في عهد لولا دا سيلفا، فقد تحولت تركيا إلى قوة اقتصادية فاعلة وانتقلت لتصبح في المرتبة السادسة عشرة على مستوى اقتصاديات العالم، وانخفض معدل التضخم الاقتصادي في حين ارتفعت معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا التحسن شعر به المواطن التركي البسيط الذي يعتنق الفكر العلماني، كما شعر به المواطن التركي ذو الأصول والاتجاهات الإسلامية. فلنبدأ بالقضاء على الفساد لخّص أردوغان فكرته في الإصلاح السياسي والاقتصادي في جملة واحدة وهي القضاء على الفساد وهي الخطوة التي يراها الأولى قبل غيرها من خطوات الإصلاح: "عندما تقضون على الفساد ستجدون الموارد التي تستطيعون تطوير البلاد بها"، وهي خطوة منطقية قام هو ذاته بها، فحين تولى مسئولية بلدية استانبول قام بالقضاء على الفساد قبل أن يقوم بإغلاق بيوت الدعارة، ومن هنا انطلقت تركيا في نهضتها ونموها الاقتصادي، ولم يهدر أردوغان وقته في الحديث عن إنجازات وأرقام وهمية حول التنمية بل ترك العالم يشاهد تجربته ويتحدث عنها وينبهر بها. أتاتورك .. وأردوغان بالرغم من كون الأول أبو العلمانية التركية والذي تنكّر لكل ما هو إسلامي وأرسى دعائم العلمانية في تركيا؛ فإن الثاني ذا الأصول الإسلامية لم يحاول أن يقضي على العلمانية أو يقاومها إلا بالقدر الذي يضمن حقوق كل المواطنين، ونراه يتحدث عن الأنظمة التي تتعامل مع شعوبها بتكبر واستعلاء ويؤكد أن مصيرها الحتمي هو الزوال، ويرى نفسه أن الحاكم هو خادم الشعب ومنفذ إرادته وهو ذات الكلام الذي نسمعه من قادتنا ولكن شتان ما بين التجربتين! إن أردوغان يعي تماماً أبعاد اللعبة السياسية في تركيا، فهو يقر أنه مسلم يشغل منصب رئيس وزراء في دولة علمانية، وهو يدرك مخاطر الانقلاب على الدستور، ويؤكد على أن الدولة العلمانية لا تنشر اللادينية ولا تدعو إلى الإلحاد والكفر ويطلب من الشعب المصري أن يعيد النظر في رؤيته للعلمانية. **باحث مصري