حلقة جديدة من حلقات الصراع بين الاسلاميين والعلمانيين في تركيا شهدتها هذه المرة ساحة المحكمة الدستورية العليا التركية عندما اجتمع القضاء في جلسة التوصل الي قرار حول دعوي حظر حزب العدالة والتنمية ومنع رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان والرئيس التركي عبد الله جول و71 من الأعضاء البارزين في حزب العدالة والتنمية من الانتماء لعضوية الاحزاب السياسية لمدة خمس سنوات بتهمة مخالفة مبادئ علمانية الدولة التركية وهي التي وجهها إليهم المدعي العام التركي عبد الرحمن يالشينكايا في مارس الماضي واصفا الحزب بأنه بؤرة انشطة تتعارض مع العلمانية . قرار المحكمة الدستورية برفض دعوى حظر الحزب التي رفعها النائب العام بعد مناقشات دامت حوالي ثلاثين ساعة جاء ، بأغلبية ستة (مقابل خمسة رافضين) من الاعضاء، واكتفت المحكمة باستقطاع نصف المساعدات المالية التي يحصل عليها الحزب من الخزانة العامة. هذا الحكم اللافت في مرونته اعتبرته اوساط حكومة رجب طيب أردوغان «انتصارا للديموقراطية»، فيما اعربت الاوساط العلمانية المتشددة عن خيبة املها ازاء هذه النتيجة التي توصل اليها القضاة .. تعريف بحزب العدالة والتنمية .. حزب العدالة لم ينشأ في الأصل نشأة سياسية طبيعية، فهو حصيلة مخاض فكري عرفته حركة دعوية اقتنعت بضرورة المشاركة السياسية، وأنتجت رؤية جديدة تعتبر العمل السياسي تخصصا، وأفردت له رؤيته السياسية، وأنتجت أداتها السياسية لتصريف هذه الرؤية . تم تشكيل حزب العدالة والتنمية من قبل النواب المنشقين من حزب الفضيلة الإسلامي الذي تم حله بقرار صدر من محكمة الدستور التركية في 22 يونيو 2001، وكانوا يمثلون جناح المجددين في حزب الفضيلة. تاريخ التشكيل: 14 أغسطس 2001 رئيس الحزب: رجب طيب أردوغان وقد انتخب رجب طيب أردوغان عمدة إسطنبول السابق وأحد البارزين في الحركة السياسية الإسلامية في تركيا كأول زعيم للحزب. وحزب العدالة والتنمية هو الثالث والتسعون بعد المائة ضمن الأحزاب السياسية التي دخلت الحياة السياسية التركية. توجهه الفكري .. يشكل هذا الحزب الجناح الإسلامي المعتدل في تركيا، ويحرص على ألا يستخدم الشعارات الدينية في خطاباته السياسية، ويؤكد أنه لا يحبذ التعبير عن نفسه بأنه حزب إسلامي، فهو حزب يحترم الحريات الدينية والفكرية ومنفتح على العالم ويبني سياساته على التسامح والحوار، ويؤكد عدم معارضته للعلمانية والمبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية، كما يؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ويؤكد أنه سيواصل تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يجري تطبيقه في تركيا تحت إشراف صندوق النقد الدولي مع نقده لبعض جوانبه. ويرفض الحزب أي عملية عسكرية ضد العراق. أهم مميزاته أنه يرفض التعصب لزعيم واحد حتى النهاية، ويعد بديمقراطية واسعة النطاق داخل الحزب. استمرار التحدى .. وبعد صدور قرار المحكمة الدستورية بعدم الحظر توقع بعض المراقبين ان يستمر حزب العدالة والتنمية في تحدياته ضد القوى العلمانية وتطبيق برنامجه السياسي، بما في ذلك صياغة دستور جديد للبلاد، يحد من صلاحيات المحكمة العليا ويضع حدا نهائيا لدور العسكر في الحياة السياسية. حيثيات الحكم .. يذكر ان وكيل النيابة العامة تلا مرافعته امام المحكمة العليا في 28 يونيو، ورد نائب رئيس الوزراء ووزير العدل السابق جميل شياشاك بصفته محامي الدفاع على اتهامات المحكمة في 3 يوليو، فيما اوصى مقرر المحكمة عثمان جان اعضاء المحكمة برفض طلب وكيل النيابة العامة باعتبار ان حظر نشاط الاحزاب السياسية يتناقض مع الدستور ومع ابسط معايير الديموقراطية. وقرار الحظر يحتاج الى تصويت سبعة من الاعضاء فيما قرار منع العمل السياسي لا يحتاج الى هذه الاكثرية «الراجحة». تعريف بالمحكمة الدستورية التركية: اسست في عام 1962 وتضم 11 قاضيا واربعة قضاة احتياطيين،يعينهم رئيس الجمهورية، ومهمتها التحقق من ان القوانين التي يتم تبنيها في البرلمان مطابقة للدستور، وتتحقق المحكمة من تطابق القوانين ومشاريع القوانين والترتيبات الداخلية للجمعية الوطنية مع الدستور، وهي تراقب مدى ملائمة التعديلات الدستورية في الشكل حصرا، كما ان المحكمة الدستورية مخولة بحظر الاحزاب السياسية. وقامت السلطات القضائية التركية منذ عام 1960 باغلاق وحظر اكثر من عشرين حزبا سياسيا – اغلبها من الاحزاب الاسلامية والكردية - بدعوى تشكيلها تهديدا للقيم العلمانية والوحدة الوطنية. الا ان هذه هي المرة الاولى التي تطال فيها الملاحقة القضائية حزبا حاكما يتمتع باغلبية برلمانية ساحقة. أحزاب اسلامية سبق حظرها: - اول الاحزاب الاسلامية التي تم حظرها في 1971، حزب النظام الوطني الذي اسسه نجم الدين اربكان اول رئيس وزراء اسلامي في تاريخ تركيا، الذي مارس مهامه لمدة عام قبل ان يجبر على الاستقالة في يونيو 1997 تحت ضغط الجيش حارس القيم العلمانية في تركيا. - حزب الانقاذ الوطني، ثاني حزب اسسه اربكان،اصبح محظورا أيضاً منذ الانقلاب العسكري في 1980. - حزب الرفاه،وهو ثالث حزب اسسه اربكان،واصبح محظورا في 1998 . - ثم حزب الفضيلة في 2001، ومن صفوف هذه الاحزاب تدرج عدد من كبار المسؤولين في حزب العدالة والتنمية بينهم رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان والرئيس التركي عبدالله جول. جدير بالذكر أن أولى محاولات الصعود الإسلامي السياسي كانت في عام 1995م عندما أحرز حزب الرفاه الإسلامي النصر في الانتخابات البرلمانية وأصبح زعيمه نجم الدين أربكان رئيساً للوزراء في عام 1996م على خلفية التحالف الذي جمع حزب الرفاه مع حزب الطريق القويم الذي تقوده الزعيمة تانسو شيلر. ولكن هذا التحالف لم يستمر طويلاً فقد نجحت المحكمة الدستورية في حظر حزب الرفاه وزعيمه أربكان بتهمة معاداة العلمانية. ولم تتوقف محاولات الإسلاميين الأتراك، واستطاع الثنائي عبد الله جول – رجب طيب أردوغان في 14 اغسطس 2001م تكوين حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي كحزب إسلامي محافظ – معتدل، قادر على التعايش مع العلمانية والتقاليد الليبرالية الغربية. واستطاع الحزب أن يحقق صعوداً سياسياً كبيراً في انتخابات عام 2004م عندما حصل على 42% من الأصوات، وفي انتخابات 22 يوليو 2007م حصل على 46.6% من الأصوات بما أتاح له السيطرة على 341 مقعداً من إجمالي مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعداً. السند الشعبي الكبير لحزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي أتاح له السيطرة على البرلمان ومنصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء إضافة إلى الحقائب الوزارية الرئيسية، وعلى مستوى قاعدة الحكم استطاع الحزب السيطرة على 71% من البلديات التركية. ويرى المراقبون أن حزب العدالة والتنمية بالرغم من نفيه عن نفسه الصفة الإسلامية، وتأكيده احترامه للنظام العلماني في تركيا الذي يكرّس الفصل الحادّ بين الدين والدولة وهيمنة الدولة على الدين،إلا أن هناك عوامل تجعله يصنف كحزب إسلامى منها: أن الحزب خرج من عباءة حزب الرفاه الإسلامي، ثم وريثه حزب الفضيلة اللذين أسّسهما نجم الدين أربكان أحد رموز التيار الإسلامي في تركيا. كما أن معظم قيادات حزب العدالة والتنمية وكوادره الوسيطة لها تاريخ معروف كناشطين أو رموز للتيار الإسلامي حتى قبل تأسيس حزب الرفاه ويأتي على رأس هذه القيادات رجب طيب أردوغان وعبد الله جول وبولنت أرينج وعبد اللطيف شنر.. ويتخوف غلاة العلمانية في تركيا من حزب العدالة والتنمية، ويرون أنه يخفي أجندته الإسلامية؛ لأنه استفاد من تجربة صدام حزب الرفاه مع السلطة، والذي انتهى بحملة عام 1998 بعد تدخل الجيش ضده في فبراير 1997. كما ان الحزب لا يشبه الأحزاب العلمانية القائمة، ومن ثم فإنه يتجاوز التصنيفات القائمة.. طلب المدعي العام .. وكان وكيل النيابة العامة عبدالرحيم يالتشين كايا قد اقام دعواه ضد العدالة والتنمية في 14 مارس، داعيا لحظر نشاط الحزب ومنع 71 من قياداته، بمن فيهم الرئيس جول ورئيس الوزراء اردوغان واعضاء المكتب التنفيذي و39 من اعضاء البرلمان، من ممارسة العمل السياسي لمدة خمس سنوات بعد ان اتهمهم بالعمل على تغيير النظام العلماني واقامة نظام اسلامي. في غضون ذلك، دعا اردوغان اعضاء الكتلة البرلمانية للعدالة والتنمية الى اجتماع طارئ لمناقشة مجمل التطورات الاخيرة، واعلن أن حزبه سيواصل السير على طريق حماية القيم الجمهورية ومنها العلمانية. صراع قديم .. والصراع قديم جدا بين العلمانيين والاسلاميين، أى منذ تأسيس الجمهورية على أنقاض الخلافة العثمانية عام 1923. وقد نجحت المؤسسات العلمانية وعلى رأسها الجيش والقضاء والأجهزة الأمنية فى قطع الطريق أمام كل محاولات المس من المبادئ الكمالية وقد اطاحت أربعة انقلابات فى القرن الماضى باكثر من حكومة وآخرها حكومة أربكان، زعيم حزب الرفاه الذى اضطر الى تقديم استقالته تحت ضغط العلمانيين. وفى الواقع فإن ما تراه النخبة العلمانية من خلال سياساتها من حماية للمبادئ العلمانية فإنه يبدو فى نظر الكثيرين ضربا للمسار الديمقراطى فى تركيا. وعادة ما يختص الجيش، بحسب الظروف، بتحديد مفهوم العلمنة ومبادئ الفصل بين الدين والدولة. وهو ما يفسر تدخله المتواصل فى السلطة. غير أن الخط النمطى الذى سارت عليه دواليب السلطة فى تركيا بدا مختلفا مع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة. فالحزب ارتقى الى السلطة من خلال عملية ديمقراطية وحاز على 47 بالمائة من الأصوات فى الانتخابات العامة. وقد نجح فى سحب البساط من تحت أقدام العلمانيين باستحواذه على اهم مؤسسات الدولة، الحكومة والبرلمان والرئاسة. كما عزز الحزب من شعبيته فى الداخل بفضل الكاريزما التى يتمتع بها رئيسه اردوغان ونجح كذلك فى تبييض صورته كحزب اسلامى معتدل امام الغرب. ويرى المراقبون ان جهاز القضاء قد جازف فى النظر فى امكانية حل الحزب، قياسا الى انجازاته وارتباط الاستقرار السياسى والنمو الاقتصادى للدولة بسياساته وخططه المستقبلية. ردود افعال .. ولقد لقي القرار الذي أصدرته المحكمة الدستورية برفض دعوى حل حزب العدالة والتنمية الحاكم ترحيبا دوليا واسعا، في حين تعهد زعيم الحزب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بأن يستمر حزبه في الدفاع عن العلمانية. وقد عبرت الولاياتالمتحدة عن "ثقتها بالديمقراطية التركية" بعد قرار المحكمة الدستورية. وأعربت واشنطن على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض شون ماكورماك عن أملها بأن تواصل تركيا "الإصلاحات السياسية الضرورية" التي تسمح لها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. طريق أوروبي وبدورها دعت الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي الفرقاء الأتراك إلى حل خلافاتهم السياسية "بروح من الحوار والتوافق واحترام دولة المبادئ والحريات". ودعت المفوضية الأوروبية تركيا إلى "أن تستأنف الآن بقوة الإصلاحات لتحديث البلاد". ورأى الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد خافيير سولانا في قرار المحكمة عدم حل حزب العدالة والتنمية "نبأ سارا"، متمنيا أن يعيد "الاستقرار السياسي" إلى تركيا. أما بريطانيا فرأت أن القرار يؤكد أن تركيا تستطيع أن تتبع "طريقا ديمقراطيا وأوروبيا أكثر"، وقال وزير خارجيتها ديفد ميليباند في بيان "إن أصدقاءنا الأتراك لديهم كل الأسباب ليهنئوا أنفسهم بالقرار الذي اتخذته المحكمة الدستورية . وأضاف ميليباند أن "هذه القضية صرفت تركيا عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية والدستورية التي تحتاجها لتصبح عضوا" في الاتحاد الأوروبي. وقال إن "الأولوية ستصبح الآن التركيز على هذه الإصلاحات". من جهته رحب حزب العدالة والتنمية التركي بحكم المحكمة، وأكد زعيمه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان التزامه "بالمبادئ العلمانية للجمهورية التركية". وقال أردوغان إن حزبه "لم يكن يوما بؤرة لأنشطة مناهضة للعلمانية" كما اتهمه المدعي العام، وأضاف أن العدالة والتنمية "سيواصل حماية القيم الجمهورية" ومنها العلمانية. وبدوره اعتبر رئيس البرلمان التركي كوكسال توبتان العضو في حزب العدالة والتنمية أن قرار المحكمة سيكون له "تأثير إيجابي جدا من أجل الحد من التوتر" الذي أثارته هذه القضية، و"سيرفع مستوى الديمقراطية في تركيا". الحلم الأوروبي .. وحلم الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي لايغيب عن الطموح التركي وفي ظل تلك التطورات التي تمر بها البلاد لابد أن يتم التطرق لتلك المسألة, وما يمكن أن تسفر عنه الأحداث وتأثير ذلك علي الطموح التركي للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي. والأمر لايقتصر علي ذلك بل لا يمكن أن نغفل ما لأنقرة من دور في أي مفاوضات تجري بين سوريا وإسرائيل سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة, كما أنه من الصعب أن نغفل ما يمكن أن تلعبه أنقرة من دور في أزمة إيران النووية. وبالطبع فإن قرار المحكمة الدستورية التركية سيكون له تأثيرات سواء بالسلب أو الإيجاب علي جميع تلك التفاعلات. ولايخفي أن تركيا حاليا تقع بالفعل تحت الميكرسكوب بالنسبة للاتحاد الأوروبي ويحسب للحكومة التركية الحالية بقيادة رجب طيب أردوغان أنها بدأت أول مفاوضات لانضمام تركيا إلي الكتلة الأوروبية سواء طالت تلك المفاوضات أم قصرت. ووضع تركيا في تلك الحالة يجعل أي حدث يقع في الداخل التركي يكون محل تحليل دقيق علي الصعيد التركي. والحقيقة أنه في ظل سعي أنقرة للحصول علي عضوية الاتحاد الأوروبي دخلت تركيا والجانب الأوروبي منذ حوالي3 سنوات في مفاوضات ماراثونية وذلك بمعدل جولتين في العام بغية التأكد من مدي تلبية الجانب التركي لشروط ومتطلبات العضوية التامة. ومنذ بدء هذه المفاوضات في أكتوبر2005 تم فتح ستة فصول فقط من أصل35 فصلا فيما ينتظر التطرق لفصول أخري. والواقع أن هذه المفاوضات تسير بوتيرة بطيئة للغاية. والذي يؤكد غرابة مفاوضات تركيا والاتحاد الأوروبي هو حقيقة أنها تدور في حلقة مفرغة حيث أقدمت الدول ال27 المشكلة للاتحاد, في مسعاها لمعاقبة أنقرة علي رفضها السماح للسفن والطائرات القبرصية بدخول موانيها ومطاراتها باستبعاد8 فصول متعلقة بالوحدة الجمركية من المفاوضات وتركت باقي الفصول مفتوحة بدون نتائج أو توصيات محددة. والواقع أن فرنسا لا تخفي معارضتها لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي, ولذلك فهي لا ترغب في مناقشة ملفات مع سلطات أنقرة من شأنها- في حال الاتفاق حولها- أن تضمن لتركيا العضوية التامة في الاتحاد. وهي تقترح عوضا عن ذلك شراكة مميزة بين الجانبين. موقف غريب آخر في العلاقة التركية الأوروبية ذلك الذي عبرت عنه اللجنة الأوروبية علي لسان المفوض الأوروبي المكلف بالعضوية' أولي رين' والمتعلق بالتحقيق الذي بدأته المحكمة الدستورية في تركيا بهدف حظر حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم' لإساءته لمبدأ العلمانية', حيث اعتبرت اللجنة الأوروبية هذا التحقيق انتهاكا صارخا للديمقراطية واضعة بذلك سلطة صناديق الاقتراع أمام سلطة رجال القضاء. ووصفت اللجنة الأوروبية القضية المعروضة أمام المحكمة الدستورية التركية بأنها نوع من الجدل السياسي وليست قضية تحقيق قضائي. وغرابة الموقف السابق تكمن في أن الاتحاد الأوروبي من البديهي أنه لايحبذ مجيء حزب ذو أصول إسلامية كحزب أردوغان إلي السلطة في تركيا ولكن ذلك الحزب جاء بصناديق الاقتراع أي بصورة ديمقراطية ومن هنا لابد من تأييد بقائه في الحكم حسب وجهة النظر الأوروبية. المشكلة أن الحزب أخل بمبادئ العلمانية التركية فبالتالي من المرجح جدا أن تحكم المحكمة الدستورية التركية بوجوب إغلاقه. وفي هذه الحالة ستكون أنقرة قد تعرضت لانتكاسة ديمقراطية حسب وجهة النظر الأوروبية وتتأخر بناء علي ذلك مفاوضات الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي. ويكفي أن نتذكر أن تركيا تقدمت للانضمام للمجموعة الاقتصادية الأوروبية أول مرة عام1959 وحتي الآن مازالت المسألة معلقة. أما بالنسبة للمفاوضات التي ترعاها أنقرة بين سوريا وإسرائيل فمن الطبيعي أن أي تغيير علي أي صعيد في تركيا سيؤثر بالسلب علي سيرها وإمكانية إحراز تقدم فيها. نجاحات للحزب .. ويحسب للحزب كما يقول المحللون نجاحه فى اطلاق مفاوضات الانضمام الى الاتحاد الأوروبى مع المفوضية الأوروبية فى نوفمبر عام 2005، فى الوقت الذى فشلت فيه عدة حكومات علمانية سابقة فى حلحلة المفاوضات مع الأوروبي. كما نجح فى انعاش الاقتصاد التركى الذى كان خارجا فى 2001 من احدى اسوأ الازمات فى تاريخه. فمن المعروف عن الحزب منذ وصوله للسلطة في عام 2002 حرصه على تطبيق سياسات براجماتية ساهمت في خلق انتعاش اقتصادي قادت الدولة إلى الانفتاح على الغرب أكثر وأكثر ، كما حرر الاقتصاد التركي من سيطرة رءوس الأموال الغربية واليهودية المعروفة ب"رءوس الأموال الساخنة"، والتي يضعها الأجانب في البنوك التركية للاستفادة من الفائدة الكبيرة ولكنها لا تدخل في أي صناعة أو مشروعات وعند حدوث أي أزمة سياسية في تركيا وشعور هذه الأموال بخطر على مصالحها تنسحب فورا من الأسواق التركية وعندها تؤدي إلى خلل في التوازن العام للاقتصاد فورا وتظهر أزمات اقتصادية خانقة تعيد الاقتصاد التركي إلى الوراء مثلما حصل عام 1999 وعام 2001. بجانب نجاحه في جذب الودائع العربية والإسلامية خاصة التي خرجت من بنوك الولاياتالمتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، لتحقيق التوازن بينها وبين الأموال الغربية واليهودية، وبلغت الأموال العربية عام 2006 ما يقرب من 20 مليار دولار من أصل 50 مليار هي قيمة إجمالي الودائع في البنوك التركية. وتكمن المفارقة أن حزب العدالة والتنمية يعد فى نظر الغرب أكثر الاحزاب التركية التى استطاعت فى ظل الحكومة ان تقترب من "معايير كوبنهاجن" التى حددتها المفوضية الأوروبية كشروط مسبقة للانضمام الى الاتحاد وذلك بعد اتخاذه لخطوات اصلاحية هامة فى المجالات القانونية والاقتصادية والسياسية. غير ان كل هذه الاصلاحات والخطوات الطموحة التى أقدم عليها حزب العدالة والتنمية منذ وصوله الى السلطة فى نوفمبر عام 2002 فإنها لم تقنع منتقديه الذين يأخذون عليه محاولته الغاء قانون حظر الحجاب فى الجامعات ويتهمونه بمحاولة اسلمة المجتمع التركى فى الخفاء. وفى النهاية فإن اكتفاء الجهاز القضائى بتحذير حزب العدالة يكون بذلك قد حفظ ماء الوجه بالنسبة للمعسكر العلمانى وجنب بذلك تركيا الانزلاق فى دوامة سياسية جديدة من شأنها ان تهدد استقرارها السياسى ونموها الاقتصادي. والأهم من ذلك هو تجنيب الأتراك دفن حلمهم الاوروبى بأيديهم من خلال توفير ذريعة للأوروبيين بتعليق مفاوضات الانضمام، التى تعتبر هدفا وطنيا فى تركيا تشترك فيه جميع الأطياف السياسية. ومع خروجه سالما من المواجهة مع المؤسسة القضائية، أكد حزب العدالة والتنمية مرة أخرى قدرته على القفز فوق الحواجز ونجاحه فى التعامل مع حراس المؤسسات العلمانية وهو ما يعكس استفادة أردوغان ورفاقه من تجاربهم السابقة فى مواجهة ركائز النظام العلمانى المتشدد الذى ارسى دعائمه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة.