مستعيداً ذكريات الحب والصبا جابر عصفور يبحث عن لبني عبد العزيز ومريم فخر الدين لهنّ - شيرين صبحي دكتور جابر عصفور يأخذنا الحب الأول إلى أفق غواية ساحرة تقودنا إلى عوالم بهيجة نسعد بها زمنا طويلا، فتصبح الحبيبة الأولى في سنوات العمر الباكر كالهلال الذي أفرط في علوه، وحتى عندما يفشل هذا الحب بسبب اصطدام مثاليته بواقع الحياة يظل باقيا في النفس كالواحة الظليلة التي تلجأ إليها الروح هربا من جحيم الحياة. لا يزال د. جابر عصفور يذكر هذا الحب الأول الذي مر به خلال فترة الصبا، والذي يحدثنا عنه في سيرته الذاتية الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية تحت عنوان "زمن جميل مضى"، فيقول "كان حلما وهميا عذبا، أكثر رومانسية من وسادة عبد الحليم حافظ، ربما لأن عبد الحليم كان في المرحلة الثانوية، وأنا في المرحلة نفسها، إن لم تخني الذاكرة. ولكني أذكر جيدا أنني قرأت "بين الأطلال"، و"إني راحلة" ليوسف السباعي، وروايات محمد عبد الحليم عبد الله، فضلا عن الترجمات المتاحة لرواية "غادة الكاميليا" وغيرها من الروايات التي كانت تؤكد فينا أفكارا عجيبة لأغاني التذلل للحبيب، ولا انسي ما كنت تنشد به أم كلثوم "عزة جمالك إيه، من غير ذليل يهواك". وهو المعنى الذي وجدته فيما بعد في بيت علي محمود طه الذي أذكره: "وإن أشهى الأغاني في مسامعنا / ما سال وهو حزين اللحن مكتئب".. هكذا صار الحب عندي معاناة لا يعرفها المحبوب، وتضحية بالنفس في صمت". كان لأحد أصدقاء صبا عصفور، أخت صغيرة يصفها بأنها "صبوحة الوجه، عذبة الملامح لم تفارق براءة الطفولة رغم دخولها في سنوات المراهقة الأولى"، وكان يراها كثيرا بسبب علاقته بأخيها، ويبدو أن حاجته إلى أن يقوم بدور العاشق الحالم - كما يقول - دفعته إليها، وأن يجعل منها ملاكه الذي أحتوى صورته في فؤاده، فأسماها "ربة الوحي والإلهام"، وصار يكتب لها أشعارا ساذجة – على حد وصفه – لكنها صادقة في تجسيد ما كان يشعر به حينذاك. بالطبع لم يستطع عصفور أن يقل لها شيئا، لكن ارتباكه كان يزداد كلما كان في حضرتها، فكانت تمنحه بسمة بريئة دائما – لم يكن يتردد في تفسير هذه البسمة حسب أوهامه – لكنه لم يجرؤ عن قول شيء لأخيها، فقد كان الحديث عن خطوبة مستحيلا لطالب لم يتجاوز المرحلة الإعدادية بعد..! ظل ذلك الطالب الصغير في تلك الأيام البعيدة يتابع حبيبته ويعاني في صمت، ويتتبعها دون أن تلاحظه في بعض تجولاتها، وظل الأمر على هذا الحال إلى أن دخل المدرسة الثانوية، وانتقل من قراءة العشاق الحالمين في الروايات الرومانسية، ووضعته روايات نجيب محفوظ عن الواقعية النقدية على أرض صلبة. لكن السبب الحاسم الذي ألقى بناقدنا على أرض الواقع الخشن، محطما كل أوهامه الرومانسية، هو مطلقة شابة كانت تسكن في المنزل الذي يسكن فيه، وكانت تعيش مع والدتها التي كانت تاجرة بعد أن توفي زوجها، فما كان منها إلا أن زوجت ابنتها الشابة زواج مصلحة، لكنها طلقت بعد فترة من الزمن. عادت الشابة إلى بيت والدتها، فكان يراها ذلك الفتى - الذي أصبح يافعا في المرحلة الثانوية - في غدوه ورواحه. كانت باسمة الوجه دائما، تبحث عن مبررات لتبادل الحديث، فقد كان أقرب إليها عمرا، وشيئا فشيئا دون أن ينتبه أحدهما، تعلق كل منهما بالآخر، فكان يعرج على شقتهم بعد عودته من المدرسة. لا يخجل د. عصفور من سرد قصته بهذه المطلقة التي تحولت من الحب البريء إلى علاقة من نوع آخر. يقول " لا أدري كيف انزلقت من هذا التعلق الذي ظننته بريئا إلى تعلق من نوع آخر، أبعد ما يكون عن الرومانسية، وكانت النتيجة هي الوقوع المقدور في شراك هذه الساحرة التي فتحت أمامي أبواب الغواية لم أكن أعرفها من قبل. فكنت كل مرة أذهب إليها، بعد أن ترحل أمها في الصباح الباكر جدا، أحلف بيني وبين نفسي أن تكون هي المرة الأخيرة، وأخرج من عندها وأنا أبكي بدمع صامت شعورا بالإثم، وأستحم مرارا كما لو كنت أغسل عن جسدي أوزار الخطيئة، وأبدأ صلاة طويلة أستغفر فيها الله، وأدعو أن أكف عنها، وأقاوم غوايتها. ولكني أصبحت كالمدمن عليها للأسف، وكل مرة كنت أقوم بالفعل التكفيري نفسه، خصوصا بعد أن فتحت أمامي غوايات الجسد التي كانت تشدني بقوة إليها.. فقد دفعتني إلى فضاءات لم أقاوم غوايتها، خصوصا بعد أن اقتطفت الثمرة المحرمة التي أخرجتني من جنة الطهر والبراءة..". ظل ذلك الفتى - الذي كانه د. عصفور – ممزقا بين غواية الجسد وبراءة الروح، وتملك منه هوس النظافة مقرونا بهوس الصلاة، فبدأ بالبحث عن منقذ، ففعل ما فعله بطل رواية "زينب" لهيكل، وذهب إلى شيخ المسجد القريب من منزلهم، الذي أخذ عليه عهدا بعدم معاودة هذا الإثم مرة أخرى وألزمه بحضور صلاة الفجر معه كل يوم. بالمواظبة على الصلاة عاد الفتى إلى القراءة وتوهج رغبة التفوق العلمي مرة أخرى، وتحقق حلمه بأن يصبح طالبا في قسم طه حسين، وكتب على كل كشاكيل المحاضرات عبارة تؤكد أن الشاب إذا لم ينغمس في مغامرات عاطفية فإنه ينبغ في العلم. وفي عطلة عامه الدراسي الثاني بعدما عاد إلى بلدته المحلة، وبينما يمضي قريبا من منزل الحبيبة الأولى، فإذا به يقابلها وجها لوجه مرة أخرى، ولم يملك نفسه من التعبير عن دهشته، لا لأنه رآها فحسب، وإنما لأن وجهها وجسمها تغيرا تماما، وكأنها هبطت من عليائها واكتسبت غير الصورة التي حفظتها ذاكرته وصانها وجدانه. كانت قد امتلأت بالشحم واللحم، وفقد وجهها بسمته الصافية، وحل محلها نوع من الملامح المستسلمة المذعنة لصعاب الحياة اليومية، وتحول الجسد النحيل إلى جسد شحيم وبطن منتفخ، فقد كانت حاملا في شهورها الأخيرة. بادلها السلام وكادت عيناه تقول لها ما هذا الذي فعلته بنفسك أيتها العذبة كالطفولة كالأحلام!! وكأنها أدركت ما كادت تقوله عيناه، فحدثته عن زوجها الموظف البسيط واضطرارها للعمل لمساعدته. وجه الحبيبة الذي تغير، جعل عصفور يرثي في نفسه الحلم الذي انتهى، واقتنع بما كتبه إحسان عبد القدوس في "الوسادة الخالية" من أن الحب الأول وهم تصنعه أحلام الصبا البريئة، لكنها تبقى في نفوسنا ذكرى لزمن جميل مضى ولن يعود، لكن على الرغم من ذلك تبقى صورة الحبيبة الأولى، كالحب الأول، نضرة في الذاكرة، عذبة كالطفولة كالأحلام..!
تحت عنوان "زمن عبد الحليم حافظ"، يقول د. عصفور أن أغاني عبد الحليم تعيده إلى ذكريات شبابه الباكر في الخمسينيات، حين كان نجما واعدا، يقترب من وجدان الشباب إلى أبعد حد، فقد كان النموذج الذي يشعرون إزاءه بالقرب، خصوصا إذا ما قارنوا بينه وبين عبد الوهاب أو فريد الأطرش – كلاهما كانا الأقرب إلى الأجيال السابقة عليهم – فهو وحده الذي رأوا فيه صورتهم وكأنهم يتطلعون على مرآة، شاب نحيل، مرهف المشاعر، معتز بفنه اعتزازه بكرامته، ينتسب إلى الشرائح الفقيرة من الطبقة الوسطى، ويسعى إلى أن يؤسس لنفسه مكانة يفرض بها حضوره الإبداعي على مجتمع لا يأبه به في البداية، ولكنه سرعان ما يلتفت على موهبته. في كل أفلام عبد الحليم حافظ ، كان البطل النحيف يحب فتاة جميلة، كانت هذه الفتاة فقيرة مثله أحيانا، أو تنتسب إلى أسرة ثرية، لكن الفن الذي هو فوق الطبقات؛ يجاوز الطبقات ويقارب بين ابن الطبقة الوسطى الفقيرة، وابنة الطبقات الثرية. يقول عصفور "كم بحثنا عن هذه الحبيبة في وجوه بنات الجيران اللائي لم تكن بينهن من تماثل جمال إيمان أو فاتن حمامة أو لبنى عبد العزيز أو صباح أو مريم فخر الدين أو ماجدة، وميرفت أمين في فترة لاحقة، كان وجه كل واحدة من هؤلاء في اقترانه بعبد الحليم لا نظير له في بنات الجيران اللائي سرعان ما انصرفنا عنهن إلى بنات المدارس المحيطة بمدرستنا الثاوية، وكن يختلسن النظر إلينا ونحن في الطريق إلى المدرسة في الصباح لعلهن يجدن في واحد منا شبيها بعبد الحليم الذي فتنتهن مثلما فتننا". فاتن حمامة بلغ بنا التقمص الوجداني لشخص عبد الحليم مبلغه – يضيف عصفور – فقد أصبحنا نخوض معه كل تجربة حب، ونخوض معه كل تجربة فشل للحب، وما أكثر ما احتضنا "الوسادة الخالية" في نومنا، ولعنّا خيانة الحبيبة التي تركت "صلاح" التلميذ مثلنا لتتزوج من طبيب، فيقرر صلاح الذي أصبح صورة لنا، أن يذاكر ويتفوق وينجح في الحياة ليصبح أنجح من هذا الطبيب. وكم كنت أتصور نفسي مثل "صلاح" في "الوسادة الخالية" لكن بلا "سميحة"، فقد كانت "سميحة" بنت الجيران أقبح من أن أتعلق بها لحسن الحظ ، فتعلقت بفكرة النجاح والتفوق، وظللت أذاكر وأنجح إلى أن أدمنت كوني الأول على أبناء فصلي الدراسي ثم الجامعي. لم يكن مستقبل عصفور قد تحدد تماماً عندما عرض فيلم "الخطايا" الذي غنى فيه عبد الحليم "الناجح يرفع إيده"، وكان حلم التفوق لكي يصبح معيدا في كلية الآداب لم يفارقه، ولذلك كان يتخيل نفسه الأول على كل أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، ويتخيل نفسه تلميذا لطه حسين وجالسا على كرسيه في قسم اللغة العربية، ولم يكن مهما أن يحب فتاة في جمال نادية لطفي – هكذا همس لنفسه – تبريرا لخيبته مع البنات التي كان سببها خجله الشديد، وخوفه من خوض تجارب تبعده عن هدف التفوق. يقول " كنت أحلم أن تلحظني ذات يوم فتاة في جمال مريم فخر الدين أو فاتن حمامة أو نادية لطفي، وتأخذ بيدي مؤمنة بعبقريتي طبعا، ونمضي معا إلى طريق النجاح، ونغني لأنفسنا في النهاية "الناجح يرفع إيده". لكن لم يتحقق من ذلك الحلم البعيد إلا نصفه. نجحت وتفوقت وكنت الأول، وأصبحت معيدا بقسم اللغة العربية الذي ترقيت فيه إلى أن أصبحت رئيسه لسنوات عديدة فجلست على كرسي طه حسين، لكن لا أزال إلى اليوم، ولتسامحني زوجتي، أبحث عن وجه أشبه بوجه مريم فخر الدين الخمسينيات أو أشبه بوجه لبنى عبد العزيز منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولا أزال إلى اليوم أبحث عن الحبيبة المثالية التي تخيلتها فحسب، وحلمت بها نموذجا للطهر والبراءة في مطلع الصبا، وإلى الآن لم أجد هذه الحبيبة التي ظلت ذكرى جميلة تزودني بالرغبة والقدرة على مواصلة الحلم".